قراءة سيميائية في مجموعته الشعرية (احتضار الغروب)

بنية النص لدى المعرسي..

*فايز محيي الدين
وبعودتنا إلى عنوان النص (صبابات الحصى) وكذلك عنوان المجموعة (احتضار الغروب) يتبين لنا أنه طافحٌ بتواتر الاستعارة حين يؤنسن الحصى الغروب ويدفع بها إلى بدايات التصور الإنساني الذي كان يشحن عناصر الطبيعة بأحاسيس البشر ونوازعهم، ويجعل منها ـ بفعل التفكر الأسطوري الأول كائنات تفيض على حدودها للحركة والحلم والعاطفة وتتجاوز بفعل ذلك التفكير أيضاً المحدودية والمنطق.
إنّ عنوان النص والمجموعة فيه التحامٌ قلق بين عنصرين لا تجانس بينهما، كما إنّ شكل الإضافة الذي اتخذه هذان العنصران لم يكبح ما بينهما من تعارض أو تنافر؛ بل ظل التعارض بينهما كثيفاً وبالغَ القوة، وهو ما جعل من هذين التركيبين فضاءً مفتوحاً لإيماءاتٍ ودلالاتٍ عميقة تكتظ بإشاراتها نحو البدايات الأولى للإنسان والأشياء والعواطف والأفكار. والالتحام القلق بين مفردتي العنوان يشبه الالتحام القلق بين الشاعر وزمنه وواقعه الذي يبعث على الأسى والحزن.
إنّ المشهد كله مفعمٌ بل منقوعٌ بالأسى ودموعِ القلب. وقد أدى وظيفته بطريقة متميزة حين قدَّمَ الشاعرُ الحصى ملاذاً لصباباته حتى يغطي على الضعف والهشاشة والوهن الذي يعيشه.
نص المعرسي جاء ضاجَّاً بمفردات الأسى والحزن التي وردت 66 مرة مقابل اثنتي عشرة مرة لمفردات الفرح كالأمل والشوق والحياة، بينما مفردة الأسى لوحدها وردت خمس مرات في نَصٍّ لم يتجاوز عددُ أبياته 26 بيتا.
إلى ذلك فقد جعلَ المعرسيُّ مِن الانزياح داخل النص مجالاً للتجديد في نصه، وخلقَ وأوجدَ طاقاتٍ دلاليةٍ عاليةٍ إيماناً منهُ أنّ اللغةَ حقلٌ مفتوحٌ وكونُ علاماتٍ أو فضاءٌ إيديولوجي منزاحاً لصياغاتٍ لغوية تمارسُ فيه – بكل حرية – البحث عن الجديد والأجد من المعاني والصور والأخيلة، وهو ماتمَّ من خلال تراكيبه اللغوية في الجمع بين مفردتين متنافرتين كما سبق، وكذلك باستخدامه للاستفهامات المتتابعة ضمن الكلام المستفهم به، مما يحدث مجموعة من المتغيرات على مستوى التركيب كما في قوله:
أبتاهُ عاجلَني الزمانُ فلم أعد ** إلا غريباً يندبُ الأغرابا
فمتى؟ ويحترقُ السؤال بمهجتي ** ومتى؟ وأقتاتُ السؤالَ جوابا
ومتى؟ وهل تدري صباباتُ الحصى ** أنّ المُعنَّى بالحنينِ تصابى؟!
والسؤال بطبيعته يبحثُ عن غامضٍ ويوحي بقلق القائل ويولِّد لدى المتلقي فضاءً واسعاً يجولُ فيه باحثاً عن شيءٍ ما لم يجده في الواقع المحيط، إلى جانب أنه (السؤال) يسيطر على أصحاب الذهن المتقد الذين هم دائمو التساؤل للبحث عن المعرفة والإطلاع على ما هو خارج محيطهم. وهذا كله متوفرٌ لدى المعرسي الذي أنبأنا سؤالُه المتكرر عن روحه القلقة، وفي الوقت نفسه عن رغبته العارمة في تخطي واقعه إلى آفاق أكثر اتساعاً ورحابة، خاصة إذا عرفنا أنه ألمَّ باللغة العربية وأجادَ كتابة الشعر بها رغم صغر سنه وعدم تخصصه بها واشتغاله بأعمال أخرى توفيراً للُقمةِ العيش لأسرةٍ هو عائلها الوحيد.
التركيب العام للنص لازمته الاسمية منذ العنوان ومن بداية أول كلمة في البيت الأول وحتى آخر كلمة في النص، مما دل على ثبوت الحزن الذي يخيم ليس على الشاعر فحسب، بل وعلى واقعه ومحيطه، والشاعر ابن بيئته، وقد زاد من ترسخ هذه المهيمنةِ المستوى الإيقاعي للنص الذي ورد فيه حرف الياء 73 مرة ، وحرف الباء وهو حرف الروي 68 مرة وحرف النون 62 مرة، وهذه الأحرف الثلاثة كانت الأكثر وروداً في النص، ولها دلالة كبيرة على استيطانِ الحزنِ قلبَ هذا الشاعر المبدع الصغير الذي لم يتجاوز عمره الـ 24 عاماً (وقت كتابة هذه المجموعة) وله حتى الآن ثلاثة دواوين مطبوعة واثنان تحت الطبع.
إنّ حرفَ الياء بما يمثله من انكسار وانخفاض ليدل وبكل تأكيد على الحالة النفسية للشاعر التي تمثل الانكسار المعهود لكل يتيم، إلى جانب أنَّ حرف النون إذا أضفنا له التنوين الذي ورد في النص 14مرة يصير عدد وروده 76مرة، أي أكثر من الياء، وهو ما يدل على حالة الحزن التي تستولي على الشاعر كون حرف النون من الأصوات الجهورية التي تشي برغبة الشاعر بالبوح بحزنه عله ينفس عما به من خلال مجاهرته بما يكنه ويحس به.
ونحن إذ نضيف التنوين للنون ليس اعتباطا، ولكن لأنه يملك النبرة الصوتية ذاتها لحرف النون، وهذا ما جعل حرف النون يتفوق على بقية الأحرف ليتوافق ومهمنة النص (حالة الحزن) وليؤكد رغبة الشاعر المكبوتة في البوح الذي تبدت فيه مشاعر الحزن و الألم، فيما حرف الباء الذي ورد 68 مرة وكان في القافية مطلقا قد أكد طغيان الحزن لدى الشاعر ورغبته في البوح كونه يدل على التوجع والأنين من خلال إطلاقه (با).
وعلى كُلٍّ يجد المتلقي نصوصَ مجموعة المعرسي كاملةً ذاتَ قوافٍ أو أحرف رويٍّ إما منصوبة أو مجرورة أو ساكنه. بينما لم يرد له سوى نصين مرفوعين. وهذه دلالة قوية على استشراء الأسى والحزن في روح هذا المبدع الجميل الذي صاغ من حزنه قوالبَ شعرية ذات شكل فني بديع تجذب إليه السامع من مكان بعيد وتقنص إلى شِراكهِ كُلَّ ذوَّاقٍ عتيد.
إنّ دلالة الجر والنصب والسكون بما تمثله من انكسار وأنين وشكوى وجمود قد وسمت نصوص المعرسي بالأسى والحزن، حتى إنها لتكشف عن نفسها للمتلقي بكل سهولة؛ ليجد مفردات الحزن قد طغت بشكل كبير على بقية المفردات. وحزن المعرسي يزداد وضوحاً وتجلياً في نصه (غربة الروح) الذي يبين من خلاله مدى غربته وغربة روحه المتألقة التي تحس بالغربة في زمن الغربة كما يقول البردوني رحمه الله: “عالمي غربةُ زماني غرابة” وهو ما نلحظه في المقطع التالي:
إني ولليلِ أفواهٌ ينوحُ بها ** والصمتُ يزأرُ مثلَ الضيغمِ الضاري
كنسمةٍ في مهبِّ الريحِ تحملها ** مخالبُ الليلِ مِن غارٍ إلى غارِ
أنأى بحزني وللأحزانِ في بدني ** رَحْلٌ وعهدُ فتوحاتٍ وأمصارِ
وغربتي غربةُ الأوطانِ في وطني ** وغربةُ الروح في أهلي وفي داري
قد خلّفتني بوادي الحزنِ راحلتي ** فرداً أنوءُ بأحزاني وتذكاري
إنّ نصوص المعرسي لتفيض لوعةً وأسىً وأنيناً تتسربُ بمفرداتِها إلى القلوبِ لترغمَها على مشاطرته هذا الأسى وهذا الحزن الذي يكاد المعرسي أنْ يقتاته كل يوم، وكأنَّ الحُزنَ قد ضلَّ طريقه إلى الآخرين فلم يجد سوى المعرسي، وهو ما أفصحَ عنه بقوله:
تثاءبَ الخطوُ في دربِ الأسى وغفت ** في جُبّةِ الليلِ آمالي وأوطاري
كأنّما الحُزنَ لم يعرف سواي فتىً ** فباتَ نبضي وإعلاني وإسراري
يا غربةَ الروحِ والأيامُ شاغرةً ** مخالبَ الحزنِ في أحضانِ أسفاري
الدمعُ بوحي وأجراسُ الأسى نغمي ** وصهوةُ الحُزنِ ترحالي وأقداري
أيُّ حُزنٍ وأيُّ أسىً أكثرُ مِن هذا الذي يعانيه المعرسي ويشاطره إياه كثيرٌ مِن الشعراء الذين تخونهم الكلماتُ عن الإتيان بما جاء به المعرسي للتعبير عن القهر الذي يعيشه عامة المبدعين الذين لم ينالوا من هذا الوطن الغالي ما يستحقون، في الوقت الذي أعطى غيرهم الكثير والكثير مما ليس لهم فيه حق؛ وتركَ أصحاب الحق على الصعدات يجأرون.

قد يعجبك ايضا