25 يناير 2012م قلق.. خوف.. وأمل 


رحلتها من صنعاء إلى القاهرة بعد تأجيل متكرر وانتظار طويل في المطار وبعد رحلة طويلة نسبيا تجاوزت ثلاث ساعات. لا أدري هل هي بسبب الرياح القوية المعاكسة لاتجاه الطيران كما قال قائد الطائرة أم بسبب ما تنوء به حمولة خطوط الطيران من مشكلات إدارية وفساد وازمة وقود أثقلت على جناحي الطائرة وجعلتها تطير على ذلك النحو المتثاقل والبطيء.
ربما كان القلق من السفر إلى مصر هو سبب هذا الشعور بالاختلاف إذ طالما كانت الرحلة إلى مصر تمتلئ باللهفة والشوق والحنين فأنا أحرص دائما على الشرب من ماء النيل. رغم كل التحذيرات والمخاوف من التلوث – من يشرب ماء النيل يرجع إليه ثانية – هكذا يقول المثل المصري ولهذا أترك المياه المعدنية مفضلا ماء النيل. هذا الاختيار يحمل حبا لمصر. يقول المؤرخ اليوناني هيرودوت: مصر هبة النيل. لم يقل هذا اليوناني الذي تكلم في فجر التاريخ الإنساني أن أوغندا أو أثيويبا مثلا هما هبة النيل. لم يكن آنذاك ثمة ذكر لبلدان أخرى على حوض وادي النيل هكذا بدت العلاقة بين الجغرافيا والتاريخ ذات حين من الدهر المصريون الفراعنة يملأون الأرض من منابع النيل حتى مصبه في البحر آلهتهم ومعابدهم تتوزع وتنتشر على طول النهر وعرضه أبو سنبل الكرنك بحيرة الآلهة وادي الملوك وغيرها من الآثار والمعالم التي كتبت التاريخ وعبرت عن شخصية مصر على ضفاف النهر الخالد طوال آلاف السنين.
أنتابني قلق افتراضي كما يقال ماذا لو وصلت إلى مصر ولم أجد نهر النيل كان من أهم الأخبار التي سبقت عام الثورة تلك الأخبار المروعة القادمة من دول حوض النيل. كانت تلك الدول تتقاسم مياه النيل وكان مندوبوها يتحدثون عن حقهم في إقامة السدود والحدود في طريق النهر فلا يصل منه في نهاية المسار سوى بعض السواقي الصغيرة التي لا تروي أرضا ولا تستطيع أن تهز تروس السد العالي ومحركاته التي تولد الكهرباء وتنظم اندفاع الماء في بحيرة ناصر. السد العالي مثال عظيم آخر على الشخصية المصرية وعبقرية المكان السد العالي ليس حاجزا للماء وحسب ولكنه حاجز للتاريخ أو مكان لتحوله من مسار إلى آخر بين ماءين انحبس تاريخ الاستعمار وانطلق تاريخ التحرر الوطني. كان ذلك في زمن الزعيم المصري جمال عبدالناصر الذي أعلن تأميم قناة السويس وهو أول قرار تاريخي من هذا النوع يعلن بداية عصر جديد في تاريخ العالم وعصر التحرر من الاستعمار وفي الوقت نفسه كان عبدالناصر يقوم ببناء السد العالي في أسوان. مصر بدون النيل هل يعقل¿ هذا كان خطاب دفاع النظام المصري المخلوع متهافتا وضعيفا لقد ظهرت مصر في الدرك الأسفل من لحظات العجز حين وقفت متلعثمة وهي تدافع عن حقها في النيل. الحق يحتاج إلى القوة كما يقال.
ليس قوة السلاح بل قوة الفكر والمنطق قوة الحضور التاريخي والمشاركة في شئون القارة الأفريقية التي كان النظام المصري قد عزل نفسه عنها منذ محاولة اغتيال رئيسه في أديس أبابا.
هل خرجنا من موضوع الثورة والربيع العربي الذي يتحرك على كوبري قصر النيل ويتجه إلى ميدان التحرير¿.. هذا النهر البشري الهادر يسير بموازاة النيل لا يقف على الكورنيش متأملا النهر بل يرفع رايات مصر وأعلام الحرية والثورة ليعلن حضورا جديدا لمصر وتدخل مصر التاريخ بعد أن شهدت سلاسل متلاحقة من الخروح بسبب النظام الحاكم. خرجت مصر من استضافة كأس العالم قبل عدة سنوات وأخذ ملفها للمنافسة الدرجة الصفر إذ لا يوجد شيء في بنيتها التحتية لاستضافة شباب العالم في هذا المهرجان الكروي الذي فازت باستضافته دولة جنوب أفريقيا التي لم تنقض على ولادتها سوى سنوات قليلة. خرجت مصر كذلك من منافسة اليونسكو لأن مرشحها لمنصب المدير العام كان يحمل في جنباته الثقافية مساوئ النظام الحاكم من الاستبداد السياسي والقمع الثقافي وغياب حرية الفكر والتعبير وغيرها..
خرجت مصر من قيادة الأمة العربية في كل المجالات بعد أن كانت تملأ الأرض العربية بالثورة وتعمرها بالفكر والإبداع.
خرجت مصر من ساحة الصراع العربي الإسرائيلي لتنكفئ على أرضها وحدودها بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد. والأمثلة كثيرة على الخروج ولكن هل كان الحديث عن النيل خارج النص أو خارج الثورة على الاستبداد والفساد والظلم.
إن الكلام على النيل هو في جوهره كلام في التاريخ والسياسة في طبيعة المجتمعات المائية والاستبداد الشرقي اللذين تحدث عنهما كارل نيتنو غل في القرن الثامن عشر حين درس مجتمعات مصر والعراق وفارس والهند وقد أخذ عنه كارل ماركس وطوره في كتاباته عن نمط الإنتاج الآسيوي المفهوم البديل للطيقة الاجتماعية في التاريخ الأوروبي في هذا المفهوم تبدو الدولة الحاكمة المستبدة هي المحرك لتاريخ هذه المجتمعات نحن إذا أمام دولة مستبدة حاكمة في مصر تستمد قوتها من طبيعة المجتمع المائي الذي يشكله النيل وتتحكم في مصائر البشر الذين يعيشون على ضفافه هكذا شرعت الدولة للاستبداد والفساد والمركزية المفرطة في الحكم ودفعت إلى اله

قد يعجبك ايضا