المنهج العلمي لتحقيق المخطوطات “الحلقة الثانية”

الدكتورة / أمة الغفور عبدالرحمن الامير*

في الحلقة الأولى من خطوات المنهج العلمي لتحقيق المخطوطات تطرقنا إلى أصول النصوص وأوردنا أنواع النصوص ومنازل النسخ ودرجاته وكذا طريقة جمع الأصول وذكرنا أهمية فحص النسخ وكيفيته واليوم سنتناول جانبا آخر من خطوات المنهج العلمي مواصلين هذا الموضوع الهام :
ثانياً: التحقيق:
الكتاب المحقق هو الذي صح عنوانه واسم مؤلفه، ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب إلى الصورة التي تركها مؤلفه.
لذا فالجهود التي تبذل في كل مخطوطة يجب أن تتناول البحث في الزوايا التالية(تحقيق عنوان الكتاب – تحقيق اسم المؤلف – تحقيق نسبة الكتاب إلى مؤلفه.تحقيق متن الكتاب، حتى يظهر بقدر الإمكان مقارباً لنص مؤلفه).
تحقيق العنوان:
بعض المخطوطات تكون خالية من العنوان، أما لفقد الورقة الأولى منها، أو انطماس العنوان، وأحياناً يثبت على النسخة عنوان واضح، لكنه يخالف الواقع، إما تزييفاً، أو لجهل قارئ ما وقعت إليه نسخة مجردة من عنوانها فأثبت ما اعتقده عنواناً لها.
فما هو دور المحقق في هذه الحالة ؟
‌على المحقق الرجوع إلى كتب المؤلفات، أو كتب التراجم، أو أن يجد نصوصاً من لكتاب مضمنة في كتاب آخر، فيكون لديه الخيط الأول للوصول إلى عنوان الكتاب.
‌كما ان على المحقق ادراك ان الانطماس الجزئي لعنوان الكتاب يساعد كثيراً على التحقق من العنوان الكامل، متى وضح معه في النسخة اسم المؤلف، فإن تحقيقه يعتمد على معرفة مصنفات المؤلف، وموضوع كل منها.
‌وعليه أن يعرف أن التزييف المتعمد يكون بمحو العنوان الأصيل للكتاب، وإثبات عنوان لكتاب آخر ليلقى رواجاً، أو لغرض آخر، وقد ينجح المزيف نجاحاً نسبياً بأن يقارب ما بين خطه ومداده وخط الأصل ومداده، أما التزييف غير المتعمد فهو يسبب الجهل، فيضع أحد الكتاب في ورقة العنوان أو في صدر الكتاب عنواناً يخيل إليه أنه هو العنوان الأصيل.
تحقيق اسم المؤلف:
لا بد من إجراء تحقيق علمي يطمئن معه الباحث إلى أن الكتاب صادق النسبة إلى مؤلفه.
وأحياناً تفقد النسخة الأصل اسم المؤلف، فمن العنوان يمكن أن نهتدي إلى الاسم بمراجعة فهارس المكتبات أو كتب المؤلفات، على سبيل المثال معجم الأدباء لياقوت الحموي، ومعجم المؤلفين…إلخ.
وما سبق من تزييف العنوان يقال أيضاً في تزييف أسماء المؤلفين.
تحقيق نسبة الكتاب لمؤلفه:
ليس بالأمر الهين أن نؤمن بصحة أي كتاب كان إلى مؤلفه لاسيما الكُتب الخاملة، التي ليست لها شهرة، فيجب العودة أيضاً إلى فهارس المكتبات، وكتب المؤلفات والتراجم لنتأكد أن هذا الكتاب صحيح الانتساب.
وتعد الاعتبارات التاريخية من أقوى المقاييس في تصحيح نسبة الكتاب أو تزييفها، فالكتاب الذي تحشد فيه أخبار تاريخية تالية لعصر مؤلفه، الذي نُسب إليه جدير بأن يسقط من حساب ذلك المؤلف، على سبيل المثال كتاب نُسب للجاحظ عنوانه “كتاب تنبيه الملوك والمكايد” ذكر في باب من أبوابه باب “نكت من مكايد كافور الإخشيدي” وكافور الإخشيدي كان حياً بين سنتي 292 – 357 هـ، أي بعد وفاة الجاحظ بعشرات السنين والكتاب نسخة مصورة مودعة بدار الكتب المصرية كما أن أسلوبه مختلف عن أسلوب الجاحظ.
تحقيق متن الكتاب:
معناه أن يؤدي الكتاب أداء صادقاً كما وضعه مؤلفه كماً وكيفاً بقدر الإمكان، فليس معنى تحقيق الكتاب أن نلتمس للأسلوب النازل أسلوباً أعلى منه، أو نحل كلمة صحيحة محل أخرى صحيحة بحجة أن الأولى أجمل أو أوفق، أو قد ينسب المؤلف نصاً من النصوص إلى قائل وهو مخطئ في هذه النسبة، فيبدل المحقق ذلك الخطأ ويحل محله الصواب، أو أن المؤلف يوجز عبارته إيجازاً مخلاً فيبسط المحقق عبارته بما يدفع الإخلال.
فليس تحقيق المتن تحسيناً أو تصحيحاً، وإنما هو أمانة الأداء، التي تقتضيها أمانة التاريخ، فإن متن الكتاب حكم على المؤلف، وحكم على عصره وبيئته، وهي اعتبارات تاريخيه لها حرمتها، كما أن ذلك التصرف عدوان على حق المؤلف، الذي له وحده حق التبديل والتغيير.
والمحقق إن وجد خطأ نبه عليه في الحاشية، وبيّن وجه الصواب فيه، وبذلك حقق الأمانة وأدى واجب العلم.
أما الشواهد من القرآن الكريم فلما لها من تقدير ديني فلا بد أن تصحح، وتوضح في نصابها.
أما نصوص الحديث فإن تعدد الروايات يجعلنا نحمَّل المؤلف أمانة روايته، فنبقيها كما كتبها المؤلف، ونعلق في الهامش ما يدل على ضعف روايته أو قوتها.
كذلك النصوص المضمنة من الأمثال والأشعار ونحوها واجب المحقق أن يحترم رواية المؤلف، ويكون التعليق أو التصحيح وغيرها في الهامش.

* أستاذالتاريخ الحديث والمعاصر بجامعة صنعاء

قد يعجبك ايضا