فصول من رواية: صحن الجن

الثورة/ عادل الامين*

عـم صـالــح
في ذلك الغروب الحزين , كان الأستاذ زين العابدين يسير مع جموع المشيعين في طريقهم إلى مقابر القرية التي تلوح بين حقول الدخن وأشجار الدوم والهلج ويقف طيف قبة الشيخ البجلي* عن كثب في أجلال , جوار زين كان يسير تلميذه اللدود “حمود” ابن المرحوم المحمول على أعناق وأكتاف الرجال إلى مثواه الاخير , كان حمود يعتصره الألم والحزن على وفاة والده , ويبدو انه تحت وطأه ذكريات غير مستحبة في هذا الوقت ’ سجالات بينه وبين أبيه والأستاذ زين .. العم صالح كان صديق الاستاذ السوداني منذ مجيئه إلى القرية ومصدر تنوير والهام له , حيث كان ينهل من مكتبته الرائعة والعتيقة , درر التراث الإسلامي كتب في السياسية أيضا (أحياء علوم الدين)* , (الفتوحات المكية)* , (المهرجان)* , (التيسير في التفسير)* , (رياح التغيير في اليمن)* , (اليمن الإنسان والحضارة)* , (حديث من الذاكرة)* , (الديمقراطية في الميزان)* .
عم صالح رجل يمني صميم يدعم الرئيس صالح وحزب المؤتمر الشعبي العام* , ابنه حمود مع الأخوان المسلمين في حزب التجمع اليمني للإصلاح* , ظل العم صالح في زيارته الدائمة لزين في المدرسة يترجاه بأن يهدي ابنه إلى الطريق السوي , استخدم زين كل ما يعرفه ومالا يعرفه عن مخازي الإخوان المسلمين كسلاح ماضي يديره في معاركه في عقلية حمود المتخشبة , منذ أن كان طالباً عنده في المرحلة الثانوية , ثم أضحى خريجاً من كلية التربية من جامعة الحديدة قسم اللغة العربية, ثم ماجستير في كلية دار العلوم من القاهرة , وحمود يزيد عناداً في عناد .
– ما الذي يجعلك تتعلق بهؤلاء الأوغاد ؟!
– أتعلق ؟!
– نعم , أنت لست قرداً وهم ليسوا أشجاراً .. لماذا تتعلق بهم ؟
– الأخوان المسلمون فكر وأبي جاهل !! .
– أبوك أمي وليس جاهل , الجاهل أنت.. أبوك يتبع حزب يمني , وأنت تتبع تنظيم وافد لا تعرف من أين يبدأ وإلى أين ينتهي ؟
– ما الفرق بين الحزب والتنظيم ؟
– يفرق كثير , الحزب مؤسسة سياسية محددة , لها برنامج معروف ويأتي عبر صناديق الاقتراع وبإرادة حرة والتنظيم مؤسسة مشبوهة قائمة على الولاء والبراء والطاعة العمياء ويأتي عبر الانقلابات والفوضى الخلاقة “نبت شيطاني” وافد من خارج الحدود الجغرافية للوطن , ولا يؤمن بالوطن والمواطن من الأساس , واسأل مجرب خير من تسال طبيب .
ويستمر السجال بينهما ولسنيين طوال ولكن اليوم كلاهما حزين والفقد أعظم , فقد زين محاوراً ذكياً ورجلاً حكيماً عاصر كل أحداث اليمن الجسام , وفقد حمود والداً محباً عطوفاً لطالما غفر له كل مخازيه مع “الجماعة” , طافت في ذهنه المكلوم شجون من نوع خاص , عندما فاز مرشح المؤتمر الشعبي بالدائرة الجغرافية للناحية , تملك الإصلاحيين غضب شديد وحرضوه على أبيه , ثم فر من القرية إلى مدينة الحديدة يحمل شعار شمسه* الآفلة , مهزوماً مدحوراً , جاءت “صنعاء” أم حمود تولول مع ابنها الصغير “لطف” إلى المدرسة , وقالت إنها عندما عادت إلى البيت وجدت زوجها الذي تملكه الغضب الشديد , بعد عودته إلى البيت فرحاً بشدة بالنصر , ملقى على الأرض في غرفة الضيافة بين قطع الزجاج المتناثرة والصورة الممزقة والزبد يخرج من فمه , أصيب بجلطة دموية , بحث زين عن آخر شريط أقراص أسبرين في حقيبته القديمة وهرول معهما إلى البيت , وقام بإسعاف عم صالح الذي تعافى مجددا .
لم يطق زين الأمر ولا صنعاء , واضمر في نفسه أمرا , ضربه ضرباً مبرحاً عندما عاد إلى المدرسة , بل كاد يقتله حتى لا يرهقهما طغيانا وكفراً , واجبره بأن ينزل المدينة ويأتي بصورة جديدة ويعلقها في نفس المكان أو يعطيه درجة رسوب كامل ومدو في منهج التربية الوطنية الذي يقوم بتدريسه لهم في المرحلة الأساسية , في ذلك الزمن الجميل , زمن تحيا الجمهورية اليمنية .
تم دفن عم صالح بعد الصلاة عليه في مسجد القرية وتفرق المشيعون وعاد حمود ولطف إلى المنزل مع الأستاذ زين , وجلسوا في الديوان يقرأون القرآن مع زوجته وأمه وأطفاله الثلاثة.
*****
مضت السنون تباعا بعد وفاة عم صالح الفاجعة, أنيس أستاذ زين الوحيد في البلدة..وعاد زين إلى عزلته المجيدة..مع القلم السحري والأوراق والسكينة, وظهر “محمد عايش”* المدرس الجديد في المدرسة وأضحت حياة زين تتأرجح بين “حامل المسك” المعلم الجديد و”نافخ الكير “جماعة حمود” المثبورين” , الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا بعد أن أضحى حمود طالباً في كلية التربية في الحديدة..كان محمد عايش سميره الجديد ويساعده أيضا في إرسال تداعياته وكتاباته إلى الصحف والمجلات عبر بريد مدينة المنصورية* أو مدينة الحديدة ويأتيه بالصحف والمجلات التي تنشر فيها كتاباته..كان قلمه المسحور ينتقل بين التداعيات المريرة وأحيانا الأمر لا يخلو من الطرافة .ويكتب المقالات أيضا..في جلسته الطقوسية بعد أن يتركه محمد عايش بعد صلاة العشاء ويعود إلى القرية وتخلو المدرسة من الضجيج وتأتي السكينة ويتحرك القلم المسحور كراقصة الباليه في بحيرة البجع* ويتنقل في عوالم زين غير المرئية..ظل يكتب عند تباشير الصباح أو عندما يعسعس الليل..( كل ما استيقظ صباحا على صوت ثلاث عصافير تغرد على نافذة الفصل الذي اتخذه مسكننا في مدرسة على تخوم قرية في سهول تهامة في اليمن ، قرية مظلمة حسبها من الحضارة أن تظهر على الخارطة ولكنها تضيء بقلوب أهلها الطيبين ..واسأل نفسي ..لماذا أنا هنا؟؟..ثم أتداعى..
في عام1970م عدنا من لبنان حيث كان أبي الذي تخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت..بعيني طفل كنت أتذكر معالم مدينتنا عطبرة ,حي الداخلة الذي نقيم فيه سألت عن أصدقائي وصديقاتي , تفرقوا ومن مات مات،سهام صديقة الطفولة ماتت , سقطت من باص مدينة الدامر كعادة الأولاد الشوطين التعلق بمؤخرة الباص, لازلت اذكر شعرها الذهبي وملامحها الغجرية,على ود فرحين ,هكذا نسمى أصدقاء الطفولة بأمهاتهم،غرق في النيل،كان من اعز أصدقائي , هكذا كانت الحياة في منظوري الطفولي.. رحيل دائم من المنبع إلى المصب بين محطتين يمتد عمر الإنسان.
الأمر الأكبر والأجمل هذا العام كان زواج عمي حسين, الذي كان يعمل محاسبا في مستشفى عطبرة ولكم أن لا تصدقوا مدى حب السودانيين للفرح آنذراك , لمجرد زواج موظف بسيط مثل عمي حسين ..انتشرت إرهاصات الفرح وعمت كل الأهل والأصدقاء في المدينة وأصبح البيت خلية نحل،تم حجز عربة قطار كاملة..لان الزواج سيمتد من المدينة إلى بلدتنا في الشمال مورا..التي هاجر منها جدي كهجرة النخيل وكان النزوح إلى مدن النخيل بعد ظهور مرفق السكة حديد وسودنه الخدمة المدنية التي استوعبت كل هجرات الشمال…إلى ذلك الوقت من السبعينيات كانت الهجرة معقولة،ظلت الأرياف عامرة بالخضرة والماء والوجه الحسن , دعونا نعود للهجرة العكسية لحصاة التمر التي أمثلها أنا ورحلة العودة للبحث عن الجذور عبر كرنفال الفرح الذي يجسده زواج عمي حسين الطيب الذي اجله كثيرا..
في يوم السفر تقاطر الناس من كل حدب وصوب , الجدود والأعمام والعمات وامتلأت عربة القطار عن آخرها وسط أهازيج الفرح وضرب الدفوف،تم إلحاق العربة بقطار كريمة الذي يسافر شمالا إلى مدينة كريمة.
بدأت الرحلة وأنا أجلس عند النافذة وأشاهد المحطات تتوالى ومعالم الخضرة وحقول القمح تمتد كالبساط وأشجار النخيل تقف في جلال علي مد البصر .. كانت الرحلة طويلة وجميلة إلى مدينتنا كريمة. من هناك تم توزيع الناس في عربات فورد وبولمان .. كما تم توزيع الباقين علي الباخرة النيلية . كانت هناك العديد من البواخر التي تمخر الماء بين دنقلا وكريمة لها أسماء جميلة “عطارد, كربكان, الزهراء , الجلاء ” كان نصيبنا نحن والأسرة أن نسافر بميكروباص فورد إلى مورا* .. بدأت الرحلة ليلا وانطلقنا في بحور من الرمال على اليمين وحقول لا نهائية من القمح علي اليسار … وصلنا بيت جدي الكبير المتعدد الحجرات .. كانت “البلد” كما نطلق عليها مليئة بالناس والحياة .كما أن زواج عمي ألبسنا حلة من الفرح المقيم ، تم توزيع المدعوين علي كل بيوت البلدة حيث فرش الديوان بالملايات الزاهية وفرشت الأرض بالرمال النظيفة وعلى ما اذكر استمر العرس أربعين يوما بكل طقوسه الكثيرة .آنذاك كما أخبرتكم نحن شعب له قدرة غير عادية على صناعة الفرح .. جرار من المشهيات الروحية البلدية تقبع مدفونة إلى منصفها في أرض السقائف الباردة وهي جزء أساسي من طقوس العرس .. خمور مصنوعة من التمر والذرة ولها أسماء عدة “الدكاي ، البقنية والشربوت”أما الطرب فمن النوع الشعبي والعزف على آلة الطنبور مع كورس والتصفيق بالأيادي وإيقاع خاص بمنطقة قبيلة الشايقية* سمي الدليب وآخر يسمى الشتم .. والرقص مختلط حيث يقف الرجال صفوفاً ويضربون بأرجلهم إيقاعات أشبه بالدبكة اللبنانية وترقص النساء رقصة الوزين وهي تشبه عملية الغزل بين الطيور ..وما أشبه أهلي الطيبين بالطيور!!…
حقول القمح:-
أكثر ما أسعدني آنذاك الخضرة الممتدة من النيل حتى تخوم القرية حقول القمح والبرسيم وأشجار النخيل والمانجو والليمون.. كانت المزارع تسمي “التحتانية” لأنها جهة النيل .
المنظر الثاني هو الرمال التي تجسد الزحف الصحراوي ، تلك الرمال العنيدة التي تمتطي ظهور البيوت في رغبة وقحة لدفن القرية .. من أجمل السيمفونية في أذني عند الغروب ثغاء البهائم ونهيق الحمير وصوت طلمبة الماء الذي يتداعى من بعد ” دق .. دق ..دق …دق” أما سيمفونية الصباح فتبدأ بصياح الديوك ونداءات أهل القرية ، إنهم أهل القرى ينامون باكراً ويستيقظون باكرا قبل شروق الشمس , كما كانت تفعل جدتي الحرم* ..هذه الجدة الحديث عنها يطول ولي معها ذكريات في مكان آخر , ظلت سيمفونية صوت الطواحين في سوق البلدة الصغير وهي تطحن القمح السوداني الذي نزرعه في حقولنا “تك.. تك… تك..” تبعث السرور والبهجة في النفس ..هذا القمح الطاهر الذي تنتجه حقولنا تقوم النساء بعجنه وإنضاجه على نار “الدوكة” وهي قطعة مستديرة من الفولاذ الصلب ،سوداء بفعل السخام تجلس على ثلاثة أثافي “إدايات ” ويوضع الوقود من جريد وحراشف النخيل (الكروق) ونحن نصنع نوعين من أقراص الطحين احدهما سميكة في الفطور والأخرى رقيقة مثل القماش في الغداء…
الرحلة الثانية إلي الجذور:-
خيمة السعودية دف ما بتدفيك
لبن اليهودية بلدك ينسيك
قمحا جاك من أمريكا
خازوقاً ركب فيكـــا
ما بكفيك غير خير بواديك*
مضت عشر سنوات علي الرحلة الأولى بحثا عن الجذور…نحن الآن في عام 1980م في العطلة الصيفية ،أغسطس .. هذا العام تقرر أن تنزل الوالدة إلى البلد للاشراف على عملية حصاد التمر (حش التمر)* وكنت أنا مرافقاً ومعي خالد* ابن خالتي والذي أراه لأول مرة ، ذلك لأنهم كانوا في غرب السودان ـ والده يعمل في السكة الحديد .. خالد أصبح من أعز أصدقائي وأقرب إنسان إلى قلبي ..وذلك للرحلة الجميلة بالقطار ولكن هذه المرة تقدم بنا العمر ولم نعد أطفالاً .. اختبرت هذا العام لدخول الجامعة..بدأ الترهل يدب في مرفق السكة الحديد وأصبح هناك قطار واحد في الأسبوع يزحف كالسلحفاة عبر محطات ، كانت مظاهر الجدب واختفاء حقول القمح التدريجي من كل المناطق التي لا زالت ذكراها الخضراء عالقة في ذاكرتي الطفولية ,وصلنا مدينة كريمة وركبنا سيارة إلى مورا ثم إلى كوري بلد أمي .. هناك يبدو أن الرمال انتصرت أخيرا . كانت البيوت شبه خالية فقد تهدم بيت جدي الذي كنت أعتز به كثيرا ، تساقطت معظم حجراته وبدت البلدة خالية وكئيبة، تغيرت المعالم والعادات وهاجر معظم الشباب وبقي الرعيل الأول من الأجداد يشرف على أشجار النخيل، اختفت حقول القمح واختفت الطواحين وظهرت الأفران والخبز الإفرنجي الفاخر الناصع البياض كغرف المستشفيات .. وظهرت المعونة الأمريكية وتلوثت بلادنا بالدقيق الأمريكي* وبدأ السحت يغزو أجسادنا ودب فيها الوهن , أخذت الأمور تسير من سيئ إلى أسوأ , جلسنا في البلد خمسة عشر يوما تقريباً .قمت مع أمي وابن خالتي بالاشتراك في عملية حصاد التمر ووضعه في جوالات وجاء كبار التجار وسماسرة بنك فيصل الاسلامي* لشراء التمر بثمن بخس ..ثم عدنا مرة أخرى إلى كريمة ومنها بالقطار إلي عطبرة .. انتهت رحلتي الثانية إلي الشمال وأنطبع في ذاكرتي شيء واحد .. أن هناك أشياء بدأت تموت ببط شديد ، شيء أسمه الريف السوداني الغني بالناس والمشاعر الفياضة وأن الزحف والهجرة إلى مدن النخيل اتخذ شكلاً وبائياً وكما عبر شاعر العامية محمد الحسن سالم الحميد* ( الحزب الشيوعي السوداني )* من أبناء الشمالية بكلماته البسيطة عن “الملعونة الأمريكية ” أعلاه أو ما هي إلا إرهاصات للجوع الذي جاء لاحقاً ودخل السودان من النفق المظلم بسبب السياسات الامبريالية وأدواتها الرخيصة في السودان ….
(من هذه الانهيارات الثمانينية والصعود المذهبي الأصولي، كتبت محاولتي الروائية الأولى ، أبناء محمد احمد والتي غيرت اسمها لاحقا إلى “الساقية”* وقمت بطباعتها في اليمن , حاولت تغطية فترة الصعود (1969 -ـ1977م)ثم الانهيار (1978-ـ1985) ونقطة التحول كانت “المصالحة الوطنية”* التي أتت بالقوى الرجعية (الجبهة الوطنية) برموزها المبتذلة إلى ثورة مايو الاشتراكية واتفاقية أديس أبابا* مع جنوب السودان و أجهضتها)*…
****
الأمر لا يخلو من طرافة أيضا عندما يتداعى زين أعمق ويتذكر تيس عبدالمعروف* في مدينتهم العتيدة عطبرة :-
كنا نراه يجوس في طرقات مدينتنا،يمشى بخيلاء تسبقه رائحته النتنة في كل مكان،تلك الرائحة القبيحة التي يمكنها أن تسقط صقرا من ارتفاع عشرة آلاف قدم فوق سطح البحر , كان لا يتوانى في الإعلان عن فحولته أمام الآخرين بإصدار تلك الأصوات العالية التي يسمعها كل سكان الحارة.. يسبب لنا فزعاً رهيباً نحن الأطفال، متخصص في مطاردة الأطفال خاصة الإناث ولا يتركهن حتى يلوثهن ببوله النتن..انه أحد معالم مدينتنا في تلك الفترة في السبعينات..انه تيس عبد المعروف سمعنا نحن الصغار أن عبدالمعروف رجل من أولياء الله الصالحين فكان لا بد لهذا التيس الضخم الجثة أن يستمد قدسيته، من ذلك الولي..يدخل بيوت المواطنين يعيث فيها فسادا..يلتهم كل شيء ولا أحد يستطيع أن يزجره حتى لا تذهب البركة من البيت..أحيانا يغزو السوق ويتناول الحبوب في الفراشات..هذا التيس يتجول في كل طرقات المدينة يعاشر كل الماعز ولا يجد من يقف في طريقه حتى جاء ذلك اليوم المشهود وكنت قد غبت عن المدينة طويلا بحكم عمل الوالد في وزارة التربية وتنقله عبر مدن السودان المختلفة أخبرني صديقي عوض(طقش)* في يوم كانت مباراة حاسمة لفرقة كرة القدم “نادي الوادي” *الذي يشجعه أبناء حارتنا أدت النتيجة إلى هزيمة فرقتنا وسقط إلى الدرجة الثانية،خرجت الجماهير الغاضبة تندب حظها العاثر وكان تيس عبد المعروف..الذي دب فيه الكبر لا يعرف ذلك،اندفع خارجا من زقاق يسير بخيلائه المعهود أمام الشباب الذين لم يعاصروا الأسطورة ونشأوا في ثورة مايو الاشتراكية،ما كان منهم إلا أن اندفعوا يرجمونه بالحجارة ويضربونه بالهراوات والسيخ حتى اسلم الروح وسحبوا جثته بالحبال وألقوه في مزبلة المدينة مع القوى الرجعية المرتبطة بالاستعمار وانتهت أسطورة التيس الذي لا يقهر ،التيس المقدس..تيس عبد المعروف,الذي قضى عليه حظه العاثر ولم يمتد إلي عصرنا هذا الذي أصبحت فيه التيوس من أرباب المجالس)..
*****
وأيضا لزين باع في تدبيج المقالات )-:السكة الحديد والثورة الاجتماعية في اليمن
عندما جاءت بنا رياح التغيير إلى اليمن السعيد في بدايات التسعينيات1991م مع ميلاد الوحدة اليمنية، كنت معلما في مدينة الحديدة الساحلية، ولا ادري آنذاك ما الذي كان يشدني للجلوس الساعات الطوال قبالة الساحل في كورنيش  المدينة الأنيق ، كنت أقول دائما لجلسائي من  الشباب الذين يدرسون في جامعة الحديدة ويقرضون الشعر على استحياء” إن هذا الكورنيش يشبه محطة السكة الحديد في مدينتي عطبرة. .واني أكاد أرى قطاراً يمر أمامي واسمع ضجيجه في إذني..كانوا يستغربون حديثي عن “قطار في اليمن” ويرددون:..  تالله انك لفي ضلالك القديم.. ما فتئت تذكر عطبرة والقطار  حتى تصبح حرضا أو نسيا منسيا”..كنت أرد عليهم مازحا”يا قوم ليس بي خرف ولكني أرى ما لا ترون”… مضت السنون ودارت الأيام..وإيقاع الزمن الدوار ابتلع  الزامر والمزمار كما يقول الشاعر المصري الراحل..
صلاح عبدالصبور..واليوم قرأت على شبكات الانترنت..انه سيكون هناك مشروع للسكة الحديد جبار يمر عبر كافة ساحل اليمن يربط بين السعودية واليمن وسلطنة عمان..وأدركت تماما أن الأحلام ليست سوى برنامج في رحم الغيب..وان الشعوب التي لا تحلم لا تتطور وقيل أن المبدع يحلم في اليقظة والشخص العادي  يحلم في المنام..
أثمن اليوم ضرورة أن تكون هناك سكة حديد في اليمن مع التغيير ،حتى يكون التغيير حقيقياً وأنا ابن مدينة كانت تعيش بالسكة الحديد وتموت بموتها ،ورغم أن السكة الحديد قديمة جدا في السودان ،منذ الغزو البريطاني في القرن الثامن عشر 1889م ،إلا أنها عملت على مر السنين على تشكيل هوية السودان  وتوحيده والربط بين مناطقه المختلفة وخلقت علاقات اجتماعية وتآخياً وتآلفاً بين الناس وأثرت   الثقافة السودانية والغناء السوداني والشعر السوداني الذي لا يخلو من تيمة القطار…
كما بقيت في الذاكرة الوجدانية لنا ،مواسم الحجيج وقطار الحجاج، والقطار  الذي يجمع الحجاج من كل أنحاء إفريقيا والسودان في مدينة عطبرة ثم يقلهم إلى بور تسودان إلى جدة عبر السفن..كان منظرهم بملابسهم البيضاء في غدوهم إلى الأراضي المقدسة  وعودتهم منها..والاحتفالات التي تقام لهم الأثر الطيب في نفوسنا وفي هذا المرفق الرائع  “السكة الحديد” الذي يعظم شعائر الله.. وإنها من تقوى القلوب..
اليوم وأنا انظر حولي في عصر العلم والمعلومات  إلى عالم متغير لم يتخل أبدا عن هذا الناقل الوطني الجبار حتى في الصين وبها أسرع قطار في العالم    يربط بين شنغهاي وهونج كونج بقطار سرعته 400 كلم/ساعة عبر 2300 كيلومتر  وارى الولايات المتحدة تسعى لتجديد خطوطها الحديدية لأهمية القطار في هذا العصر واجد أن دول مجلس التعاون الخليجي تسعى لمشروع ربط كبير بين دولها أسوة بالاتحاد الأوروبي..استغرب لماذا لا يحتفي بالسكة الحديد في اليمن؟؟!!
في كافة الأوساط الفكرية والثقافية والسياسية على الوجه المطلوب في “مقايلهم  المتعددة”.. في المركز والهامش، حتى يكون هذا المشروع الحيوي والهام  جزءاً من وعي وأحلام المواطن الطيب المشروعة و يعتبر مرفق السكة الحديد من أهم المرافق في الدولة المعاصرة لأنه يحدد ملامح القطر وهو أشبه بالجهاز الدوري،القلب والأوردة والشرايين في الإنسان والثديات العليا ويقود ثورة اجتماعية حقيقية   ويربط أطراف الوطن  المترامية بالمركز،كما انه يوفر عمالة كبيرة تستطيع امتصاص كافة القوى العاملة في البلاد في مرافقه المختلفة،نسبة للحراك البشري الكبير بين اليمن ودول الجوار والسعودية    الربط بين البلدين عبر خط  سكة حديد الساحل المزدوج سيستوعب التحركات بين البلدين ويقننها عبر منافذ محددة ،كما انه أيضا يسهل نقل الحجيج والمواطنين والمحاصيل الزراعية و البضائع والماشية يزيد من  حجم التبادل التجاري بين البلدين..وحتما سيشكل إضافة نوعية لاقتصاد البلدين الجارين..وسيشعر المواطن أن هناك تغييراً نوعياً  فعلا حدث في بلاده..ويصبح جزء من إستراتيجية دمج اليمن في دول مجلس التعاون الخليجي على المدى البعيد…وتنتهي معاناة 95% من أبناء اليمن السعيد والتي هي في جوهرها اقتصادية ناجمة عن عجز في إدارة الموارد المهولة التي يتمتع بها اليمن  بصورة علمية كما هو الحال في جل الدول العربية غير النفطية وبلدي السودان ليس استثناء…كان في أوج  استقراره وازدهاره  في العصر الذهبي “السبعينيات” والرئيس الأسبق الراحل جعفر  نميري واتفاقية أديس أبابا 1972م التي  جاءت بالحكم الإقليمي اللامركزي قضت بتقسيم  السودان إلى ستة أقاليم قوية..أبقت الجنوب نفسه بحكم ذاتي داخل السودان الواحد وظلت السكة الحديد تجوب البلاد طولا وعرضا بقاطرة حديثة من دولة المجر  وأمريكا,  من مدينة واو في أقصى الإقليم الجنوبي  إلى مدينة حلفا في أقصى  الإقليم الشمالي  عند الحدود المصرية وبحيرة السد العالي     ومن نيالا أقصى الغرب في إقليم دارفور إلى بورتسودان في الإقليم الشرقي…أما السؤال عمّن أجهض هذه الاتفاقية الرائعة  1972-1978م فاسألوا أهل  الذكر إن كنتم لا تعلمون وأهل الذكر عندنا في السودان المفكر البارع د. منصور خالد* وكتابيه “السودان في النفق لمظلم” و“الواعد الحق والفجر الكاذب” عن تجربة حكم الرئيس نميري وثورة مايو الاشتراكية  1969 – 1985  التي بدأت بسبع بقرات سمان وانتهت بسبع بقرات عجاف بسبب تمكين الاخوان المسلمين 23 /1/ 1999م)*..
*****
ظلت حياة زين بين السكينة والعزلة وبين عوالم الريف التهامي الساحر حتى تم نقله مع من تبقى من المدرسين السودانيين إلى محافظة الجوف* في أقصى شرق اليمن.. ودخل زين في سحر جديد ومعالم في ربوع السعيدة وفي البلدة الطيبة والرب الغفور والبلد الذي يشبه السجاد الفارسي الشديد التنوع والجمال …

 

 

قد يعجبك ايضا