نفوس منهكة 

محررو الموقع


محررو الموقع

د/ رؤوفة حسنمقال العدد الماضي عن الإقصاء غير المتعمد أثار كثيرا من الشجن لدى نساء ورجال من القراء فكتبوا لي ردود أفعالهم حتى أثاروا فضولي.
فبسبب أنني نادرا ما أتلقى رد فعل على بريدي الالكتروني الذي يذيل مقالي في هذه الصفحة دائما فإني كنت قد ظننت أن الناس قد كفوا عن القراءة.
وعندما التقي أحدهم ويقول لي انه يقرأ لي بانتظام أحاول أن أرسم على وجهي علامة التصديق كي لا تبدر من نظرتي لمعة شك.
أقول لنفسي دائما معزية أن الناس قد انهكتهم هموم الحياة وصارت كتابات الإثارة والسخط هي الوحيدة التي ينفسون عبرها عن بعض من أبخرة الانفعال.
ومقالي عادة لا يتبع قوانين الإثارة ولا يحاول تغليب الحالة الراهنة على الماضي والمستقبل. فالزمن عندي متواصل متفاعل يستمد من الماضي قوة المستقبل ومن تجارب الآخرين عبرة الخبرة. لهذا فاللحظة المثيرة محكومة بالزوال لحظة استهلاكها وحبيسة تطلعات أقوى كلما زادت حدتها. فإن يتفاعل القراء مع مقال فذلك يعني أني نكأت جرحا أكثر عمقا مما ظننت.
الانهاك ربما هو الذي لم يحدوا بهم لكثير من الكتابة والتعليقات لكن لمسي لطرف جبل الثلج المنغمس في البحر جعلني ادرك أن الأمر بحاجة إلى ما هو أكثر من مقال. ربما إلى نداء يقظة للناس عندما تغطي أعينهم قوة اللحظة التي يعيشونها فيقصون بعضهم البعض ويتسببون في الأذى الذي لو أصابهم لغضبوا فإن أصابوا به غيرهم قبلوا.
 لكني ومقالي وكل الصحف لا نملك هذه القدرة على بث هذا النداء أو جعل أحدا يستيقظ من انهماكه في زيادة الإنهاك لغيره.
الكابوس يقترب من الختام: في بيتنا يعيش ممتحن في الثانوية العامة يتحرك بين المعلومات المطلوبة كمن يمضي في خطوات الرمضاء وشقاء النهايات التعيسة. أحلامه الآن أن ينتهي الامتحان فينام نوما غير معبأ بالكوابيس والخوف. أحلامه الآن بحلول اللحظة التي يسلم فيها أوراق آخر امتحان بعد أن خربشها بما في ذاكرته التي يتم امتحانها ويعود إلى سريره. حلم متواضع ناتج عن عناء طال ثلاث سنوات تدعى الثانوية.
كانت الثانوية بالنسبة لي وللجيل الذي عاصرني فترة نمو وتألق وإثبات ذات وتحقق. كانت فترة شاركنا فيها في أمور بلادنا برغبتنا المطلقة وكانت الدراسة والتحصيل تدريب على التفكير وحالة نقاش إبداعي بين الطلاب وأساتذتهم.
كان عددنا قليل من البنات في مدرسة تعج بالأولاد هي ثانوية عبدالناصر انتقلنا بعدها لاستكمال السنة الثالثة في مدرسة البنات “سالم الصباح”. ذاكرنا وسهرنا وفقط القرآن والأحاديث وقصائد الشعر حفظنا أما البقية فقد حاولنا الاستيعاب والفهم والتحليل بحيث صارت معلومات تشكل جزءا من بناء الذات لصيقة بالفكر والذهن لا يمثل الامتحان لها سوى تجربة.
الآن هي مرحلة إنهاك وعذاب وذاكرة مطلوب منها حفظ كل شيء ونظام تعليم كلما قلنا ستتحسن جودته جاءت اختبارات الثانوية لتجعلنا مع أبنائنا والبنات ممزقي المشاعر ومنهكي الأرواح والنفوس. الأكسجين واستنشاق القلق: عاد من الخارج بعد أيام قليلة أمضاها هناك شيء ما في وجهه تغير. صارت له ابتسامة أكثر اتساعا وصارت بشرة وجهه أقل جفافا. كأنه أكل وشبع وانعكس نوع الغذاء على ملامحه أو كأنه نام نوما كافيا فاختفت الهالات من تحت عينيه أو كأنه مسح توتر الناس من حوله هنا وعاش هناك دون ان ينهمك في هم أهل تلك البلاد ودون أن يورط روحه بحالة تذكر.
كيف يمكن أن نمر بهذه الحال هنا¿ قلة الأكسجين ربما تكون حالة صنعائية وجبلية وبقية البلاد تمتلئ بالهواء النقي.
 لكن التوتر والقلق هو السائد والانهماك في ثقافة الندب والتوقف عن المبادرات يجعل الغذاء غير مهضوم في الجسم والسعادة لا تجد مسامات مفتوحة كي تتخلل القلوب. حلم الشاب اليانع بعد الامتحان ان ينام لكن أحلاما أخرى ستنشأ عندما يكتشف ان طريق المعاناة الحقيقية قد بدأت بهذه الشهادة.
وحلم المنهكين بزوال التعب ليس له مكان. فقط من منا يحاول ان يخفف العبء عن غيره وان يكتفي بما يعانيه بدلا من زيادة مصاعب الآخرين. فموسم ما بعد الامتحانات هو موسم الأعراس والبذخ للبعض والقروض لتزويج الأبناء عند آخرين.
وموسم الصيف في مدينة لم يعد يشعر أغنياؤها بالآم فقرائها هو مزيد من الانهاك. الصورة الوحيدة التي تخطر في بالي كلما فكرت في حالنا كيمنيين هي صورة ذلك الرجل المرهق كبير السن الذي يحمل على ظهره شوالة تكاد تجعل جسمه يسير مكسورا مع لمحة الانكسار في عيونه وبجواره امرأة تحمل فوق رأسها تنكة ماء وفوق ظهرها تربط طفلها لتوازن كيسين من البلاستيك مليئين في يديها.
نفوس منهكة حتى لو ظن أغنياؤنا أن صورتهم ليست منعكسة على حال هؤلاء فإنهم مخطئون فأي م

قد يعجبك ايضا