آلو آلو من ذا الذي تكلم 

الدكتورة رؤوفة حسن


الدكتورة/ رؤوفة حسن

د/ رؤوفة حسن
عندما انتشر التليفون في منازل الأغنياء والمتنفذين في مدينة صنعاء في مطلع الستينيات بعد الثورة ارتبطت بالهاتف كلمات وسلوكيات هي في الأصل من طبيعة الطبقة العليا في المجتمع. ودخلت كلمة آلو وهي تعني أهلا أو مرحبا في قاموس السلوك الهاتفي للأشخاص الذين يتحدثون بهذا الهاتف.
وصار طبيعيا أن تبدأ المحادثة بكلمات المجاملة والتحية ثم يقال الهدف من المكالمة وقبل الختام يتم التوديع والسلام. وكان مستنكرا ولا يزال أن ينهي شخص المكالمة بدون تحية ختام حيث سيعتبر ذلك إقفالا للهاتف في وجه المتحدث يشبه إقفال باب المنزل في وجه ضيف وهو ما لاتقبله آداب السلوك الحضرية.
خلال هذه الفترة انتشرت مجموعة من الأغاني تؤصل وتعمق وجود الهاتف في حياة الناس من بينها أغنية الفنان أحمد السنيدار “آلو آلو من ذا الذي تكلم”. وزادت مساحة اتساع الاستخدام للهاتف بحيث كان ولا يزال نادرا وشبه مستحيل ان يكون هناك منزل في المدن خارج العشوائيات ليس فيه جهاز هاتف.
وضحكنا كثيرا على نكتة عادل إمام وهو يتحدث عن قيامه بدفع الفاتورة رغم عدم وجود خط أو عدة للهاتف في شقته. واليوم تطورت مع تطور التكنولوجيا قدرة الخطوط الهاتفية الفردية عبر الجهاز المحمول ليصبح عددا لا يحصى من الناس يملكون خطا وجهازا يتحدثون فيه مع بعضهم لضرورة أو غير ضرورة.
وبينما انتشر الهاتف وثقافة الحديث وآدابه عبره التي لم تتغير كثيرا انتشرت وسائل المواصلات بما في ذلك الدراجات العادية والنارية والسيارات والحافلات والشاحنات ووسائل المواصلات المختلفة كملكية خاصة أو عامة. وهنا حدثت مشكلة ثقافية مختلفة.
ثقافة المنتج و ثقافة المستهلك:
لم يكن الهاتف منتجا عربيا ولا يمنيا لكنه تجذر في حياة الناس اليومية وسمي “تليفون” وبين الحريصين على اللغة يسمى “هاتف”. لكن كلمة تليفون وجدت لها موقعا في قاموس لغة الناس حتى صار معتادا وجزءا من الثقافة المجتمعية العامة.
بينما تم تعريب بعض الكلمات المرتبطة بوسائل المواصلات الأخرى وهي جزء سلوكي من حياة الناس لكنها أضعف المنتجات المستوردة تكاملا في الثقافة وآداب السلوك. يرجع المنظرين في قضايا ثقافة التنمية في العالم العربي الأمر إلى المستخدمين الأوائل لهذه الوسائل. فالسيارة يمتلكها النخبة من الأغنياء وذوو الثقافة المجتمعية الراقية لكنهم يوظفون لقيادتها أشخاص من الفقراء أو القادمين الى المدينة من الريف الحاملين معهم ثقافة المجتمع الدنيا. فيصبح طبيعيا ان تكون سلوكياتهم هي التي ترسخ ثقافة حركة هذه الوسائل في الشوارع والطرقات وهي التي تغيب عنها القدرة على استيعاب قوانين المرور أو فهم دوافعها.
ففي الوقت الذي قاد الأغنياء المنتجين للسيارات بأنفسهم هذه السيارات ومن أجلها صنعوا القوانين وطريقة سفلتة الطرق لحمايتها وإطالة عمر استخدامها والشكل الذي يفضل فيه تجنب سلبياتها واندفاعات محركها أو انتهاء فاعلية كوابحها تم نقل هذه القوانين دون التوعية بها بما يكفي لسائقيها فحددوا هم الطريقة التي يرغبون التعامل بها حسب معرفتهم وفهمهم للصحيح من سلوكياتهم.
وهكذا صارت ثقافة هؤلاء هي السائدة مجتمعيا يقفون حيث يعن لهم ويقفلون الشارع لتبادل الحديث مع مماثليهم ويمتثلون لشرطة المرور بدافع الخوف فقط عند وجودهم مع الاستعداد للتحايل عليهم ودفع الرشاوي لهم إذا لزم الحال. ثم الاحتكام عند الحوادث لاحكام قبلية يتحمل فيها الضحية جزءا من التكلفة وكأن القانون غائب ولا أحد معني بالسؤال عن اخباره.
ليست هناك أغاني تمجد أو ترفض هذا السلوك أو ذاك. وقليلة هي حالة التوجه إلى المدراس لتعميق فهم العلاقات وترسيخ ثقافة السلوك السوي بهذه الوسائل في نفوس الأجيال.
الموت المجاني والإعاقة المريعة:
كان الزميل نبيل الصوفي قد كتب مقالا حزينا عن هؤلاء الذين يموتون في الطرقات بأعداد مهولة خاصة بعد حادثة موت 44 شخصا من عائلتين في حادثتين متفرقتين أحدهما في الشمال والأخرى في الشرق من اليمن. وغير مقال حزنه لم نسمع عن اعلان حداد رسمي في وزارة الأشغال المعنية بالطرقات ولا في وزارة الداخلية المعنية بالمرور ولا في وزارة الشؤون الاجتماعية المعنية بأهالي الموتى الفقراء والمعاقين ولا في وزارة الصحة المعنية بإسعاف المصابين ولا في وزارة الأوقاف المعنية بالخطباء وأئمة المساجد الذين سيحضرون صلاة الجنائز.
بل إن التلفزيون والإذاعة لم تجد في ذلك فرصة كي تحشد الرأي العام لمواجهة هذه القضية وكبار مشائخ البلاد لم يدعوا لمظاهرة مليونية لحماية حياة الناس وإصلاح الطرقات وتطبيق قوانين المرور. الثقافة الدنيا للشارع تعكس نفسها على حياتنا ومثقفينا ومشائخنا وساستنا منهمكين في هموم فقدانهم لطريقة يتحاورون فيها في ما بينهم لتبادل استلام القوة والسلطة.
raufah@hotmail.com

قد يعجبك ايضا