البحث عن يحيى..بين أكوام الشهداء والجرحى..!!

معاذ حمود الخميسي

– موجع حد الدخول في غيبوبة من البكاء أن يتحول مجلس عزاء يحضره ما يزيد عن ألف إنسان إلى كتلة من الدخان الأسود والنار الحمراء الملتهبة..وإلى أكوام من الجثث المتفحمة والأجساد المقطعة..وإلى جرحى يلفظون أنفاسهم الأخيرة..أو يبحثون عن بصيص أمل بأن يتم إسعافهم ليعيشوا وإن تعرضوا للإصابات البليغة أو الكسور أو الجروح..
– لحظات مجنونة..مفجعة..مرعبة..غابت فيها القيم والأخلاق والأعراف والمبادئ..والدين أيضًا..وَاُنْتُزِعَتْ الرحمة.. وَاُقْتُلِعَتْ الرأفة..وتحول الإنسان الذي يملك المال والسلطان..والذي يقود طائرات الحرب والعدوان إلى قاتل يمارس أبشع وأفظع جرائم الإبادة الجماعية..وبقلب باااااارد..
– كم هي قدرتي على الصبر حتى لا أنهار ولا أستسلم للبكاء وأتحمل فاجعة إصابة واستشهاد الكثيرين في قاعة العزاء..وكيف باستطاعتي أن أصمد أمام كارثة اختفاء جسدك يا (يحيى) وأنا أشاهد ألسنة النار مازالت تتصاعد..والقاعة الأكبر والأضخم قد تحولت إلى ركام ورماد ولهب والمئات من الكبار والصغار تحولوا إلى أشلاء ودماء..وأجساد هامدة وجثث متفحمة وأوصال مقطعة..!!
– ما بوسعي أن أفعله والساعات تمر وأمل أن أجدك جريحاً في أحد المستشفيات يتلاشى..وكل محاولاتي تبوء بالفشل في أن أشتم رائحة وجودك بيننا..
واِستِجداء عبدالرحمن بأن نواصل البحث عنك يتبخر مع اقتراب ما بعد منتصف الليل..وفقط صوته المذبوح بالخوف من أن تحل الفاجعة مازال يؤكد أنك مازلت حياً وموجوداً في غرفة العناية المركزة بأحد المستشفيات..!
– الواحدة ليلاً..ونحن نمشط طرقات صنعاء المظلمة والمنكوبة والمغدورة..ونفتش في زوايا مستشفياتها وغرفها وبين أنين الجرحى وجثث الشهداء وأكوام الأشلاء ومشاهد الدماء..ولا حتى خيط رفيع يقودنا إليك..سوى صوت الدكتور محمد الخميسي وهو يؤكد أن الجثث المجهولة ليست جميعها متفحمة وأن ستاً منها لم يتغير شكلها أو أوصاف أصحابها..لكنها غير معروفة!
– أدركنا أننا أمام الفاجعة..وعدنا من جديد إلى مستشفى 48 الذي كأن أول مستشفى نبحث فيه بعد نبأ الإبادة الجماعية..وفي الطريق وجدنا مكان المجزرة البشعة مظلماً وموحشاً ورائحة الدخان تغطي مساحات واسعة..وسيارتك (فقط) على رصيف الجامعة اللبنانية وقد فتك بها البرد وطول انتظار خروجك من الصالة..ورغم أنها قطعة حديد لكنها كانت تتكلم وكنت أسمع نحيبها في قاع قلبي..رافضة أن تغادر المكان قبل أن تأتي أنت..!!
– لحظات مؤلمة..وأمنيات هشة في وقت ضائع بأن لو كانت السيارة قد اختفت تماماً وبقيت أنت..ومشاهد وجع جرت تنهيدات الألم حين واصلنا الطريق إلى المستشفى وبهاء وجهك يرفض أن يغادر وتلك الابتسامة والمشاغبات التي اعتدت عليها في وجودك تحضر أمام عَيْنَيَّ على امتداد المسافة وخط الإسفلت وكأني بدأت أستسلم لشيء ما..ولدمعة تهطل دون استئذان..وأنا أستحضر إطلالتك..
ومواقفك..ووفاءك..ونبلك..وشهامتك..وطيبتك..
وصراحتك..وأفجع نفسي بسؤال صامت ظل يخنقني..أمعقول أنه مات؟..هل أصبح جثة هامدة؟..أم أنه في غيبوبة ومازال على قيد الحياة وسنجده اليوم أو غداً أو بعده ؟؟
– اقتربنا من المستشفى..وكان هناك ضابط ينتظرنا ويعرف ما الذي جئنا من أجله..سهل دخولنا إلى أن وصلنا إلى مكان ثلاجة المتوفين..وحينها شعرت أن قدميّ مكبلتان، وبين أن أتوقف خوفاً من المجهول وأن ألتقط أنفاسي وأواصل المشي إلى الغرفة التي تجمع ما يصل إلى 19 جثة متفحمة ومتوفية لم يجدوا لها مكاناً في الثلاجة..وجدت نفسي محاطاً بالجثث وصوت عبدالرحمن يمزق أوصالي وهو يجهش بالبكاء
ويصرخ..أخي..أخي..والله إنه أخي..أخي الوحيد..
وعيناي متسمرتان تغتسلان بالدموع وقد جثوت إلى جواره أبكي روحه التي حلقت إلى خالقها مبكراً..
وأخاطب سريرته النقية..ونياته الصافية..واطلالته المرحة..ومواقفه الوفية..ووقفاته الرجولية..وأخبره أنني مازلت مشتاقاً إليه وفي انتظاره في الموعد الذي حدده..فكيف غادر وهو ولم يف به..؟
– كنت أبحث عن بقايا أنفاسه..وأتأمل عينه الشقراء التي لم تنم..وفمه المفتوح الذي يكاد يتكلم..لم يكن هناك قدرة على الصبر..ولا متسع لمزيد من التماسك ورباطة الجأش..وكان البكاء وحده يحاول أن يغسل الوجع وأن يتولى الحديث مع (يحيى) الذي أصبح جثة هامدة..والدماء تغطي جسده وثوبه الأبيض..وثمة شظايا قد توزعت على صدره ورقبته وذقنته ويديه ورجليه وعينه اليمنى ..!
– آه لو كان البكاء يكفي لانتشال جور الصدمة..وإيقاف استذكار شريط الأيام والشهور والسنوات ومشاهدها التي تحولت إلى ذكريات تمر في سرعة فائقة لتعيد تصدير ألم اللحظة في موقف الفراق الأخير..والوداع الذي ليس بعده لقاء..ولا اتصال..ولا جلسة..ولا سلام ولا حتى عتاب..!
– كنت منهمكاً في تفاصيل الوداع المؤلم على رائحة الدم..وآثار الشظايا..وهربت من أن أشكو القدر الذي يترصد أيامنا بالأحزان منذ العام المشؤوم 2011م ..حتى أطل الوجع من جديد مصحوباً بالبكاء المثقل بنحيب فلذة كبده وأول تباشير الفرح في حياته “ابراهيم” حين أفجعه النظر إلى والده فتوارى سريعاً خلف ركام الحزن الذي يتجرعه لأول مرة بفقدان أعز من يملك..وأغلى من في الوجود..
– حينها كان “فؤاد” الذي نجا من الموت (قصفاً واغتيالاً) غير عابئ بالموت ولا بمن يترصد ولا من يجهز الإحداثيات وظل مشغولاً بالبحث عن يحيى..وحاضراً بعد أن وجدناه..ومذهولاً لهول المشهد..وهو يحاول عبثاً أن يجد عرقاً واحداً ينبض..ولم يجد سوى الحسرة تخالط الحزن وترغمه على الاستسلام لحرقة العينين حين اغرورقتا بالدمع..وعندما احتضن إبراهيم مواسياً ومطمئناً..بعد أن غادر يحيى إلى غير رجعة!!
– تركناه متوسداً قاع تلك الغرفة ومبللاً بدمه الطاهر وملفوفاً بملابسه الداخليه وثوبه الأبيض و(الكوت)..
وحوله الكثير من الجثث لشهداء آخرين لم يتم التعرف عليهم..ولن يتم التعرف على أغلبهم بعد أن أصبحوا متفحمين وليس من علامة تقود إلى معرفتهم..!
– غادرنا المستشفى بعد أن استوطن الألم أرواح من حضر..ومن علم باستشهاده..وأتى الفجر وعيوننا ترفض أن تهدأ أو تنام فما زالت مسكونة بوجهه وابتساماته وروحه المرحة..واقتربت لحظة الوداع والتشييع حين نقل إلى منزله لإلقاء النظرة الأخيرة في ذهول تام وصمت تحكي أوجاعه الدموع..ثم كانت الصلاة على روحه الطاهرة في حضور الأهل والأصدقاء والزملاء الذين شيعوه إلى مثواه الأخير..
– كانت القلوب مكلومة..والألم يملأ تقاسيم وجوه من حضروا..وهناك في زاوية (المقبرة) توقفنا على حفرة ترابية أعدت لاحتضان الشهيد وقد سبقه إليها شقيق الظهر وتوأم الروح “عبدالرحمن” ليوسده التراب ونحن نتوسد الحزن والألم في فضاء (خزيمة) الواسع ونبكي اللحظة التي تركناه فيها في باطن الأرض وليس بوسعنا إلا أن ندعو له بالثبات والعون حين يُسأل وبالرحمة والمغفرة والجنة..
– تركناه هناك إلى جانب من سبقونا ومن سنلحق بهم في يوم ما..وذهبنا لنتجرع مرارة الفراق وألم أن يتحول (يحيى) إلى ذكرى ومجموعة صور ومواقف وأحداث ترفض أن تستريح أو أن تغادر ما دمنا أحياء..ومادام الوفاء يتسرب بين الشرايين..وحبه يسكن غرفة عمليات القلب..وخارطة الوجود..فمثله لم يمت..وسيظل حياً يرزق بدعواتنا وحبنا ووفائنا..!
– رحمة الله تغشاك يا يحيى العماد..ويا كل الشهداء..
ولكم النار والعذاب أيها الجبناء الحاقدون والقتلة المجرمون والسفاحون..فأين ستذهبون من الله..ومن الحساب والعقاب.. يا أحقر وأنذل وأوسخ البشر..

قد يعجبك ايضا