زهرة المدائن في وطن الحضارات

 

 

عاصمة فلسطين الأبدية

 

خليل المعلمي

لم تشهد قضية في العالم الحديث أو القديم من الظلم والتجاهل والإقصاء والإبعاد لشعبها وتدمير وطنهم مثل ما حدث لقضية وشعب ووطن فلسطين الذي يئن تحت هذا الظلم منذ أكثر من قرن من الزمن.
كما لم يسبق في التاريخ الحديث أن غزت أقلية أجنبية وطن الأكثرية بدعم سياسي ومالي وعسكري من الخارج، وطردتها من وطنها وأزالت ملامحها، مثلما حدث في فلسطين، لقد وزعت إسرائيل البيوت الجميلة في القدس الغربية وحيفا وغيرهما على البارزين من رجال الحكم واستوعبت مئات الآلاف من اليهود القادمين من بلاد عربية في باقي المساكن، أما القرى فقد نسفت وهدمت بيوت ثلاثة أرباعها هدماً كاملاً.
إنها قضية شعب أصبح 70% منه لاجئين في مناطق الشتات في منتصف القرن العشرين الماضي، بعد أن تم طرد أهالي 531 مدينة وقرية من ديارهم عام 1948م وهم يمثلون 85% من أهالي الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948م، وحالياً يتجاوز عددهم أكثر من خمسة ملايين فلسطيني.
القدس العاصمة الأبدية
تختلف مدينة القدس عن كل مدن العالم قاطبة فهي مدينة كل الأديان السماوية وهي وطن لآثار مقدسة في كل دين وهي زهرة المدائن يقصدها الحجاج من كل الأديان وهي أيضاً مسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم وثالث الحرمين الشريفين.
القدس مدينة باقية بأهلها ومساكنها وآثارها وبمسجدها الأقصى، صامدة في وجه الإجراءات الإسرائيلية التي تطال هذه المدينة وعلى مدى القرون السابقة تحاول السلطات الإسرائيلية نفي المدينة المقدسة عن العروبة والإسلام، فلا يقتصر الأمر على التهويد وتحجيم دورها الثقافي والتنويري بل هي تسعى إلى الطرد التدريجي الممنهج لأهلها وبطرق شتى ومختلفة، ويظهر ذلك في حالات المدينة القديمة.
حضارات متعاقبة تراكمت حجارتها على هذه المدينة العتيقة وإذا كانت القدس الغربية التي احتلها اليهود في العام 1948م يظهر عليها التهويد والتغريب بشكل واضح إلا أن القدس الشرقية التي تم احتلالها عام 1967م لازالت رياح التعددية تقاوم التهويد.
وما يزيد محاولة سلطات الاحتلال الإسرائيلية طمس هوية هذه المدينة ومضايقة ساكنيها هو سكوت الموقف الدولي تجاه هذه الإجراءات وكذلك الإجراء الأخير الذي قام به الرئيس الأمريكي “ترامب” بالموافقة على نقل السفارة الأمريكية لدى الكيان الإسرائيلي إلى مدينة القدس واعتبار المدينة عاصمة لهذا الكيان الغاصب.
ومع ذلك فالعرب وحكوماتهم أمام اختبار حقيقي في إنصاف هذه المدينة العربية الهوية والإسلامية الحضارة، والوقوف أمام هذا الإجراء المنافي للقوانين الإنسانية والدولية.
وما الاستنكار الواضح والكبير في الشارع العربي إلاّ دليل على بقاء هذه المدينة المقدسة في أفئدة وقلوب جموع العرب والمسلمين في العالم أجمع.. فالقدس ستظل هي عاصمة دولة فلسطين الأبدية.
وعد بلفور
بدأت المؤامرة تحاك عندما قامت سلطات الاحتلال البريطانية بنقض وعودها للعرب بمنحهم الاستقلال عند زوال الحكم التركي لبلادهم وأصدرت على لسان وزير خارجيتها وعد بلفور في 2 نوفمبر العام 1917م الذي ينظر بعين العطف لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، فكان ذلك قمة الظلم والطغيان أن يقوم من لا يملك بمنح وطن لمن لا يستحق دون علم صاحب الحق.
ومنذ تلك الفترة بدأت هذه السلطات السماح للجماعات الصهيونية اليهودية بالهجرة المنظمة إلى فلسطين وبعد قيام السلطات البريطانية بدعم هذه الجماعات بالأسلحة وتمكينها على الأرض على حساب المواطنين الفلسطينيين العزل وطردهم من أرضهم ومساكنهم لتبدأ حياة الشتات والمعاناة لهذا الشعب المظلوم.
وخلال 28 عاماً من حكم الانتداب البريطاني على فلسطين، سنت السلطات البريطانية القوانين واتخذت الإجراءات التي سهلت إنشاء هذا الوطن حتى أصبح دولة عام 1948م، وارتفع عدد اليهود المهاجرين حتى هذا التاريخ 605 آلاف يهودي، وكان للسلطات البريطانية الدور في السماح لهذه الإعداد بالهجرة إلى فلسطين رغم معارضة الأهالي ومقاومتهم وثوراتهم ومن أهمها ثورة 1936م، وأصبح عدد اليهود 30% من سكان فلسطين.
كما قامت السلطات البريطانية بإنشاء إدارة للمساحة هدفها تحديد ملكية كل أرض لمعرفة كيفية الاستيلاء عليها ثم تدفقت أموال اليهود لشراء الأراضي بأسعار خيالية، وكانت ضالتهم المنشودة كبار الملاك الغائبين من رعايا الدول العربية المجاورة وبعدها اتجهوا إلى كبار الملاك الفلسطينيين الذين يعشون في المدن، أما الفلاحون المتمسكون بأرضهم يفلحونها منذ مئات السنين، فقد ضيقت بريطانيا عليهم الخناق بفرض الضرائب الباهظة عليهم حتى لا يجد الفلاح المسكين غير المرابي اليهودي لإقراضه مقابل رهن أرضه التي لا تلبث ان تقع في حوزة اليهودي بسبب عدم السداد.
تقسيم جائر
ورغم الإجراءات التي اتبعتها السلطات البريطانية لمساعدة اليهود من أجل الاستيلاء على الأراضي إلا أن الصهيونية لم تنجح إلا في الاستحواذ على 6% من مساحة فلسطين، لكنها نجحت في زيادة عدد اليهود إلى 30% من مجموع السكان. بعد ذلك نقلت الصهيونية جهودها إلى أمريكا التي ضغطت على الدول في الأمم المتحدة من أجل إصدار قرار لتقسيم فلسطين بين أهلها أصحاب الحق فيها، وبين مهاجرين غرباء، فكانت الطامة الكبرى عندما نجح قرار التقسيم بأغلبية ضئيلة لكي يوصي بإنشاء دولة يهودية على 54% من أرض فلسطين ودولة عربية على باقيها مع تدويل القدس تحت إدارة منفصلة.
فكان قرار التقسيم عبارة عن مهزلة تاريخية قضت بأن تفرض أقلية أجنبية مهاجرة سيادتها على أكثر من أرض فلسطين أي تسعة أضعاف ما كانت تملكه.
بعد قرار التقسيم بدأ تطبيق خطة التهجير القسري للفلسطينيين وهم السكان الأصليون وذلك في أبريل 1948م أثناء وجود الانتداب البريطاني وبدأت عملية الاستيلاء على الأراضي العربية وطرد سكانها، واتبعت القوات اليهودية سياسة التنظيف العرقي فكانت تحيط بالقرية من ثلاث جهات وتترك الرابعة مفتوحة ثم تجمع سكان القرية في مكان وتبدأ عملية الهجوم عليهم لإعدامهم، وتترك الباقين ليهربوا وينقلوا أخبار الفظائع ومن أشهر هذه المذابح مذبحة (دير ياسين) وهي واحدة من 17 مذبحة اقترفت أثناء الانتداب و17 أخرى بعده، كل ذلك تم تحت نظر وإشراف سلطات الانتداب البريطانية التي لم تحرك ساكناً لحماية الأهالي بحسب ميثاق الانتداب.
ومع نهاية الانتداب كان اليهود قد سيطروا على 13% من مساحة فلسطين وطردوا 400 ألف فلسطيني من 199 قرية وأعلنوا قيام دولتهم على هذه الرقعة وبدأت المدن الفلسطينية تتساقط الواحدة تلو الأخرى يافا، حيفا، طبرية، صفد، بيسان وعكا.
حرب 1948م
بعد تلك الفظائع التي ارتكبها اليهود ضد الفلسطينيين هاج الشعب العربي واستنكر تلك الجرائم، ونتيجة لذلك استجابت الأنظمة العربية وأدخلت قوات نظامية صغيرة إلى فلسطين ولكن دون خطة موحدة أو معرفة بالبلاد وبالعدو وإمكانياته التي كانت تفوق القوات العربية مجتمعة.
لم تتمكن القوات العربية من وقف المد الإسرائيلي الذي سرعان ما انتشر ليحتل اللد والرملة ويمد جسراً إلى القدس ويحتل مساحات واسعة في الجليل ومن هذه المناطق نزح الفلسطينيون وكان عددهم160 ألفاً إلى رام الله في ظروف صعبة وعندما أعلنت الهدنة الثانية قفز عدد اللاجئين إلى 630 ألفاً وتم طردهم من 378 قرية حتى ذلك التاريخ واحتل اليهود 3 أضعاف الأرض التي كانوا يسيطرون عليها من قبل، وهي من أخصب الأراضي وأكثرها كثافة سكانية وبذلك انتهت فعلياً حرب فلسطين.
لكن النهم الإسرائيلي لم يشبع فاتجهت قواته نحو الجنوب لتحتله وتهزم الجيش المصري أكبر قوة عربية، بينما كانت الجيوش العربية تنتظر دورها ولا تقوم بمهاجمة العدو وإشغاله.
وفي شهر أكتوبر عام 1948م احتل اليهود الإسرائيليون مساحات واسعة من الجنوب حتى بئر السبع وجنوب القدس وامتدت على الساحل الجنوبي وأصبح عدد اللاجئين 664 ألفاً طردوا من 418 قرية حتى ذلك الوقت.
بعد ذلك نقلت إسرائيل قواتها من الجنوب إلى الشمال واحتلت الجليل بأكمله و12 قرية من لبنان في أوائل نوفمبر 1948م وسيطرت بذلك على كامل شمال فلسطين وتعدت الحدود اللبنانية، ولم يحدث قط خلال حرب فلسطين أن تدخل جيش عربي لمساعدة جيش عربي آخر في محنته، وكانت إسرائيل تنتقل من جبهة إلى جبهة بينما ينتظر الآخرون مصيرهم مستكينين.
فقدت الدول العربية قدرتها على القتال لإنقاذ الأهالي ولم تستطع ردم الخلافات بينها وتكوين قيادة موحدة ولذلك سارعت إلى توقيع اتفاقيات هدنة مع إسرائيل بداية بمصر ثم الأردن ولبنان وأخيراً سوريا.
وبعد توقيع هذه الاتفاقيات احتلت إسرائيل دون رصاصة واحدة النقب الجنوبي حتى وصلت إلى خليج العقبة وبذلك تكون إسرائيل قد احتلت78% من أرض فلسطين. وخلفت تلك الحرب حوالي 900 ألف لاجئ طردوا من 531 قرية ومدينة.
وأصبحت هذه النكبة بقعة سوداء في التاريخ دفع ثمنها قادة وحكام بحياتهم وأزيلت عروش وسقطت أنظمة ولا يزال يدفع ثمنها اليوم خمسة ملايين لاجئ فلسطيني داخل فلسطين وحولها في الشتات.
بؤس الشتات
منذ النكبة والأجيال الفلسطينية تتعاقب على دروب الهجرة والشقاء، تزدحم بهم المخيمات في كل من لبنان والأردن وسوريا وفي عدد من الدول العربية، وتظهر قصص من المآسي، حيث يشكلون في هذه المخيمات جماعة محرومة بلا أمل أو مستقبل في ظل أوضاع الحاضر البائسة.
من يستطلع أوضاع هذه المخيمات في هذه الدول يجدها أشبه بـ”جيتوات” معزولة تحاصرها إجراءات أمنية مشددة وينمو في داخلها جيل كامل من الأطفال الفلسطينيين وسط بيئة تغرق في البؤس والفقر والإحباط، في الكثير من هذه المخيمات تتداخل البيوت والأحياء على حد يكاد لا يمر معه الهواء، فلا حيز للأفراد ولا مكان لأي استقلال.
الحارات تضيق بسكانها كما البيوت، ولكل عائلة فلسطينية غرفتان في أفضل الأحوال ويحلم الأطفال هنا بلعب وغرف مستقلة وأماكن للدرس بدلاً من السطوح.
ومهما قيل من كلام فلا يمكن للغة أن تحيط بالواقع المأساوي لأطفال المخيمات، فهؤلاء الأطفال لا يتمتعون بأي حق من حقوق الطفل التي نص عليها ميثاق الطفل الدولي، لا بيت، لا وطن، لا رعاية، لا عناية، ولا حتى أمل في المستقبل.
حق العودة
إن حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى قراهم وبلداتهم هو حق مقدس وقانوني وممكن، فقد تم غرس هذا الحق في وجدان كل فلسطيني شيخاً وطفلاً، رجلاً وامرأة، إذ أنه رغم مرور عدة قرون، لا يزال حق العودة هو الشعلة التي تضيء ظلام الحياة التي يعيشوها.
وحق العودة ممكن أيضاً إذ أنه رغم تدفق المهاجرين اليهود إلى الأراضي المحتلة لاتزال معظم الأراضي الفلسطينية خالية أو بها غالبية من الفلسطينيين الذين بقوا في ديارهم وهذا مثبت من خلال الدراسات الديموغرافية.
وإذا كانت الصهيونية قد نجحت في الاستيلاء على الأرض حتى الآن وفصلت أهلها عنها وشتتهم في أنحاء الأرض فيما يمكن وصفه بالإبادة الجغرافية، لكنها لم تنجح في القضاء على الشعب الفلسطيني الذي بقي حياً ومتماسكاً إلى حد كبير ولم يندثر كما اندثرت أمم قبله في كوارث أقل جسامة.

قد يعجبك ايضا