تأملات في راوي (مسافات وجه) للقاص اليمني: صالح بحرق

  يمثل الراوي أهم ركن داخل العمل السردي فهو القناة التي يستطيع المتلقي أن يصل من خلالها إلى أعماق النص أو قل هو القناة التي من خلالها تصل الأحداث إلى المتلقي فوجوده مرتبط بماهية العمل القصصي وانتفاؤه يعني خروج العمل إلى شكل آخر من أشكال الكتابة الفنية فلا وجود لقصة أو رواية بدون راو «فهو الذي يجسد المبادئ التي ينطلق منها إطلاق الأحكام التقويمية وهو الذي يخفي أفكار الشخصيات أو يجلوها ويجعلنا بذلك نقاسمه تصوره “للنفسية” وهو الذي يختار الخطاب المباشر أو الخطاب المحكي ويختار التتالي الزمني أو الانقلابات الزمنية فلا وجود لقصة بلا سارد»(1) فهو إذاٍ مرتبط بتشكيل الرؤية السردية داخل النص فهي تتمحور حوله ومن خلاله تتبين نوعيتها وشكلها«فلا رؤية بدون راو ولا راو بدون رؤية»2)) وهو الشاخص لعين القارئ مجسداٍ في النص وحاملاٍ للمواقف والأفكار التي قد تقترب من عالم الكاتب وقد تبتعد عنه فهو إذا تقنية مهمة جداٍ إذا ما أحسن الكاتب تشكيلهاº فإن ذلك سينعكس على بقية مكونات النص الأخرى.
  إن حتمية الترابط هذه بين القص والراوي بوصفه ركناٍ أساسياٍ من أركان السرد قد جعل منه يتشكل بصور مختلفة ويظهر بمظاهر متنوعة تبعاٍ لاختلاف الكتاب من حيث المقدرة الفنية في البناء والتنوع والاختلاف في الاتجاهات الفكرية والفلسفية والفنية فقد عرف نقاد السرد أشكالاٍ مختلفة لهذا الراوي وتبعاٍ لتصنيف ن فريدمان فقد حدده في ثمانية مصطلحات تندرج فيها وجهة النظر من الذاتية إلى الموضوعية كلما اتجهنا نحو الأسفل على الشكل التالي: 1- السارد العارف بكل شيء (الطاغي) 2- السارد العارف بكل شيء (المحايد). 3- الأنا شاهد العيان. 4- أنا البطل. 5- السارد العارف بكل شيء (المتعدد). 6- السارد العارف بكل شيء (الواحد). 7- الشكل الدرامي. 8- الكاميرا.(3) وفي كتابه: الراوي والنص القصصي يذكر الدكتور عبد الرحمن الكردي عدة أشكال للراوي رصدها في ثنائيات متقابلة راو ظاهر وراو غير ظاهر راو ثقة وراو غير موثوق فيه راو عليم منقح وراو عليم محايد راو مشارك وراو غير مشارك راو من الخارج وراو من الداخل راو بضمير المتكلم وراو بضمير الغائب(4) وفي الحقيقة إن أغلب هذه الأشكال متداخلة في بعضها فالراوي العليم غالباٍ ما يكون غير مشارك في الأحداث ويكون بضمير الغائب وهكذا يمكن أن تنتظم بقية التصنيفات فتتحمل سمات متعددة فهذه الأصناف ليست معزولة عن بعضها ولا تمثل أصنافاٍ محددة متمايزة ولكن تعد هذه الثنائيات صالحة لدراسة الراوي في النص القصصي على أن تكون الثنائيات الأخرى رديفة لها وطبيعة الراوي في النص القصصي هي التي تحدد الثنائية الأقرب للدرس مثلما يمكن لأي نص قصصي أن يستخدم أيا من تلك الأشكال المختلفة أو أن ينوع بينها وهنا لا يمكن أن نقول إن هذا الشكل أفضل من ذلك وإنما المقدرة الفنية للمبدع بإمكانها أن تحسن اختيار وتوظيف الشكل الملائم لبقية البنى داخل النص, فما يمنح النص قيمته الفنية هو ذلك التناسق بين راو يحكم الإمساك بالأجزاء الأخرى ويقدم رؤية سردية قادرة على اقتحام عالم المتلقي من أقرب الطرق.
  الراوي العليم:
  يمثل هذا النوع من الرواة أغلب الأشكال تأثيراٍ خاصة في الكتابة الكلاسيكية للقصة فهو «يتخذ لنفسه موقعاٍ سامياٍ فوق مستوى إدراك الشخصيات فيعرف ما تعرفه وملا تعرفه ويرى ما تراه وما لا تراه وهو المتحدث الرسمي باسمها فلا يسمع القارئ إلا صوته ولا يرى الأشياء إلا من خلال وجهة نظره»(5) لذا تصف الدكتورة يمنى العيد هذا النوع من الرواة بأنه راو سيء لأنه يمثل الكاتب الذي فشل في أن يظهر بمظهر عدم المتدخل أو بمظهر الوسيط الذي ينقل أو يروي عن الآخرين (6) فهو إذا راو يمتلك القدرة غير محدودة فلا عائق أمامه يمنعه من مواصلة عجلة سرده فهو إذ ينتقل عبر الأزمنة والأمكنة ويخترق الأفكار والمشاعر والأحاسيس لينقل للقارئ كلما وقع وما سيقع ومن باب تعميم الأحكام يرى أغلب النقاد أن هذا السارد هو الأقل فنية عمن سواه لذلك يرجعونه إلى مرحلة الكلاسيكية في الكتابة السردية وباعتقادي أن هذا التعميم يحمل الكثير من الحيف في حق هذا الراوي الذي يمتلك رصيداٍ فنياٍ كبيراٍ في عالم السرد وتاريخه.
  إن الكتابة السردية إبداعية بالدرجة الأولى فهي من هذا المنحى تركن إلى الجانب الجمالي الروحي في العمل إضافة إلى الجوانب الأخرى ذات المعايير الفنية والعلمية التي ينبغي على المبدع الالتزام بها لتقديم أعمال قادرة على التأثير البارز في المتلقي فالشاعر الذي خبر المقاييس الفنية لإنتاج النص الشعري على أسس موضوعية قد ينتج نصوصاٍ فاقدة لذلك المنحى الجمالي الروحي الذي يصل إلى مناطق الإشباع الخاصة داخل النفس الإنسانية كما أن شاعراٍ آخر ليس له من حظ في تلك المعايير الفنية وينتج نصاٍ ذاتياٍ محضاٍ لكنه يستطيع أن ينفذ إلى أغوار سحيقة في عالم الإنسان الداخلي وينتج الأثر البالغ من حيث لا يدري الشاعر ذاته بفعل هذا التأثير وهكذا فإن رؤية النقاد تضع الرواية أو القصة ذات المنظور المتعدد أو المحايد وتقدم المعيار العقلي أو الفلسفي على الجمالي وتنظر للوظيفة بوصفها المعيار الأول في تصنيف النصº ذلك أن هذا البناء معرض للنقد فليست كل الصياغات السردية ذات المنظور المتعدد تنتج تعددا للأصوات بالضرورة«فقد نجد رواية حديثة تتسم بتعدد وجهات النظر لكنها تظل رغم ذلك رواية ذات صوت واحد»(7) وهذا الصوت وظيفيا يعادل صوت الراوي العليم وبحسب رؤية هؤلاء النقاد تقل فنية العمل الأدبي.
  لقد ظهر في الآونة الأخيرة اتجاه نقدي جديد يدعو إلى تبني موقف السارد العارف بكل شيء فهذه كاثلين تيلتسون قد أعربت عن تضايقها من اختفاء هذا النموذج من الساردين في الروايات الحديثة وقد رأت أن وجوده هو أسلوب أو منهج يتطلب مهارة عظيمة وأداة من أدوات الفن الأكثر رقة فمن بين المكاسب التي يمكن أن يحققها هذا الراوي أنه ينمح صوته لتلك الشخصيات التي لا صوت لها.. ويضيف بعداٍ للسرد الذي يقدم صورة الماضي ..وهو يصل الماضي بالحاضر فيتذكر ويقارن ويتأمل ويصبح الصوت منظوراٍ جديداٍ أو بعداٍ جديداٍ للسرد(8) وهكذا يكون للقص هذه الميزة بحيث يكون  لهذا العنصر تلك القدرة الفنية ولكن مع بقاء الوعي الفني للكاتب ومعرفة ما يصنع فيبقى اختيار نوع الراوي مرهون ببقية المكونات في القصة.
  وقد يطرح البعض أن الراوي العليم بكل شيء من رواسب الحقب الإقطاعية وسيطرة المعرفة المطلقة «ولكن الحقيقة أن هذا الراوي العليم كان موجوداٍ في مجتمعات ديمقراطية وما يزال  كما أن أشكالاٍ حوارية كثيرة يختفي يفها الراوي كانت وما تزال موجودة في مجتمعات تعاني من الديكتاتورية»(9) إن هذا الاعتقاد ممن يرفعون شعار فنية الفن يعد خروجاٍ على هذا المبدأ إذ يقحمون على الفن ما ليس فيه فالسرد عالم خاص وله شروطه الخاصة ولعل هذا العالم يمتلك قوانينه بل وأزمنته الخاصة أيضاٍ علينا فقط أن نحاول التماهي معها لا أن نسقط عليها قوانين واشتراطات ومعايير الواقع الإنساني  المعاش ويمكننا القول إن الراوي العالم بكل شيء جزء أساسي من هذا العالم وواحد ممن يشكلون قوانينه ومعلم بارز من معالمهوعلى هذا يرى واين بوث إن الحسم في أمر هذا الراوي فيه من الصعوبة بمكان«انطلاقاٍ من أن السارد يبقى عارفاٍ بكل شيء حتى في الأحوال التي يعمد فيها إلى الحياد وأبان أن الأعمال المقدمة بواسطة الحدث تطرح كذلك معرفة بكل شيء من قبل المؤلف الذي يلتزم الصمت»(10) كما أن هناك صورة معاكسة بحيث تبدو الصياغة بضمير الغائب تحوير فقط في الصياغة لذا فـ« الأفكار والتأملات وحتى الوصف تعبر عن دخيلة البطل نفسه بحيث يمكن إجراء تعديل في ضمير الغائب (هو) إلى ضمير المتكلم (أنا) دون إحداث تغيير جوهري في وجهة النظر أو في علاقة الراوي بالسرد»(11) وإذا ما أتقن الكاتب تشكيل نصه بهذه الصيغة فإن الأمر يبدوا مقبولاٍ جداٍ في نظر النقاد بغض النظر عن عمق العمل الفني إذ يبدوا مسوغاٍ فيتطابق مع معيار الواقع فتظهر الأحداث وهي مسجلة من منظور شخصية تتحدث عن نفسها أما إن كان الراوي يروي عن غيره ثم يتعمق في طبيعة الأحداث المروية ليصل إلى أبعد مما تراه العين البشرية فهذا سيكسر المعيار وتصبح الريبة مسيطرة على صحة ما يروي وهنا ستكون قراءة العمل السردي على أنه وثيقة تاريخية لا على انه عمل فني محض.
  إن ما يميز العمل التخييل للسرد هو قدرته على الوصول إلى مناطق يتعذر الوصول إليها بغير أدوات ووسائل هذا العالم المثير ولعل الراوي العليم –باشتراطاته الفنية- هو أهم مجسد لهذا السفر الجميل إذ «يتميز بقدرته العالية على استبطان الشخصيات والغوص في دخائلها وأسرارها الدفينة كما انه قادر على كشف الأسباب والعلل والروابط التي تصل بعضها بالبعض الآخر مما يجعل البنية القصصية المصاحبة له بنية تميل إلى العمق والتأثير ويجعل الأسلوب المصاحب له تحليلياٍ يهتم بالبواطن أكثر من اهتمامه بالظواهر»(12) وهذا هو سحر القص ومتعته فكاتب القصة أو الرواية ليس مصوراٍ فوتوغرافياٍ بحيث يعكس ما هو أمام عدسته في زوايا واتجاهات مسافات معينة ولأمكنة محددة كما انه ليس مؤرخاٍ يمحص الأحداث ليقدمها في سرد محايد يعتمد التواتر المنطقي للأحداث وهو ليس محللاٍ نفسياٍ يغوص في أعماق النفس الإنسانية مقدماٍ الشرح والتحليل ويصور الأفكار والمشاعر بل هو مزيج من هذا كله وعليه أن ينتخب من هذه القدرات ما يلائم بناء نصه الفني وما يوائم طبيعة الأحداث المكتوبة وهو بذلك معني بالدرجة الأولى أن يختار الشكل المناسب للراوي الذي يمسك بكل أجزاء النص ويقدم الأحداث للقارئ وهذا هو عالم السرد الفني.
      سحر الراوي في مجموعة (مسافات وجه)
  مسافات وجه هي المجموعة الثانية للقاص المبدع صالح بحرق وقد تشكلت في اثنين وعشرين نصاٍ قصصياٍ جاءت صياغتها لتشكل خصوصية معينة “ترفض الاتجاه التجريدي في تشكيل القصة وفي الآن نفسه تأبى الغرق في بحر التقرير والمباشرة” كما جاء في تقديم الأستاذ طه حسين الحضرمي للمجموعة فبصورة عامة استطاع الكاتب أن يتخذ من الرؤية الموضوعية المتجسدة في الراوي العليم بكل شيء رؤية قادرة على النفاذ إلى عمق المتلقي وتقديم عالم قصصي مليء بالحركة. فالراوي هنا يمتلك قدرات سحرية في اتجاهين: الاتجاه الأول داخل العمل القصصي بحيث تمكنه هذه القدرات من بلوغ مواطن مغلقة على القدرات المحدودة وبذلك يستطيع أن يدخل بسهولة إلى قلب الأحداث ويستشف الأفكار والمشاعر والاتجاه الآخر قدرات سحرية تنطلق خارج لغة النص لتصل إلى عالم المتلقي فتأخذه إلى عمق هذا العالم الخاص والمتشعب في أمكنة وأزمنة مختلفة ويبدو اختيار الكاتب لهذا النوع من الرواة ليمسك بزمام أغلب نصوصه اختياراٍ مبنياٍ على وعي منه منطلقاٍ من مسوغات موضوعية وذاتية ترتبط الأولى بطبيعة الأحداث والشخصيات والمكان وبقية عناصر النص وترتبط الأخرى بالكاتب وما يحيط به من عناصر اجتماعية ونفسية على أنه في كل الأحوال قد أنتج أعمالاٍ قصصية محكمة البناء تؤدي الرسالة الفنية من أيسر الطرق وأجملها بحيث يكون للفن طعمه الخاص وشكله المميز ويمكننا أن نتأمل ملامح هذا الراوي وكيفية تشكله كما أفرزته قراءة المجموعة.
    الراوي / الشخصية الرئيسة في النص:
  تتشكل اغلب النصوص بشخصية واحدة يقدمها الراوي ويغمر بها أجزاء النص فتنثال بقية البنى في إطارها والراوي إذ يقدم تلك الشخصية فإنه يقدمها بصورة ضمير الغائب (هو) مستخدماٍ في الوصف إمكاناته السحرية لعرض عوالم الشخصية الداخلية. ففي نص “عبق وبهاء” (13) تقدم الشخصية وهي توازن بين زمنين ماض جميل عاشته وحاضر مضمخ بذلك الماضي الذي تسلل إلى ذهنه على سبيل الذكرى فالراوي يقف خارج الشخصية لكنه يعلم كل ما في داخله وتفاصل تفكيرها ومشاعرها وهواجسها لكن هذه القدرة بدت لنا محدودة إذ لم نعرف مصير تلك الفتاة في ذلك الحي إلى أين ذهبت وما هو مصيرها, كلما عرفناه هو هواجس وأفكار شخصية النص الرئيسة فقط التي تبنى الراوي وجهة نظرها ولم يخرج عن إطار معرفتها فقد أصبحت هذه المعرفة معرفة فنية لا أكثر مرتبطة بطبيعة الراوي وصيغة ظهوره راوياٍ عن غيره ولن يكون هناك أي اختلاف فيما لو أن صياغة النص اتخذت لها صورة الأنا.
  وإذا ما تجلت في نص أكثر من شخصية فإن معرفة الراوي ترتبط فقط بالشخصية الرئيسة ففي نص: “هديل متقطع”(14) يتعمق الراوي إلى عالم الشخصية الرئيسة التي تظهر في صورة ضمير الغائب (هو) والشخصية الثانية/المرأة في صورة ضمير الغائب (هي) لم يستطع الراوي سوى أن يرصد حركاتها ومظهرها الخارجي فقط «أخذ يعيش لحظات توهم ويستعد شيئاٍ فشيئاٍ لمغادرة المكان وهو يتخلى عن مقعدة لشخص آخر أطل على موقعها في الصفوف الأولى متضامنة مع الضوء الذي يسيل عليها من سراج في طرف المسرح وخيل إليه أنها تدعوه بطريقتها فاهتز جسده اهتزازاٍ عنيفاٍ وسقطت من يديه أوراقاٍ وكتباٍ ودنا من لحظة مكاشفة خطيرة.. مشى باتجاه باب الصالة مرتجفاٍ… خرج تلقاه مساء المكلا الدافئ»(15) فتبني الراوي لمنظور الشخصية الرئيسة مكنه من تقديم تفكيرها ومشاعرها الداخلية ويبقى الغموض على الشخصية الأخرى داخل النص تبعاٍ لهذا المنظور الذي لا يستطيع أن يدلف إلى أعماق المرأة ويبقى القارئ على نفس المسافة مع الشخصية الرئيسة والراوي.
  وفي نص “أنداء ظامئة”(16) تبرز شخصية بخيتة شخصية رئيسة داخل النص مع ظهور شخصيات أخرى: فطوم نساء رجال أولاد بو سالم بو عوض. لكن الراوي بقي عند حدود معرفة بخيتة حيث يتعمق إلى أغوار نفسها مقدماٍ شيئاٍ من هواجسها وأفكارها« وتذكرت بوعوض زوجها الغائب في أرض (السواحل) كل رجال البلدة عادوا إلى أرضهم إلا هو ظل هناك وراء البحر منذ أكثر من عشرين عاماٍ نسي خلالها أسرته وأولاده ابتلعته تلك الأرض البعيدة وكثرت حوله الشائعات ووصل خبر نعيه أكثر من مرة…إلا أنه مازال حياٍ يعيش في منطقة نائية من تلك البلاد وتساءلت بخيتة وهي تغسل كمبل الزوار:”هل وجد بو عوض نهراٍ دائماٍ هناك يغسل عنده أحزانه¿…” »(17) لقد استغل الراوي شخصية بخيتة ونفذ إلى أعماقها ليدخل من خلالها إلى عالم المرأة الداخلي ليسجل حالات خاصة لهذه الشخصية ويناقش قضايا اجتماعية لا يمكن للراوي بلوغها إلا من خلال هذا المنظور فبرغم وجود أكبر قدر من الشخصيات في النص إلا أن منظور بخيتة هو السائد على ما سواها وربما يتواءم مع بنية النص وحدثه الرئيس الذي يحمل فكرة تبدو جانبية لكنها أساسية هل كان الراوي في هذا المكان (السيل) وفي هذا الحدث (وجود النساء والرجال والأولاد يتأملون السيل ويغسلون أثاثهم)¿ هل كان على استطاعة أن يقحم هذه الفكرة ذات البعد الاجتماعي المتمثلة في مأساة الهجرة دون استخدام هذه التقنية¿ لقد كان لسحر الراوي وتماهيه مع منظور بخيتة الأثر البالغ في تشكيل رؤية النص الكلية وإعطائها بعداٍ جمالياٍ مع الحفاظ على الترابط الفني لأجزاء النص.
  الراوي/ المكان:  
  وقد يكون المكان جزءاٍ من عملية اختيار شكل الراوي ففي نص “طقوس اللقاء الأخير”(18) يسيطر منظور شخصية واحدة على كل أجزاء النص موصوفة من وجهة نظر راو استطاع أن يتوحد معها في إطار مكاني محدد كانت تلك الشخصية مفتاحاٍ للدخول إلى قلب ذلك المكان« وأخذ يعد العدة للذهاب إليها في منزلها الطيني الذي يشرف على صخور البحر.. لم يكن يحمل لها أيما شيء من الهدايا أكثر مما كان يحمل توتره الذي كان يتضاعف عليه يائساٍ لتغيير خط رحلته إلى جهة أخرى غير معروفة… بيد أنه والحال هذه لم يكن بإمكانه إلا أن يكبح جماح هذا الصوت المهزوم ويستأنف الاستماع إلى أنشودته الهادرة فيه والتي تعالت لتصل إلى صميم الأشياء من حواليه فتحيلها إلى دوائر فرائحية ملتهبة»(19) إن المكان هنا ذو طابع خاص بالنسبة لهذه الشخصية فله حضور روحي قوي في نفسها إذ يتشكل مرتبطاٍ بتلك الأنثى التي أبى عليها الراوي بعيدة متوارية خلف هذا المكان المتجلي في مخيلة الشخصيةº لذا فالراوي قد أسقط على المكان أفعالاٍ مستمدة من عالم الشخصية وخيالها «أخذت مدينة (الشرج) تتسع له على نحو مذهل وتتفتح مداخل الحارات الشعبية العابقة بالحناء وأصوات النرجيلة وكاسات الشاي فيما أخذت النوافذ الخشبية تبتسم لرائحة معروفة طالما انتعشت في هذه الحواري التي عرفت دفئه لأول مرة .. وطفقت الأمواج القريبة من سوق (الحراج) تضطرب وقد لامستها أشجانه الفواره»(20) فالمكان هنا شخصية تشكلت هكذا ليس بإرادة الراوي وحده وإنما بفعل أحاسيس تلك الشخصية وشعورها الدافق تجاه هذا المكان.
1 – الشعرية تزفيطان طودوروف ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة الطبعة الأولى دار توبقال للنشر الدار البيضاء- المغرب 1987 ص:56.
2 – المتخيل السردي ص: 62.
3 – ينظر: تشكيل المكونات الروائية ص: 118.
4 – ينظر: الراوي والنص القصصي د. عبد الرحيم الكردي ص: 79 وما بعدها.
5 – المرجع السابق ص: 101.
6 – ينظر:  تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي د. يمنى العيد ص: 92.
7 – الصوت الآخرد. فاضل ثامر…. ص: 66.
8 –  ينظر: وجهة النظر في رواية الأصوات العربية ص: 24.
9 – الراوي والنص القصصي ص: 101.
10 – تشكيل المكونات الروائية ص: 120
11 – الصوت الآخر ص: 189.
12 – الراوي والنص القصصي ص: 108.
13 – مسافات وجه صالح بحرقالطبعة الأولى دار حضرموت للدراسات والنشرحضرموت- اليمن2010 ص: 17 .
14 -المصدر نفسه ص: 33.
15 – المصدر نفسه ص: 34.
16 -المصدر نفسه ص: 77.
17 – المصدر نفسه ص:79.
18 – المصدر نفسه ص:37.
19 – المصدر نفسه ص:38.
20 – المصدر نفسه ص:نفسها.

قد يعجبك ايضا