قراءة في مجموعة (استعارة لونية) لـ (هشام محمد)

*فايز محيي الدين
مجموعة “استعارة لونية” للأديب “هشام محمد” والصادرة عن الأمانة العامة لجائزة رئيس الجمهورية للشباب في طبعتها الثانية 2015م، حوت بين دفتيها عشرين نصَّاً في 68 صفحة من القطع المتوسط.
المجموعة ومنذ عتبة النص/العنوان تدل على تمكّنِ الناصِّ مِن التلاعب بالصور البيانية، حيث جاء العنوانُ مكوناً من مفردتين (استعارة، لونية) والاستعارة تحيلنا فوراً إلى الصورة في علم البيان، حيث تكون الاستعارةُ بشقيها: المكنية والتصريحية هي عمود علم البيان، وهي مرتكز الصورة وأداتها للتحليق بالنص.
وعلى الاستعارة، وبالذات المكنية، تعتمد وتتكئ كل النصوص الحديثة بلا استثناء، حيث والاستعارة المكنية هي الصورة الأدبية التي بدأ الجميع يتحدث عنها بإسهاب، ويتنافس من أجلها كل الأدباء في مَن يأتي بصورةٍ أكثر تحليقاً وجِدَّةً في الوقتِ نفسِه.
ولعمْري لقد أجادَ البعضُ وأخفقَ الكثيرُ في توليدِ الصورة التي لم يطرقها أديبٌ من قبل. لكن يبقى النص الحديث أكثر احتفاءً بالصورة الأدبية، وإن جانب في بعضها ملامسَة أوتار الذائقة الأدبية لدى جمهور المتلقين.
ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إنّ مجموعة “استعارة لونية” تحفلُ بالصورة إلى درجة الإغراقِ الذي ينسى المتلقي أمامها أنَّهُ أمامَ نصٍّ قصصي يعتمدُ على الحدث ويرتكز على القصِّ والوصفِ، مع عدم إغفال الصورة والكلمة المُحلِّقة البتة في القصة القصيرة، فهي بُهاراتُها التي لا يكون للقصة القصيرة مذاقٌ بدونِها. لكن الإغراقَ فيها يفسدُ الحدَث ويجعلك تقف مشدوهاً بصورةٍ سرعان ما تتلاشى في ظل انعدامِ الحدث الذي يرسخ في الذهن وينقل لنا غالباً تجربةً أو تصوراً أو رغبةً لدى القاص بتوصيل فكرة جديدة أو معالجة موضوعٍ ما.
أمَّا قضية الأقصودة ومَن سارَ على نهجها فهي محاولة بائسة لإيجاد مبرر لهذا الانحراف بالقصة القصيرة عن مسارها، ومغالطةٌ للنفس وحصرٌ للأدبِ في بوتقة ضيقة لا تعدو عن شلّة المجاملات التي تتنافس مع بعضها في الاتيان بالصورة الأجد وإغفال الحدث في القصة القصيرة، إلى درجة أننا وصلنا كما أكرر دائماً إلى أن نقرأ مجموعاتٍ قصصيةٍ عديدةٍ لا يرسخُ في أذهانِنا منها شيء.
أن تُوصَفَ الاستعارةُ باللونيةِ في عنوانِ المجموعةِ، فهي دليلُ إغراقِ الناصِّ في الصورةِ وارتكازِ نصوصِهِ عليها، كونَ الاستعارةُ شيئاً غيرَ ملموسٍ، ووصفُ هذا الشيءِ غيرِ الملموسِ بصفةٍ ملموسةٍ وهي اللون، ينزاحُ بالمعنى إلى السرياليةِ التي تنبني على ما فوقِ الواقع. وهذا يشي برغبةِ الناصِّ الجامحةِ في الإتيانِ بالمُختلِف.
ومِن خلالِ استقراءِ نصوصِ المجموعةِ نجدُ ما يؤكِّدُ ذلك وبقوة. فهناك نصوصٌ جميلةٌ ارتكزتْ على الحَدَثِ وطعَّمَتهُ بالصورةِ ليأتي النصُّ في أبهى حُلَّةٍ كما في نصِّي: (قنينة مرسيدس) و (ولد صايع).
“قنينةُ مرسيدس” جاءت حافلةً بالصورةِ والحدثِ معا، ولا يسعُ المتلقي إلا أنْ يتماهى مع تراكيبِهِ اللغويةِ مثلما يتماهى مع الحَدَثِ الذي نقلتْهُ، إنْ لم يتراقصْ قلبُهُ لبعضِ الصورِ الجميلةِ التي حفلَ بها النصُّ منذُ العنوانِ الذي انزاحَ بمفهومِ المرسيدس مِن السيارةِ الفارهةِ والأكثرِ جمالاً إلى البنتِ الجميلةِ والأكثرِ جاذبية.
لقد جاءَ النصُّ جميلاً لحدٍّ يُمكنُ وصفَه بالتام، كونَهُ جمعَ بينَ جمالِ التركيبِ وروعةِ المعنى، فلامسَ شِغافَ القلبِ وحلّقَ بالذهنِ عالياً في سماواتِ الخيالِ والإبداع.
والنصُّ يتلخصُ بصديقينِ يمرانِ في شارعٍ فيرى أحدُهما, وهو الذي لم تأتِ الحكايةُ على لسانِه، فتاتين جميلتين فيقول لصديقِهِ الذي سرد الحكاية: أووووووه على مرسيدس! فيسأله صديقُه السارِدُ: أين؟ فيجيب وعيناهُ في جبهةِ الشارعِ الفرعي:”جنب العربية….بب على عيوووون”.
النصُّ لم يكتفِ بفكرةِ الحديثِ عن الفتاتينِ ودخولِهما مع الصديقينِ نفسَ المحلِّ الذي لجئا إليهِ هروباً مِن المطرِ وما حدثَ حين رشَّتْ إحداهما صديقتَها بالعطرِ الذي تطايرَ رذاذُهُ عليهما بشكلً متعمَّد، ولا بغناهما الذي أوحى به دفعُ قيمةِ العطرِ كما قال صاحبُ المحلِّ دونَ مساومة.. فقد تطرق أيضاً لهطول المطر وكيف يهرب منه الناس في الوقت الذي هو يأتي لأجلهم. وهذا ما يذكرنا بحكاية جحا مع المطر ورده البليغ على مَن حاول أن يفحمه بالقول حين رأى جحا يسرع في المشي بالشارع هارباً من المطر نحو بيته فصاح فيه: أتهرب يا جحا من رحمةِ الله؟! فرد عليه جحا: لأنها رحمة الله لا أريد أن أدوسها بقدميَّ!
وفي هذا النص يتساءل السارد: “لماذا يفرون ممن جاء لأجلهم؟ جذبني رفيقي وهو يقفز إلى داخل أحد محلات العطور.. كان هارباً مثلهم، أطعته وأنا أعتذر للسحابةِ التي تسكبُ دموعَها على الهاربين”.
وبالمثل هو يصف بصور بديعة لا تفسد النص ولا تنأى به عن ماهيته، كما أنها لا تتركه دون زينةٍ تزيده جمالا.. فمنذ الجملة الأولى جاءت مفرداتُه مغايرة حين يقول: “مضينا سوياً على شفةِ الشارعِ وأنا أُمسكُ بيده كي لا تتحرَّرَ نزواتُه فجأة وتسيلُ نحو الآخرين أو تصطدم بالعابرين/العابرات”.
“الفراشات يبحثن عن قبس الدعابات المهترئة، ويمارسن قياس وجه الإسفلت ليس إلا” .. “قطعنا نصف المسافة بسلام، تبقى النصف الآخر الذي ينام على طوله جذع التحدي” .. “جذبته بقوة من يده، أخرجه من جوف شفتيه المزمومتين” .. “كانتا تنظرانِ إلينا بشراهة متوقدة.. تعرّى المكانُ من المارَّة” .. “تبعني إلى الخارج مبتلَّاً بضحكاته”.
في هذه الجُمل تتجلَّى صورٌ بديعة أتت ضمن سياق القص فزادت النص القصصي جمالاً ولم تبتعد به عن أصله.
والأجمل هو اختتامه للنص حين يقول لرفيقه المتعلق بالفتاتين وعطرهما بعد خروجهما من المحل: “أمسكته من تلابيبه، وقبل أن تصطدم جبهتي بجبهته أخبرته بأن السماء عطرتني ولن أفسد عطرها”.
ياله من نصٍّ ويا لها من خاتمة، ما يجعلني أقول عنه أنّه نصٌّ حاز الجمالَ مع مرتبة الشرف.
في نص (ولد صايع) يلخص لنا هشام محمد مشكلة الولد المدلل الذي يشاكس والدته ويقسو على أخته رغم تفانيهما من أجل خدمته. وبأسلوب شيق لا يختلف عما تم ذكره في نص (قنينة مرسيدس) من جمال يمضي لينقلنا إلى صورة واقعية صاغها بقالب أدبي فريد ولغة عذبة لا يمتلك المتلقي إزاءها إلا أن يشدو بمفرداتها ويحلق مع معانيها، ويتماهى مع ما تضمنته من فكرة، لتظل خالدةً بذهنه للأبد.
وبالمثل جاءت جُملُه مرتديةً جمال التركيب ومتزينةً بأبهى الصور، مثل: “سكون يلتهم المكان.. يتوجع الباب بتأوه منهك.. رنت إليه بقهرٍ مذبوح.. ذبلت أغصان الكلام.. غالبت دمعةً ولدت ثم شاخت سريعا.. أشعل أغنيةً اشمأز منها أثاث الغرفة وغطت الجدرانُ آذانَها”.
وبنفس الجمال يسرد ويختتم:
“واصلَ طريقه صوب الباب، أخته تغسل ملابسه المعكرة من جسده، يمسك شعرها ويشدها، تصرخ.. تستغيث.. ترشقه أمه بدعوة، يترك أخته ترتمي في حضن أمها ونشيجها يتعالى في حين مسيرُه يتواصل صوب الباب.. يصطدم به فيصرخ فيه: مع السلامة. يقف أمام الباب، يلتفت إلى الخلف وأمه تقبل وجنة أخته.. يهم بالخروج، يعاود البابُ صراخَه مشمئزاً: خلصني. يغلق الباب خلفه بقوة فتردد أرجاء المنزل: اخرج اخرج. تنهدت الأم بحرقة، انهارت دموعها جارفةً أحزانَها لتنقشها على قسمات وجهها الشاحب، وأخته تصرخ خلفه بتهدج: ولد صااااااايع”.
هشام محمد في هذه المجموعة عموماً ينزع نحو التحليق مع الصورة الأدبية الجميلة من خلال مفرداته وتراكيبه العذبة، وإن توارى الحَدَث في بعضها إلا أنَّ المجموعة تشي بقاصٍ متفرد يمكنه الإتيان بما لم يستطعه غيره في حال أعطى للحدث قيمتَه الحقيقية. وأنا هنا لا أجزم بانعدام الحدث في كل قصص المجموعة بقدر ما أشير إلى تواريه وظهوره على استحياء في بعض النصوص.

faiz444888@gmail.com

قد يعجبك ايضا