الإسلام والحرية

بقلم: عبد الإله إصباح


بقلم: عبد الإله إصباح –
تطرح العلاقة بين الإسلام والحرية العديد من الإشكاليات المرتبطة بالإسلام كمفهوم وكمجال حضاري وثقافي اتسم بالتعدد والتنوع التاريخي والجغرافي مما جعله إسلاما متعددا ومتنوعا تبعا للحظات التاريخية التي شكلت محطات فاصلة في صيرورته وتطوره. فإسلام زمن النبوة يختلف عن إسلام الخلفاء الراشدين وهذا الأخير يختلف عن إسلام الأمويين وإسلام الأندلس يختلف عن إسلام عصر الانحطاط والإسلام المرتبط ببداية النهضة العربية يختلف عن الإسلام الوهابي اختلاف محمد عبده وقاسم أمين وخير الدين التونسي عن محمد بن عبد الوهاب. وعبر هذه التنوعات والاختلافات تنوع موقف الإسلام من الحرية بين قابل لها في حدود يختلف مدى اتساعها بين لحظة وأخرى وبين رافض لها ومتبرم منها إلى حدود الانغلاق والتعصب. ليس صحيحا إذن مقاربة إشكالية الإسلام والحرية من زاوية نظر ذات بعد واحد إما تعترف للإسلام بقدر من الانفتاح على الحرية أو تنفي هذا الانفتاح وتجعله معاديا لها تماما.

هذا التمييز بين لحظات الإسلام في موقفه من الحرية يقتضي تمييزا آخر ينتبه إلى الاختلافات بين إسلام النص وإسلام الواقع ويستحضر التفاعل بينهما بحيث يتم الوقوف عند أثر إسلام النص في الواقع وأثر الواقع في إسلام النص. علما بأن إسلام الواقع هو إسلام ينطلق من إسلام النص ولكنه يختلف عنه بالآثار التي تطبعها عليه عوامل البيئة القارئة له والتي تختلف من واقع إلى آخر. فالبيئة المستقبلة للنص والقارئة له هي التي تتحكم في دلالات النص المرتبطة بالحرية ومدى اتساع هذه الدلالة أو ضيقها بمجالات الحرية وتعيين حدودها وآفاقها. ولعل أبرز مثال يظهر دور البيئة المستقبلة في تحديد المعنى هو موقف الإسلام من الرق كاستعباد مطلق للفرد يسلبه حريته وكيانه ويجعله في ملكية الآخر. نشأ الإسلام في بيئة كانت فيها هذه الظاهرة راسخة ومتجذرة في الواقع الاجتماعي لتلك الحقبة التاريخية وإذا كان قد حبذ تحرير الأفراد الواقعين في أسر هذه الظاهرة كوسيلة لكسب مزيد من الثواب والتكفير عن الذنوب فإنه في الواقع لم يتخذ موقفا صريحا لتحريمها ونبذها. وليس في النص آية واحدة تدعو صراحة لهذا التحريم والنبذ إلا أن هذا لم يكن ليمنع تبلور قراءة تذهب في هذا الاتجاه من خلال الحرص على تكامل وانسجام نسقية النص الذي تدعو بعض آياته إلى تكريم الإنسان واحترام آدميته. إلا أن البيئة المستقبلة للنص لم تكن مهيأة للسماح بتبلور مثل هذه القراءة ومع التطور التاريخي والاجتماعي أخذت ظاهرة الرق تندثر تدريجيا حتى اختفت تماما من كل المجتمعات العربية و الإسلامية ولم يعد للآيات المتعلقة بهذا الموضوع من معنى سوى ذلك المرتبط بدلالتها التاريخية. التطور التاريخي إذن فرض معنى معينا ينبذ هذه الظاهرة ويتجاوزها كلي وتطورت معه بالتالي البيئة المستقبلة هي الأخرى وفرضت الدلالة والمعنى الملائم لهذا التطور. وهذا يوضح من جهة أخرى العلاقة التفاعلية التي أشرنا إليها بين إسلام النص وإسلام الواقع كمعطى يقيد أو يوسع من معاني النص ودلالاته ذات الصلة بمجال الحرية. فالقراءة إذن مرتبطة بهذا المعطى الذي تتدخل فيه عوامل متعددة هي ما يشكل ميزان القوى القائم في لحظة تاريخية معينة. ومع ذلك فهذه العوامل لم يكن بوسعها تحديد المدى المسموح به للحرية إلا بالارتكاز المرجعي الدائم إلى النص لإضفاء المشروعية على كل قراءة سواء كانت في صالح الحرية أو ضدها.

إسلام النص إذن يشكل مرجعية أساسية في مقاربة إشكال الإسلام والحرية إلا أن قراءة هذا النص تصطدم بحدود للقراءة والتأويل مرتبطة كما قلنا بميزان للقوى هو في الغالب لصالح قوى اجتماعية وسياسية لها مصلحة في تضييق مجال الحرية. وترتكز في هذا التضييق على تراث حافل في هذا المجال أنتج في سياق انتصار قوى محافظة ومناهضة لاستعمال العقل في تلقي النص إذ استطاعت في سياق هذا الانتصار فرض قراءتها الخاصة واستبعاد بل واضطهاد كل قراءة مختلفة عنها ومغايرة لها. ولقد تكرس هذا الانتصار منذ الانقلاب السني وترسخ الهيمنة الإديولوجية للأشاعرة. أصبحت القوى المحافظة إذن تترصد كل قراءة تروم اختراق الحدود المرسومة في فهم النص وتلقيه وأضحت كل قراءة محكومة بمجموعة من الأطر والآليات التي تحدد آفاقا للمعنى لا ينبغي تجاوزها وكل من اقترب من حاجز الاختراق يجد نفسه معرضا لشتى أنواع الاضطهاد والنبذ بل ولخطر التصفية الجسدية. قد يسمح النص بتأويل ينتصر للحرية في أبعد مداها إلا أن ذلك التأويل يكون موضوع هجوم شرس بحجة الخروج عن النص وعدم فهم معانيه ومقاصده بما أن للفهم حدود مرسومة محتكرة من طرف من يحتكر أيضا السلطة والثروة.

وبما أن القراءة الرسمية للنص ارتبطت دوما بسلطة قوى منتصرة في صراعها ضد قوى أخرى فإن كل قراءة للنص هي بالضرورة شأن سياسي يصبح من اختصاص القوى الممسكة بالسلطة

قد يعجبك ايضا