14 أكتوبر.. التعبير الحي لوحدة اليمنيين ضد الاستعمار

من انتفاضة 1936 إلى ثورة ردفان 1963م
إعداد/ جمال الظاهري
“تتوالى الأجيال وتتبدل الاهتمامات والمواقف وتتجدد التحديات كسنن إلهية لا مناص من التعامل معها وفق ما يفرضه القدر من متغيرات, إلا أن تكرار التجارب والأحداث يطبع بصمته في كل جديد”.
اليوم تهل علينا الذكرى الــ 54 لثورة 14 أكتوبر المجيدة، واليمن يلبس للعام الثالث على التوالي ثوب المعاناة والقتل بسبب العدوان السعودي الغاشم ومحاولة إعادة الماضي التسلطي الاستعماري ولكن من قبل أدوات المستعمر القديم الذي يتوارى خلف أدواته في منطقتنا العربية (السعودية والإمارات وبقية صنائعه من مشيخات وأنظمة الخليج والوطن العربي).
لكن (55) عاماً على ثورة 14 أكتوبر 1963م هذا الحدث الأبرز في تاريخ اليمن الحديث, لم يكن يوماً عادياً, لأن ما نتج عنه ثمرة لنضال وتضحيات عشرات الآلاف من أبناء اليمن الذين عانوا وضحوا من أجل نيل الاستقلال وطرد المستعمر الذي استولى على الأرض وخيراتها واستباح دماء الشعب من تاريخ (19 يناير 1839م) إلى 30 نوفمبر 1967م تاريخ رحيل آخر مستعمر لجزء غالٍ من أرض اليمن الحبيب.
وإننا عندما نحتفل بذكرى ثورة الـ14 من أكتوبر المجيدة إنما نحتفل بمآثر أسلافنا العظيمة الذين بذلوا من أجلها الغالي والنفيس وينبغي علينا أن نبقيها حية ونُدرّسها لبراعمنا, لنأخذ منها العبرة والدروس وليستمد منها صغارنا الفخار والعزة والثقة بالنفس.
في هذا العرض ومن المنطلقات سالفة الذكر سنعود بكم إلى الوراء لنستعرض سوياً الأسباب والأحداث التي سبقت صنع هذا الانجاز, بالشخوص والأماكن وما صاحبها حتى انبلاج فجر الثورة وتفجُر ضوئها من على قمم جبال ردفان وثوارها العظماء.
لقد كان احتلال جزيرة بريم ذات الموقع الاستراتيجي الهام في مدخل البحر الأحمر سنة 1799م, نقطة البداية للنفوذ البريطاني في اليمن, ونظرا لأهمية عدن ولقربها من بوابة البحر الأحمر الجنوبية قامت في العام 1839م باحتلالها, متذرعة بحادثة عرضية يشوبها الكثير من الشكوك, ويومها واجهت مقاومة عنيفة من أبناء عدن التي كانت تتبع سلطان لحج.
وتشير الكتب التي دونت في سجلها تاريخ الاحتلال البريطاني لعدن قائلة “إن بريطانيا العظمى أدركت منذ بداية إطلاقها لموجاتها الاستعمارية أهمية موقع عدن، فحاولت أن توجد لها مكانا على هذه المنطقة، وتمكنت عام 1799م من احتلال جزيرة (ميون) وبدأت تظهر رغبتها في فرض نفوذ قوي لها في عدن وما حولها، حتى جاء عام 1802م حين عقدت اتفاقية مع سلطان لحج الذي كانت عدن تابعة لسلطنته، بموجبها التزم السلطان بفتح عدن أمام البضائع البريطانية وحماية رعاياها.
لكن ذلك بدا غير كاف لبريطانيا التي عملت لفرض سيطرتها المباشرة على عدن بشتى الطرق ومن بينها افتعال ذلك الحادث الذي وقع في يناير 1837م في المياه اليمنية واتخذته بريطانيا ذريعة لاحتلال عدن، حيث غرقت السفينة (داريادولت) قرب عدن وزعم قائدها الكابتن هنس أنها أغرقت من قبل مهاجمين يمنيين.
ليعود هنس في العام التالي بحملة عسكرية مكونة من سفينة وزوارق عسكرية ويحصل قتال شرس بينه وبين المدافعين عن عدن، ويطلب الإمدادات من بومباي ليصله المدد في ديسمبر 1838م, وبه تمكن من التقدم نحو مدينة عدن التي احتلها في (19 يناير 1839م) في معركة غير متكافئة سقط في صبيحة ذلك اليوم حوالي (139) شهيداً من أبناء اليمن المدافعين عن المدينة.
ومن ذاك التاريخ بدأت مرحلة الكفاح والنضال وإن شهدت بعض حقبه فترات من الهدوء فإن ذلك لم يكن أكثر من استراحة محارب, وقد تنوع النضال والمقاومة حسب الإمكانيات وأخذ أشكالا عديدة حسب طبيعة المرحلة وملابسات المحيط اليمني الذي لم يستقر لكثرة الصراعات والحروب والصراعات والتنافس الداخلي ومع أطراف خارجية – الأتراك والأئمة والايطاليين والحرب العالمية الأولى والثانية وصولاً إلى تحرر الشطر الشمالي من الأتراك, ومن ثم الحركات والثورة على النظام الإمامي الذي قضي عليه بثورة 26 سبتمبر 1962م.
(129) سنة قضاها المستعمر البريطاني في جنوب اليمن لم يمر عليه فيها يوم دون أن يواجه أحد أشكال المقاومة, بالرغم من كل الوسائل والاحتياطات والتدابير المتعددة التي اعتمدها, والتي منها الاتفاقيات والمعاهدات التي نجح في عقدها مع الحكام المحليين للإمارات والسلطنات والمشيخات التي كانت قائمة حينئذ, ومنذ أن استولى الكابتن هنس على عدن إلى أن أجبر المقدم (داي مورغان) آخر عسكري إنجليزي على الرحيل في 29 نوفمبر1967م من عدن.
لمحة بسيطة عمّا كان قائماً
كان الأتراك يحتلون الشمال اليمني وأجزاء واسعة من الجنوب وكانت تحدث بينهم وبين البريطانيين أو السلطنات التي تتبع التاج البريطاني مواجهات نتج عنها سيطرة الإنجليز على الضالع وأجبروا العثمانيين على ترسيم الحدود، وذلك الترسيم هو ما قسم اليمن إلى “شمال” و”جنوب” الذي عرف إلى ما قبل الوحدة 1990م, وفي هذا تذكر المصادر البريطانية أن العرب لم يهتموا بهذا الخط الفاصل يومها.
كان الأئمة في الشمال في حالة نضال وقتال مستمر مع الأتراك فأُنهك العثمانيون, وتمكن الإمام يحيى حميد الدين من إجبارهم على الاستسلام 1918م, استلم السلطة من الاتراك وظل حاكما حتى مقتله في 1948م, وخلفه ابنه الإمام أحمد ومن ثم الحفيد البدر ابن أحمد وقد شهدت فترة أحمد أحداثاً كبيرة انتهت بثورة 26 سبتمبر 1962م.
أما عن الوضع في مستعمرة عدن وبقية المحميات فقد كانت مقسمة إلى قسمين محمية غربية وشرقية وصل عددها إلى ثلاث وعشرين سلطنة وإمارة وعدة قبائل بدوية كانت مستقلة تماماً عن تأثير السلطنات.
– وقد دخلت عدن في الفترة بين عامي 1940م و1945م في منطقة الصراع العالمي بعد إعلان إيطاليا دخولها الحرب كحليف للألمان، وتعرضت للقصف الجوي من قبل سلاح الجو الإيطالي، مما اضطر الكثير من أهالي عدن إلى النزوح إلى لحج وغيرها.
ومن ضمن ما ميز أربعينيات القرن الماضي صدور الكثير من الدوريات والصحف والمجلات, وحضور التيارات السياسية والفكرية التي كان المتصدر لها في حينه التيارات الإسلامية.
أبرز الانتفاضات من 1936- 1959م
على الرغم من سياسات شراء الذمم التي عمدت إليها سلطات الاحتلال البريطاني بهدف تأمين بقائها وتمكين سيطرتها وضمان سلامة قواتها فقد شهدت مناطق الجنوب العديد من الانتفاضات الغاضبة والرافضة في مختلف أرياف الجنوب اليمني المحتل ومن أهم وأبرز تلك الانتفاضات:
انتفاضة بن عبدات الكثيري في حضرموت من عام 1938م ـ 1945م – انتفاضة ردفان في الأعوام 1936م ـ 1937م ـ 1946م ـ 1949م ـ 1954م – انتفاضة حضرموت في الأعوام 1944م ـ 1951م ـ 1952م ـ 1955م ـ 1961م – انتفاضة بيحان في عامي 46 ـ 1947م – انتفاضة الصبيحة في عام 1942م – انتفاضة الفضلي في الأعوام 1945م ـ 56 ـ 57م – انتفاضة الحواشب عام 1950م – انتفاضة دثينة عام 1958م – انتفاضة يافع في عامي 1958م ـ 1959م.
كما شهدت المحميات الغربية وحتى فبراير 1957م أكثر من خمسين حادثة معظمها إطلاق نار على المراكز البريطانية وعلى المسؤولين المحليين في كلٍ من ردفان وحالمين والضالع، منها في 24 فبراير 1957 (16) رجلاً من قبيلة الأزارق ينصبون كميناً لدورية عسكرية بريطانية تتكوّن من 22 فردا من قوات الكاميرون مايلاندر أسفر عن قتل اثنين من الدورية وإصابة ستة بجروح.
تنامي المد القومي والنزعة التحررية
كان لقيام ثورة 23 يوليو 1952م في مصر أثر كبير في تصعيد الأشكال النضالية المعبرة عن رفضها لبقاء الاستعمار البريطاني على أرض الجنوب والتطلع ليوم النصر وجلاء قوات المستعمر ونيل الاستقلال، فكانت فترة الخمسينيات فترة التعبير عن ذلك الزخم العظيم سياسياً ونقابياً وطلابياً، وعكست القناعات والطموحات وترسخ الإيمان بضرورة الأخذ بخيار الكفاح المسلح لتخليص الجنوب من براثن الاستعمار البريطاني.
وبحلول الخمسينيات أدرك الإنجليز أنهم لن يستطيعوا الاستمرار بإدارة عدن مباشرة، ففكروا بإقامة كيان بعيداً عن موجة القومية العربية التي اجتاحت المنطقة، وفي 4 يناير قدمت الإدارة البريطانية مشروع منح عدن حكماً ذاتياً في إطار الكومنولث أسموه (اتحاد إمارات الجنوب العربي)، وهو اتحاد فيدرالي يشمل المحميات الغربية حول عدن, وسُميَ المشروع بالكتاب الأبيض, ولكنه فشل، بسبب معارضة سلطان لحج ولخلاف السلاطين حول الهوية الرئيسة.
– في يناير أيضاً أصدرت السلطات البريطانية قانوناً للهجرة وأعطى الأولوية للأجانب، ووضع قيوداً مشددة أمام أبناء المحميات والشمال لدخول عدن.
ومن هذه الإستراتيجية جاءت فكرة “الجنوب العربي” وكانت فكرة إنجليزية أولا وأخيراً لعزل عدن وخلق كيان معتمد على بريطانيا.
الوعي الوطني وثورة المحميات
خلال الفترة من 1956 – 1958 شهدت الانتفاضة (الثورة) في المحميات الغربية والشرقية اطراداً في الكم والكيف نتيجة للمد الثوري العربي الذي بعثته الثورة العربية في عام 1952م وتنامي الوعي الوطني بأهمية النضال ضد المستعمر، واستفادت المقاومة الشعبية من الدعم الذي قدمه الإمام أحمد.
انقطع دعم الإمام بعد أن توصل إلى حلول مع البريطانيين، ونتج عن ذلك زيادة الهجمة العسكرية البريطانية ضد القبائل الثائرة التي لم تجد معظمها – وخاصة القيادات – من وسيلة سوى اللجوء إلى المناطق الشمالية أو الهجرة إلى دول عربية.
ومع ذلك فإنّ تلك القيادات التي لجأت إلى الشمال، قبل قيام ثورة 26 سبتمبر 1962 حاولت أن تتخذ من الشمال قاعدة لانطلاقتها النضالية ضد المستعمر، وتكوَّنت في عام 1957م جبهة أسميت (العاصفة العدنية) بقيادة محمد عبده نعمان الحكيمي الأمين العام للجبهة الوطنية المتحدة وكانت تذيع برنامجاً إذاعياً من إذاعة صنعاء باسم (صوت الجنوب), إلى أن تم منعهم من مزاولة نشاطهم من صنعاء.
فعمل مجموعة من المناضلين على تكوين تجمع جديد لهم في منطقة البيضاء الحدودية برئاسة محمد عبده نعمان الحكيمي ومقبل باعزب وباشتراك عدد من رؤساء القبائل وأسسوا هيئة تحرير الجنوب اليمني المحتل وحصلوا على بعض الأسلحة من مصرَ عام 1960م لكن مصادر قالت أن الإمام لم يسمح بخروج هذه الأسلحة من ميناء الحديدة .
مساندة ثورة 26 من سبتمبر للمناضلين
لقد سجل المناضلون الذين فروا من بطش المستعمر في الجنوب حضوراً قوياً في مشاركتهم في ثورة 26 سبتمبر وكان المناضل غالب بن راجح لبوزة أحد أولئك الذين ساهموا في قيام الثورة في الشمال, وكان لهذا الدور الأثر في مساندة قيادة الثورة الوليدة للمناضلين وثورة الرابع عشر من أكتوبر بعدة أوجه منها المساندة العسكرية والسياسية والاقتصادية واللوجستية وهنا نذكر بعضاً من المحطات الهامة لهذه المساندة:
ففي 24 فبراير 1963م عقد في دار السعادة بصنعاء مؤتمر “القوى الوطنية اليمنية” حضره أكثر من ألف شخصية سياسية واجتماعية ومستقلة، إلى جانب عدد من الضباط الأحرار وقادة من فرع حركة القوميين العرب.
وقد توصل المجتمعون خلال أعمال المؤتمر إلى اتفاق لتوحيد جميع القوى الوطنية اليمنية في إطار جبهة موحدة.
وجرى في المؤتمر استحداث مكتب تكون مهمته وضع مشروع ميثاق مؤقت للتنظيم الجاري تشكيله، وذلك على هيئة نداء إلى جميع القوى التي تؤمن بوحدة الحركة الوطنية اليمنية في النضال لحماية النظام الجمهوري والدفاع عن ثورة سبتمبر الخالدة، وتحرير الجنوب اليمني من الاحتلال الأجنبي، حيث استقر الرأي على تسمية هذه الجبهة باسم “جبهة تحرير الجنوب اليمني المحتل” أخذت في أغسطس من نفس العام تسميتها النهائية “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل” على أساس الاعتراف بالثورة المسلحة أسلوبا وحيدا وفعالا لطرد المستعمر.
وقد تمخض عن هذا المؤتمر تشكيل لجنة تحضيرية من الشخصيات والقيادات المشاركة فيه كان على رأسها (قحطان محمد الشعبي)، وبعد اجتماعات عدة عقدتها اللجنة التحضيرية أقرت في 8 مارس 1963 نص الميثاق القومي الذي كان يتألف من مذكرة والميثاق نفسه، وبرز في صدر الميثاق شعار الجبهة “من أجل التحرر والوحدة والعدالة الاجتماعية”. ونشرت في مايو 1963م الوثيقة الموضحة للخط السياسي لهذا التنظيم.
وفي 19 أغسطس 1963م تم إعلان تأسيس “الجبهة القومية لتحرير جنوب اليمن المحتل”, وقد تشكلت قيادة الجبهة من 12 شخصاً.
تكونت الجبهة من خلال اندماج سبعة تنظيمات سرية أعلنت إيمانها بالكفاح المسلح، وهي: حركة القوميين العرب، الجبهة الناصرية في الجنوب المحتل، المنظمة الثورية لجنوب اليمن المحتل، الجبهة الوطنية، التشكيل السري للضباط والجنود والأحرار، وجبهة الإصلاح اليافعية (تشكيل القبائل)، ثم التحقت ثلاثة تنظيمات أخرى بالجبهة القومية، وهي:
منظمة الطلائع الثورية بعدن، منظمة شباب المهرة، والمنظمة الثورية لشباب جنوب اليمن المحتل.
عودة الثوار والقلق البريطاني
القلق البريطاني من نجاح الثورة في الشمال وأثرها على النشاط الثوري في المحميات والمشيخات والمستعمرات جعله يقف في صف العداء لثورة سبتمبر 1962م بداية من خلف مملكة آل سعود, ومن ثم مساعدتها في التحايل على الاتفاق الذي وقعته مع مصر الخاص بالانسحاب من اليمن, وذلك عن طريق جعل إمارة بيحان نقطة تجميع للفيف من المقاتلين الأجانب ووصول للإمدادات العسكرية السعودية لقوات الإمام البدر.
وفي هذا يقول الكاتب والصحفي المصري الشهير (محمد حسنين هيكل) في كتابه (لمصر لا لجمال عبدالناصر) عن الدور البريطاني التآمري على ثورة 1962م في الشمال وعلاقتها بثورة 14 أكتوبر 1963م في الجنوب المحتل من قبل البريطانيين وما قد يشكله استقرار ثورة الشمال على وجودهم في الجنوب ونقتطف لكم جزءاً من حديثه الآتي:
(وفى بداية الشتاء، شهر أكتوبر سنة 1963 وبعده، بدا كما لو أن قوة جديدة بدأت تتدخل ضد الثورة اليمنية تدخلاً سافراً.
كان التدخل من “بيحان” الخاضعة للحكم البريطاني، ولإدارة “عدن” الاستعمارية.
ولم تكن بريطانيا قد تورعت منذ اليوم الأول عن العمل ضد ثورة اليمن، لكنها حرصت في المرحلة الأولى من المعركة، وحين كانت المملكة السعودية هي الطرف الأصلي فيها، أن تكتفي بدور القوة المساعدة.
لكن انتصار ثورة اليمن المؤكد بدأ يهز سلطانها في اتحاد الجنوب العربي الواهي وفي عدن خصوصاً بعد أن بدأت شرارات الثورة تبرق في الآفاق.
وظهر أن بريطانيا لا تكتفي بالإرهاب، بالنار والسجون تحاصر بهما ثوار عدن لكنها أصبحت تعتقد أن الثورة اليمنية هي محرك احتمالات الثورة في الجنوب المحتل, وبدأت بريطانيا تتدخل، تدخلاً لم يعد يهمه في بعض الأحيان أن يغطى وجهه.
لكن الشكل المحدد لهذا التدخل – والحديث لا زال لهيكل- وأبعاده، لم يكن ظاهراً في البداية، وإن بدا الإحساس بشكل عام، أن معركة جديدة ضد الثورة اليمنية قد بدأت, وقاعدتها الأساسية عدن، ونقطة عملها المتقدمة “بيحان”.
وبعد أن استتب الأمر للثوار في الشمال ونجحت ثورتهم وجد المناضلون ضد الاستعمار أخيراً ما كان ينقصهم, نقطة التجمع والحشد والتدريب الآمنة ومثلتها المحافظات الحدودية مثل تعز والبيضاء وإب, والدعم والمساعدة العسكرية والسياسية اللازمة من قبل النظام الجمهوري في صنعاء, وما قد يصل عن طريقها من قبل مصر والحكومات التي كانت في حالة حرب وخلاف مع بريطانيا العظمى كروسيا والصين والتشيك.
كانت كل هذه الأمور مهمة وضرورية لمباشرة نشاطهم وعقد لقاءاتهم والتحضير والانطلاق من أرض آمنة لتنفيذ المرحلة الأهم والأخطر في مسيرة كفاحهم ضد المستعمر البريطاني, وبعد انتهاء التحضيرات والمؤتمرات وتوزيع الأدوار بينهم عاد من كانوا قد فروا إلى الشمال بعزيمة وإصرار ومعنويات وثقة أكبر في تحقيق النصر وطرد الاستعمار.
وكان لأبناء ردفان شرف استقبال الثوار العائدين من شمال الوطن بقيادة (غالب بن راجح لبوزة) في أغسطس 1963م,
فجر الثورة ونقطة الانطلاق
قرابة الشهرين فقط من تاريخ عودة الثوار من الشمال كانا كافيين لتحضير ميدان المعركة وانطلقت الشرارة الأولى لثورة 14 أكتوبر 1963م في جنوب اليمن ضد الاستعمار البريطاني، من جبال ردفان، بقيادة أول الشهداء غالب راجح لبوزة.
واجهت السلطات الاستعمارية بشن حملات عسكرية غاشمة بأحدث ما كان معروفاً حينها من أسلحة, واستمرت المواجهات لستة أشهر، ضربت خلالها الطائرات العسكرية البريطانية القرى والسكان الآمنين بمختلف أنواع الأسلحة، وتشرد على إثرها آلاف المدنيين.
بدأت في 7 فبراير 1964 أول معركة للثوار اليمنيين استخدموا فيها المدفع الرشاش في قصف مقر الضابط البريطاني في ردفان (لحج)، وفي 3 أبريل 1964 شنت ثماني طائرات حربية بريطانية هجوماً عدوانياً على قلعة حريب، في محاولة للضغط على الجمهورية العربية اليمنية، لإيقاف الهجمات الفدائية المسلحة التي يشنها فدائيو الجبهة القومية من أراضيها.
وفي 28 أبريل 1964 شن مجموعة من فدائيي حرب التحرير هجوماً على القاعدة البريطانية في الحبيلين (ردفان)، وقامت طائرات بريطانية في 14 مايو 1964 بغارات ضد الثوار في قرى وسهول ردفان، أدت إلى تدمير المنازل في المنطقة، كما أسقطت منشورات تحذيرية للثوار الذين أسمتهم بـ”الذئاب الحمر” ، وفي 22 مايو 1964م أصاب ثوار الجبهة القومية في ردفان طائرتين بريطانيتين من نوع “هنتر” النفاثة .
كانت ردفان نقطة الانطلاق والمنطقة الأكثر سخونة, وقد اتّبعت القوات البريطانية في هجماتها وغاراتها على مناطق ردفان سياسة “الأرض المحروقة” وخلفت كارثة إنسانية فظيعة جعلت أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني يدين تلك الأعمال غير الإنسانية.
تطور نوعي
بعد أن انطلقت الشرارة الأولى توسع العمل الفدائي وتنوع وأخذ أشكالاً عديدة وتميز بالجرأة والإقدام من قبل المناضلين, ومن تلك الأعمال العملية الفدائية في 10 ديسمبر 1963م ألقيت فيها قنبلة في مطار عدن أسفرت عن إصابة المندوب السامي البريطاني (تريفاسكس) بجروح ومصرع نائبه القائد جورج هندرسن، إصابة 35 فرداً من المسؤولين البريطانيين وبعض وزراء حكومة الاتحاد الذين كانوا يهمون بصعود الطائرة المتوجهة إلى لندن لحضور المؤتمر الدستوري الذي أرادت بريطانيا من خلاله توقيع اتفاق مع حكومة الاتحاد يضمن لها الحفاظ على المصالح الإستراتيجية في عدن.
كان لهذه العملية الأثر الطيب في توسع وتطور العمل النضالي فمن خلالها افشل المؤتمر, وبها افتتح وانتقل الكفاح المسلح ضد الاستعمار البريطاني من الريف إلى المدينة.
وفي 11 ديسمبر 1963م صدر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، القاضي بحل مشكلة الجنوب اليمني المحتل وحقه في تقرير مصيره والتحرر من الحكم الاستعماري البريطاني.
وفي عام 1965 اعترفت الأمم المتحدة بشرعية كفاح شعب الجنوب طبقاً لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
تعز وتوسع رقعة الكفاح المسلح
بعد الصمود الذي أبداه ثوار ردفان وما تكبده جيش المستعمر البريطاني, تمدد الكفاح المسلح وأنطلق في مناطق وإمارات وسلطنات أخرى.
بدأ في إمارة الضالع بتاريخ 24 يوليو 1964م بقيادة (علي احمد ناصر عنتر)، عقب عودة عدد من الشباب من تعز الذين خضعوا فيها لدورة تدريبية عسكرية دامت شهرين لينضموا إلى صفوف الرجال العائدين من شمال الوطن بعد مشاركتهم في الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر وبعد تلقيهم الدعم اللازم من إخوانهم في الشمال، فعاد قادتهم من تعز ومعهم السلاح والذخائر والقنابل اليدوية.
اشتدت العمليات الفدائية على قوات الاستعمار ما اضطرها إلى إعلان وإصدار قانون الطوارئ في 19 يونيو 1965م, حظرت بموجبه نشاط أهم وأقوى فصائل المقاومة (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل)، واعتبرتها (حركة إرهابية)، وقامت بإبعاد (245) مواطناً من أبناء شمال اليمن.
ردت (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل) على إجراءات المستعمر البريطاني بأن عقدت مؤتمرها الأول في تعز بتاريخ 22 يونيو 1965م, وأعلنت فيه موقفها الثابت لمواصلة الكفاح المسلح ضد المستعمر البريطاني حتى جلائه عن أرض الوطن, وأعلنت من خلاله نفسها الممثل الوحيد لأبناء الجنوب اليمني المحتل, كما أقرت في هذا المؤتمر لائحتها الداخلية والميثاق الوطني.
مناضلو الضالع وفي 30 يوليو 1965م هاجموا بفرقة ثورية بقيادة (علي احمد ناصر عنتر) سرية بريطانية كانت قد تمركزت بنفس اليوم حول دار أمير الضالع، لتعزيز الحراسات لحمايته من هجمات الثوار، يومها أصيب خلال المواجهات القائد الميداني (علي شائع هادي بثلاث طلقات).
وفي 25 أغسطس 1965م رفضت الجبهة القومية نتائج مؤتمر جدة بين الرئيس جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة، والملك فيصل بن عبد العزيز ملك المملكة العربية السعودية، ونعتته بـ”مؤتمر الخيانة”، ورفضت أي حلول أو تسوية مع الملكيين باعتبار ذلك تهديدا للنظام الجمهوري وإضعافا للثورة في الجنوب, هذا الموقف لثوار الجنوب اليمني دليل كافٍ ورد شافٍ على من يشكك في واحدية النضال والمصير والثورة والأرض اليمنية.
الموقف الثابت والقوي الذي أبداه الثوار قابله المستعمر بمحاولة لخلخلة التلاحم في جبهة النضال حين أعلنت بريطانيا في 2 أكتوبر 1965م عن عزمها البقاء في عدن حتى عام 1968م, في إشارة لتراجع موقفها الرافض لتسليم الأراضي الجنوبية لأهلها كمحاولة أخيرة لالتقاط الأنفاس وترتيب صفوفها, لكن مستوى الوعي لدى الجماهير كان قد وصل إلى مرحلة الحصانة, فكان الرد الشعبي على الإعلان بأن بانتفاضة شعبية عنيفة من داخل مدينة عدن نتج عنها خسائر بشرية ومادية كبيرة.
محطات وتواريخ وأرقام
مهاجمة دورية بريطانية في الطرق الواصل بين المنصورة والشيخ عثمان في 1966م أصدرت الخارجية البريطانية “الكتاب الأبيض” في 22 فبراير 1966 الذي أعلن رسمياً قرار بريطانيا القاضي بمنح مستعمرة عدن والمحميات الاستقلال مطلع 1968م.
شكلت الجبهة القومية في 5 ابريل 1966م، لجنة لجمع التبرعات من المناطق الشمالية، استهلت اللجنة عملها من لواء إب حيث بادر المسؤولون والمشايخ والمواطنون بالتبرع بالمال والحبوب بأنواعها وأسهموا بنقلها إلى قعطبة.
في 22 ابريل 1966م اسقط ثوار جيش التحرير طائرة بريطانية أثناء قيامها بعملية استطلاعية لمواقع الثوار في الضالع والشعيب، فأرسلت السلطات الاستعمارية للغاية نفسها طائرة أخرى، فكان مصيرها كسابقتها، ما جعل القوة الاستعمارية وأعوانها تشدد من قصفها للقرى وتنكل بالمواطنين فيها.
في 28 يوليو 1966م نفذ فدائيون في حضرموت عملية قتل الكولونيل البريطاني (جراي)، قائد جيش البادية, وكان هذا الضابط هو الذي نفذ عملية اغتيال المناضلة الفلسطينية (رجاء أبو عماشة) عند محاولتها رفع العلم الفلسطيني مكان العلم البريطاني أثناء فترة الانتداب البريطاني لفلسطين.
أعلنت الحكومة البريطانية في أغسطس 1966م اعترافها بقرارات منظمة الأمم المتحدة لعامي 1963 و1965م التي أكدت فيها حق شعب الجنوب اليمني المحتل في تقرير مصيره.
في 31 ديسمبر 1966 قام ثوار جيش التحرير بهجوم مباغت على القاعدة البريطانية في الضالع، أدى إلى مقتل ثلاثة جنود وإصابة ثمانية آخرين، وتدمير ثلاث سيارات “لاند روفر” وإحراق عدد من الخيام بما فيها من مؤن ومعدات.
في تلك الفترة تطور العمل العسكري وشهد تنسيقاً أكبر, حيث وحد ثوار الضالع وردفان والشعيب هجماتهم على القوات الاستعمارية وأعوانها من خلال تشكيل فرقة قتالية مشتركة أسموها “الفرقة المتجولة” بقيادة (علي شايع هادي).
في 3 ابريل 1967م نفذ فدائيو حرب التحرير عدة عمليات عسكرية ناجحة ضد مواقع وتجمعات المستعمر البريطاني في مدينة الشيخ عثمان بعدن، كبدوا خلالها القوات الاستعمارية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، وسقط خلالها عدد من الشهداء في صفوف الفدائيين.
تمكن الفدائيون في 20 يونيو 1967 من السيطرة على مدينة كريتر لمدة أسبوعين.
وفي 21 يونيو 1967م سيطر ثوار الجبهة القومية في إمارة الضالع على عاصمتها ومعهم آلاف المواطنين الذين دخلوها في مسيرة حافلة يتقدمهم علي احمد ناصر عنتر, وتبع ذلك سيطرة الجبهة القومية على مشيخة المفلحي في 12 أغسطس 1967 بعد أن زحفت عليها بمظاهرة كبيرة شارك فيها أبناء القرى والمناطق المحيطة بالمشيخة، وتوالى بعد ذلك سقوط السلطنات والمشيخات بيد الجبهة.
وفي 5 نوفمبر 1967 أعلنت قيادة الجيش الاتحادي في جنوب الوطن المحتل وقوفها إلى جانب الثورة ودعمها للجبهة القومية، بعد أن باتت غالبية المناطق تحت سيطرتها.
كفاح من نوع آخر
شكلت النقابات الأساس الأكبر للاستياء الاجتماعي في عدن, حيث تشكلت أول نقابة لرابطة طياري ميناء عدن في عام 1952، وتبعها بسرعة تشكيل نقابتين بحلول نهاية عام 1954م وبحلول 1956 تشكلت معظم النقابات للحرف المتنوعة.
ومع ارتفاع وتيرة المقاومة وتشابك مظالم النقابات الاقتصادية مع المطالبات القومية والتحررية أصبحت الإضرابات والمظاهرات أحد أنواع العمل الثوري التحرري, ومنذ بدايات العام 1956 رافق نشاطها العديد من الهجمات على غير العرب, وقد شهدت عدن حوالي 30 إضراباً عمالياً في مارس 1956م.
كان الدور العمالي والنقابي وخاصة في مسيرة ثورة 14 أكتوبر حاضراً وهاماً في مرحلة النضال, ففي 15 فبراير 1967 خرجت جماهير غفيرة في عدن في مظاهرات حاشدة معادية للاستعمار البريطاني وهي تحمل جنازة رمزية للشهيد مهيوب علي غالب (عبود) الذي استشهد أثناء معركة ضد القوات الاستعمارية في مدينة الشيخ عثمان.
وفي 2 ابريل 1967م شل إضراب عام كافة أجهزة العمل في مدينة عدن، دعت إليه الجبهة القومية وجبهة التحرير.
وفي 30 نوفمبر 1967 تم جلاء آخر جندي بريطاني عن مدينة عدن ، وإعلان الاستقلال الوطني وقيام جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية ، بعد احتلال بريطاني دام 129 عاماً.
المراجع:
-1 سعيد احمد الجناحي: كتاب المسار النضالي وأحداث الثورة اليمنية.
2- اللواء علي السعيدي ورقة عمل بعنوان (دور ثورة سبتمبر في التهيئة لثورة 14 أكتوبر
-3 عبدالله حسين بركات ورقة عمل (واحدية الثورة اليمنية ومسار الخطوات الوحدوية).

قد يعجبك ايضا