وأخيراً تم اللقاء (2-2)

د. أسماء الشهاري
يُحكى أن هناك فتىً يانعاً تحدى طائرةً حربية، حيث كان يقود دراجة نارية بسرعة جنونية ليس حرصاً منه على حياته بينما هي تطارده وتلقى عليه القذائف ولكن لكي يقوم بإيصال المؤنة إلى رفاقه المحاصرين، ها هو الفتى الصغير بعمره والكبير بشجاعته وإقدامه يطير من فوق الأحجار والصخور تارة ويسقط من فوقها ويتدحرج تارة ثانية وقد أصابه من الجراح ما أصابه، لكنه يعود إليها ويواصل طريقه غير آبهٍ بتلك الطائرة ولا بشيء أصابه ويصل بعناية الله وقوة عزيمته إلى غايته”..
لم تكن هذه قصة خرافية عن بطل خارق في أحد أفلام الأكشن التي تصرف عليها المليارات، لكنها إحدى القصص الواقعية لبطل خارق حقيقي لا يخشى الموت ولا يعرف المستحيل، هزم بقوة يقينه بالله وبشجاعته وشدة بأسه أعتى أنواع الطائرات وأكثرها تطورا والتي تصرف عليها المليارات ويقال أنها فخر الصناعات فجعل منها أضحوكة ومسخرة القرن العشرين عبر القارات!.
نعم هذا هو أحد أبطال قصتنا والذي لا ندري أكان ملاكا بأجنحة من هيبة يُحلِّق بها كيفما يشاء، أم أن الملائكة هي من كانت تحمله على أجنحتها بأمر الله فتوصله أينما يشاء!.
لم تكن هذه القصة هي الوحيدة ولكنها واحدة من قصص أشبه بالمعجزات التي سطرها أبطال قصتنا الأخوان الشهيدان من أسرةٍ واحدة خليل وهيثم علي مقحط، والتي ستظل أنموذجاً فريدا خالدا تتناقله الأجيال على مدى الأعوام عن كيف تُدرس الكرامة، ويُصنعُ المجد،ويُسطرُ النصر؟
فهيا بنا نواصل الغوص إلى أعماق هذه القصة التي حوت في طياتها هذا الدُّر الثمين لنستلهم منها العبر التي ستظل منارة فخرٍ عبر السنين.
الشهيد خليل مقحط “عظمة الرجولة ومواقف البطولة” :
الشهيد البطل الخالد خليل علي مقحط هو أحد إخوة الشهيد هيثم الذين كانوا يكبرونه في السن، وهو أحد أفراد تلك الأسرة المجاهدة العظيمة.
ما أكثر المواقف والقصص التي تحكي عن عظمة هذا الرجل وعظمة ما يحمل من قيّم وأخلاق ومبادئ منقطعة النظير، لكننا لن نستطيع أن نقف عليها فهي تحتاج إلى مجلدات بمفردها، فالشهداء هم من أصبحت الدنيا تستنكر بقاءهم فيها ولم يعودوا يشبهون أهلها وقد بلغوا أعلى درجات الارتقاء.
كان خليل كما عرفه أهله وأهل الحي الذي يقطن فيه وكل من عرفه أو اختلط به رجلا هادئا جداً تعلوه الهيبة والوقار شديد الحياء فلا يرفع نظره في وجه امرأة تمر من أمامه، طيب القلب جداً وبشكل لا يمكن تصديقه حتى كان الكثيرون يقولون أنه جاء من كوكب آخر غير الكوكب الذي نعيش فيه، كان يحب أن يخدم الناس ويساعدهم بكل ما أمكنه فقد كان شديد الشهامة والكرم، يغيث الملهوف، يساعد المظلوم ويعطي المحروم، فإن حصل على مال فإنه لا يكاد يبقي معه منه شيئاً لأنه يقوم بإنفاقه كله على أهل بيته وعلى المحتاجين ممن يعرفهم خاصة، كان يحب الإصلاح بين الناس ولو بذل في سبيل ذلك كل ما أمكنه من جهد ومال ووقت، وكم كان يشعر بالسعادة والارتياح لذلك، لم يكن الشهيد خليل يشق على أهله في شيء أو يشعرهم بوجوده فقد كان يخدم نفسه بنفسه في كل شيء، فإن جاع توجه إلى المطبخ وجهز لنفسه الطعام أو توجه للخارج واشترى طعاما له وللجميع، شديد الكرم مع أمه وأخواته وكل من يعرفه هذه هي بعض مناقب الشهيد المقدام أبيض القلب خليل مقحط.
خليل والذي كان قد رأى في منامه أن الإمام علي عليه السلام أعطاه سيفه ودرعه ثم امتطى ظهر حصان أبيض وكان يجري به في ساحة المعركة والخضرة عن يمينه وعن شماله وهو يصرخ ويرفع سيفه فوق الأعداء، لقد كانت رؤيا صالحة من رجل صالح والذي لم يفرط في هذا السيف وفي هذه الرؤيا المباركة بل قاتل واستبسل في سبيل الله والوطن والمستضعفين حتى لقي الله شهيدا مجيدا خالدا مع الخالدين.
وأما عن قصة استشهاده فقد كان خليل من المجاهدين الذين قاتلوا في عدن ضد الدواعش قبل أن يتم احتلالها ثم رجع في ثالث أيام العيد بعد إصرار شديد من أهله، فحصل ما حصل من نكبة في عدن وما حصل أيضا لمجاهدي الجيش واللجان الشعبية الذين كانوا لا يزالون هناك ومن بينهم أخوه هيثم وهو أحد الذين وقعوا في الأسر تلك الأيام.
لكن الشهيد البطل خليل لم يلبث طويلا بعد عودته حتى ذهب إلى صعدة ومن بعدها إلى مأرب حيث رابط فيها واستشهد فيها وفاضت روحه الطاهرة إلى بارئها وارتوت ترابها من دمائه المقدسة فمُحال أن تقبل بعد ذلك بالخونة أو ترضى بالاحتلال.
قبل أن يغادر خليل أخبر أخته بذلك، وقال لها ألا تخبر أحدا عن أمر ذهابه إلى ساحات النزال إلا بعد رحيله حتى لا يمنعه أحد من أهله أو يعرقله عن واجبه في الجهاد.
وفور مغادرته شعرت والدته بذلك وقالت لابنتها لقد توجه خليل إلى الجبهة، صحيح؟
فردت عليها ابنتها :نعم، لكنه طلب مني ألا أخبر أحداً حتى يذهب.
وهنا تذكر بعض مواقفه وكلماته :لقد بعت نفسي من الله يا أمي، فبيعيني منه كما بعت يا أمي وتذكر أنشودته المحببة :أنا زيدي أحب علي.. وغيرها من المواقف.
عندما كان يتواصل مع أهله و والدته وتطلب منه أن يأتي لزيارتها، يرد عليها :يا أمي أنا مرتاح جدا، لو أنكِ ترين أي حياة أنا فيها، نحن هنا في جهاد وروحانية لا يمكن وصفها، هنا يا أمي تلاوة القرآن والتسبيح والاستغفار في أجواء خيالية، سامحيني يا أمي لا أستطيع أن أترك ما أنا فيه من الراحة والسعادة ، دعواتك لي ورضاك علي، وفي اتصال آخر بينهما قال لها :لا أستطيع المجيء يا أمي وأن أترك هنا، إما النصر أو الشهادة.
بعد التحاق خليل بجبهة مأرب لم يغادرها إلا إلى جوار الله، فقد كان يخاف أن يمنعه أهله من العودة أو أن يعرقلوه عن الجهاد والشهادة والالتحاق بالرفيق الأعلى.
يذكر رفاق خليل المجاهدون آخر أيامه في الجبهة قبل أن يستشهد، فيقولون _كان خليل في حالة قرب عجيبة من الله فكان يخلو بنفسه دائما مع كتاب الله الكريم يتلوه ويبكي وكان من يؤمُنا في الصلاة ويبكي أثناء ذلك، لقد تأكدنا من أنه أصبح أقرب إلى أهل السماء، أبعد عن أهل الأرض.
أما عن اللحظات الأخيرة لخليل البطل فقد كانت في أرض المعركة حيث تقدم هو واثنان من رفاقه أحدهما من صعدة والآخر من بني حشيش في أحد المواقع فاكتشفوا أنهم في كمين حيث أحاط بهم المرتزقة، فلم يجدوا بُداً من المواجهة، أصيب خليل في فخذه فربط على جرحه بالشال، وكان المجاهدون يدعونهم من المؤخرة “ارجع يا خليل أنت مصاب، ويكررون ذلك”
فكان جواب خليل :”لا يمكنني الرجوع إما النصر أو الشهادة”
قاتل خليل ورفيقاه بكل استبسال وبطولة، حيث أصيب برصاصة قطعت يده، ولأنه كان في مواجهة مباشرة مع الأعداء فقد أصيب أيضا برصاصة ثالثة متفجرة تحت عينه فارتقى مع رفيقيه شهداء عظماء، وكانت بطولتهم ودماؤهم سببا في الفتح وفي تقدم المجاهدين وسيطرتهم على تلك المنطقة التي كانت في حريب القراميش فسلامٌ سلام.
وصل نبأ استشهاد خليل إلى أسرته المجاهدة الصابرة، كان وقع الخبر على مسامعهم ليس كما هو الحال عليه بالنسبة لبطل قصتنا الثاني “هيثم”، توجه هيثم إلى والدته وهو يقول لها :زغردي يا أم البطل، مبارك عليك يا أم الشهيد، يا أم البطل، ارفعي رأسك عاليا يا أمي وافتخري فأنتِ الآن أم الشهيد البطل خليل.
وسط الفرحة والألم من أسرة الشهيد، كانت فرحة هيثم باستشهاد أخيه لا توصف مما أثار الاستغراب عند البعض، قام هيثم بالاتصال لكل أصدقاء خليل يزف إليهم نبأ استشهاد أخيه الذي كان يحلم هو به، لكن فاز بها أخوه، حتى أن أحد أصدقائه قال لأحد أخوته: لم أرَ هيثم أشد فرحة وسعادة من اليوم.
وعندما كانت علامات الحزن والألم بادية على وجه أخيه قال له: والله إن إيمانك ضعيف، هل تعرف ما معنى الشهادة؟ هل تعرف ما معنى أن رسول الله والإمام علي يستقبلونك؟ هل تعرف ما معنى ضيافة الله؟
كم أتمنى لوكنت أنا مكانه، لكن إما أن الباري لم يتقبلني بعد ويصطفيني أو أنه لا يزال لي دور أن أنكل بأعداء الله، فقال له أخوه :أنت ليس معك قلب، قال :أنت قو إيمانك و والله أنك بعدها سوف ترى ما أرى.
كان هيثم فرحا مستبشرا لأجل أخيه لكنه كان يبكي بشدة وهو يقول : لماذا لم أفز أنا بها؟ هي من المفترض أنها كانت لي، أنا أبحث عنها منذ فترة طويلة، أُسرت في عدن وقاتلت في مأرب، ولكني لم أحصل عليها، لماذا هل أن الله لم يرض عني ويتقبلني بعد!
ويقول: هنيئا لخليل لقد كان خفيفا فاختاره الله واصطفاه بسرعة وليس مثلي أنا.
شاع خبر استشهاد خليل حتى وصل إلى المعارضين للجيش واللجان الشعبية الذين يخوضون معركتهم المقدسة صونا للأرض والعرض والكرامة من أهل المنطقة من قاصري الوعي والإيمان، وكان الجميع يعرفون خليلا رمزا للقيم والمبادئ ومكارم الأخلاق، فأقبلوا يلومون أهله : لم تضحوا إلا بخليل أطيب واحد ومنهم من بكى عليه بكاء شديدا لأنهم يعرفونه حتى وإن كانوا يتعارضون معه في فكره وتوجهه، بل إن منهم من قام بتعليق صورة كبيرة له على جدار بيته رغم التباين الكبير في الفكر بينه وبين الشهيد المجيد.
*عالمي لا يشبه عالمكم:
تمر الأيام ويزداد شوق أبو ذوالفقار إلى الشهادة في كل يوم أكثر من سابقه، ربما أن رؤيته للشهداء تزيد من نار هذا الشوق فها هو خليل اليوم والكثير من أصدقائه ورفاق دربه بالأمس، كما أن أحدهم لم يفارق مخيلته وهو الشهيد الذي التفت إلى هيثم ورفاقه قبل استشهاده بلحظات وهم في إحدى جبهات الفداء فملأ يده من دمه والتفت إليهم باسما يرمي بالدم نحوهم وهو يقول :فزت بها ورب الكعبة.
لم يكن حب هيثم للجهاد والشهادة حادثا عرضيا بل كان يملأ قلبه وروحه ومخيلته منذ طفولته ونعومة أظافره، وهو من كان قد رأى رؤيا عظيمة مباركة وهو لا يزال طفلا في المرحلة الابتدائية وتحديدا في الصف الخامس، عندما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في منامه قام باحتضانه ثم أمسك بيده وأعطاه سيفا، وقال له :هذا طريقك إلى الجنة يا هيثم.
فما أعظمها من بشرى وبشارة ورفعة ومكانة، فكيف لنا أن نعتب على هيثم أن تعلق رؤيا بهذه العظمة فيها سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم بذهنه، أو أن نلومه على تعلقه بالجهاد والشهادة بهذا الشكل الذي لا يُضاهى.
أما هذه المرة فإن جبهة #يختل_المخا، قد كانت مقصد بطلنا ووجهته التي يمم وجهه إليها، وقد كان عمله الجهادي فيها عظيماً جداً كما كان في غيرها من الميادين والجبهات حيث كان مشرف الجهوزية لأربع محافظات ، وقد كان هذا العمل العظيم الكبير يدل على عظمة بطل قصتنا الشهيد الخالد أبو ذوالفقار.
انطلق الشهيد هيثم مجدداً في ساحات البطولة بإيمانٍ قوي وعزيمة فولاذية وتوقٍ أشد للفوز بمعشوقته التي كان يشعر أن رحلته في البحث عنها قد طالت كثيرا وأنه لم يعد يطيق البقاء بعيداً عنها أكثر من ذلك.
أخبر هيثم والدته بأنه ذاهب في دورات تدريبية حتى لا تقلق عليه، وكان ينكل بأعداء الله كما وعد أرواح رفاقه الشهداء الذين قضوا ذبحا في عدن وغيرهم من الشهداء ، كان يثأر لدين الله والضعفاء، والمقتولين ظلما ودماء الأبرياء فكم صال وجال وكم صَلّت على بطولاته ملائكة السماء.
كان هيثم يقوم ببعض الزيارات القليلة والمتقطعة إلى أسرته، لكنه لم يعد يطيق البقاء عندهم فبالكاد يجلس عندهم يومين أو ثلاثة ثم يعود راجعا إلى قِبلة عشقه الأبدي ومحرابه المقدس وبيته الأوسع وهو ثرى الوطن الطاهر مدافعا عن حياضه ومستبسلا في الذود عنه.
ذات مرة قدم هيثم لزيارة أهله في رمضان، فقال لهم :مالكم كيف تقضون رمضان؟ أين القرآن، أين التسبيح والاستغفار؟
لبث يومين ولم يطق أن يظل أكثر، وقال لهم :حياتكم هذه لم تعجبني ولم تناسبني ولا أستطيع أن أبقى فيها أكثر من ذلك،
عاد هيثم مسرعا والشوق يسبقه إلى السائحين الذاكرين الساجدين الراكعين المرابطين والمستغفرين بالأسحار يواصل معهم مشواره المقدس في صيانة الأرض والعرض والديار.
منذ بداية العدوان لم يحضر هيثم العيد ولا لمرة مع أهله، مرة تواصلوا معه ليخبروه أنهم اشتروا له ملابس جديدة للعيد آملين في أن يحضر بينهم، أظهر هيثم في البداية أنه سعيد بذلك ثم ما لبث أن قال لهم :من طلب منكم أن تشتروا لي، أنا لا أتذكر أني طلبت ذلك من أحد!
إن من باع نفسه من الله وباع الدنيا بزخرفها الكاذب لم يعد يلتفت إلى مثل هذه الأمور، فكثيراً ما كان هيثم يطلب من والدته أن تبيعه من الله كما باع هو نفسه منه سبحانه ويقول لها :أنا بعت يا أمي بيعي، وربما كان ذلك أيضاً من باب التهيئة النفسية لوالدته وأسرته لكي يتقبلوا خبر استشهاده الذي كم كان يتمنى أن يكون قريبا..
ذات مرة دخل هيثم على والدته وهي تبكي فراق أخيه الشهيد البطل خليل، فقال لها: هل تبكي على خليل يا أمي؟
والله إنه مع الإمام علي عليه السلام ومع لطف القحوم، خليل يكتب القصائد ولطف يقوم بإنشادها _حيث كان خليل يقوم بكتابة القصائد، ثم يقول لها :أماه هيا قومي نرقص البرع ويجعلها تقوم وهو ينشد :بعنا من الله جماجمنا ويبترع ولم يتركها حتى ضحكت.
في زيارته أثناء عرس أخيه، كان أهله منهمكين بأمر العرس، هذا يقول أنا اشتريت، والآخر يقول أنا حضرّت، كان هيثم ينظر إليهم وهو مستغرب اهتمامهم بهذه الأمور، وهو من كان قد ارتقت روحه كثيراً في سلم العشق والمعرفة الإلهية، الجميع كانوا يعرفون ما وراء نظرات هيثم ويدركون أنه لم يعد له أي اهتمام بمثل هذه الأشياء، ولا حاجة له في الدنيا وأنه لا يزال ينتظر اصطفاء الله له على أحر من الجمر.
لكن أهله كانوا يعرفون ما يحب، فاشتروا له ثوبا وشالا يشبه ذلك الذي كان يرتديه السيد عبدالملك الحوثي حفظه الله، فتهللت أساريره لذلك، وهو من كان يحب السيد عبدالملك الحوثي حبا جما لا يمكن وصفه ويقول دائما وهو يضرب على عنقه أنها تفدي قائد المسيرة العظيم، وكم تألم وتقطع قلبه حزنا بعد أن رأى السيد قد نحل جسده وهو يرجع ذلك إلى هموم السيد الكبيرة التي هي بحجم الدين والأمة والمسوؤلية العظيمة التي يستشعرها تجاه وطنه وأمته فكان يقول لأهله : فماذا قدمنا نحن؟
كالعادة لم يعجب هيثم البقاء بعيدا عن الجبهة وهو يقول لأخيه :لا أحب حياتكم ولا أرتاح فيها، فطلب منه أن يبقى يوما إضافيا لكي يحضر العرس.
عاد هيثم من الجبهة أشعت أغبر قد كبر شعره وطالت لحيته وتقطع حذاؤه فلم يبقَ منه إلا ربع حذاء، وتشققت يداه، وكانت والدته تنظر إليه وهي تكاد أن تبكي وتقول :ماذا أصابك يا حبيب قلبي، يخبرهم هيثم أنهم هناك لا يجدون الماء لكي يغتسلوا أياماً طويلة وربما شهوراً، ويحكي لهم عن مغامراته هو والمجاهدين في البريّة لأنهم العظماء أصحاب النفسيات الشامخة والهمم العليّة، وأنهم ينامون تحت الأشجار وبين الصخور وهي موطن الحيّات والعقارب والأفاعي، أن بعضها كبير جداً في الحجم، وأنها تمشي فوقهم بل وتدخل بين ثيابهم، لكن سبحان الله أنها لا تمسهم بسوء وهم كذلك وهذه توجيهات القيادة إليهم، لذلك يوجد بينهم تعايش سلمي، وهذه من معجزات هؤلاء العظماء، ويخبرهم أن هناك قصصاً طريفة تحصل للمجاهدين فأحيانا ما تمشي أفعى كبيرة أو حيّة أو عقرب كبير فوق أحدهم وهو نائم، فيسمعون أحياناً أصوات صراخ من هنا أو من هناك وهم نائمون فيعرفون ما هو الأمر فيتبسمون ويضحكون على بعضهم فما أعظمهم وأكرمهم وسلام الله عليهم.
ذهب هيثم مع شقيقه لتقصير رأسه وإلى الحمامات البخارية الخارجية استعدادا لحضور حفلة زفافه فوجد في ظهره وبطنه وصدره علامات عديدة كأنها علامات كيّ وكانت بسبب الشظايا التي في جسده!
أثناء بقائه عند أهله كان هيثم شديد الحرص على تطبيق برنامج رجال الله كل يوم، وكان يعتبر أن من يتهاون في ذلك من المقصرين وأنه كيف يقوى قلبه على ذلك؟
*وصية الشهيد لوالدته :
لم يكن عشق هيثم للشهادة أمراً خافيا على أحد، في آخر زيارة له قال لوالدته :ما هو شعورك وأنتِ أم شهيد، قالت :الحمدلله، قال :ما رأيك لو صاروا اثنين، قالت وهي تُبدي الغضب حتى وإن كانت لا تقدر على منعه من الجهاد في سبيل الله حالها حال أي أم :صَلَّ على محمد وآله، لا يزال قلبي موجوعا على خليل، فيقول لها هيثم :نحن بعنا يا أمي أنا وأخي أنفسنا من الله، بيعي كما بعنا.
فترد الأم :لن أبيع ثانية. “بقصد ثنيه عن كلامه ورغبته”
هيثم : أمي الحبيبة كم هو أمر رائع وعظيم أن تأتي يوم القيامة ومعكِ شهيدين كل واحد يمسككِ من يد ونحضر بين يدي الله ونقول :يا رب هذه أمنا، يا الله هذه أمنا يا رب أكرمها وألبسها تيجان الكرامة، فالشهداء في الدنيا كرماء وفي الأخرى شفعاء.
ويقول لها يا أماه عندما استشهد بالله عليكِ أن تفرحي وأن تزغردي وأن تزفيني زفة عروس وأن تكابري بي وبأخي بين الدواعش ولا تجعليهم يفرحوا فيكم بسبب فراقنا أبدا وأن تفتخري وترفعي رأسك، وأن تبيضي وجوهنا بالله عليكِ أنتِ بالذات زغردي لي.. أنتِ بالذات زغردي لي،تذكر الأم وصية شهيدها العظيم وعيناها تذرفان الدموع.
ودع هيثم أهله و والدته في آخر زيارة له، وهي من كانت معتادة أن تمسح على كل جسده قبل ذهابه وتستودعه عند الله، لكن هيثم وأمام الجميع كان يحاول جاهدا أن يهرب منها وأن يرجع رأسه إلى الخلف بشكل واضح ومتعمد، وكما قالت لم تستطع رغم محاولتها أن تصل يدها إلى رأسه من الخلف، وهي من كانت معتادة أن تدعو الله أن يحفظه وتستودعه عند الله وتمسح على جسده بأكمله!
عاد هيثم إلى الجبهة وعادت بطولاته وأمجاده، وعندما كان أهله يعاتبونه ذات مرة لقلة تواصله بهم، فيرد عليهم مازحا :هل تصدقون أني نسيتكم، ثم يردف :إن الروحانية التي نعيشها هنا تجعل المرء ينسى الدنيا وما فيها..
وها هي والدته تعاتبه ذات مرة عن سبب تأخر تواصله بها، فقال لها :في الحقيقة أنكِ تجعلينني أشعر بالحزن يا أمي، قالت الأم في دهشة :أنا، وما الذي أفعله، أنا فقط أدعو لك بالحفظ وأستودعك عند الله،
لم تعرف والدة هيثم أن هذه الكلمات كانت تجعله يتألم كثيراً ويحزن فعلاً، وهو من قد تاقت روحه إلى الوصل بمعشوقته كثيراً، ولم يعد يقوى على البعد عنها أكثر.
كان هيثم يبحث عنها بكل شوق ويقتحم لأجلها المنايا بكل قوة وشجاعة منذ ثلاث سنوات حقق خلالها بطولات وأساطير وملاحم لا تليق إلا بأمثاله.
فالشهداء هم من كانوا يتسابقون إلى لقاء الله والآخرة، كما يتسابق المغفلون على حطام الدنيا الزائلة،
لكنه هذه المرة كان يشعر أنها قريبة جداً وأنها أقرب من أي وقت مضى.
آخر صورة وضعها هيثم في جهازه قبل استشهاده بأسبوعين هي صورة مجاهد ساجد مكتوب عليها “ومنهم من ينتظر”
وأما الحالة فكانت قوله تعالى “من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا”
وكان آخر حديث له مع إخوته كالتالي :
أخته وهي تطلب منه أن يأتي لزيارتهم فقد اشتاقوا له، فيرد عليها هيثم : في الحقيقة أني أصبحت مشتاقا جدا وبشكل لا يمكن أن تتخيليه لأخي خليل وبقية رفاقي من الشهداء ولم أعد أقوى على البعد أكثر من هذا، أخته ترد عليه :ما هذا الكلام يا هيثم أرجو أن تنتبه لنفسك لا تزال صغيرا والمستقبل أمامك لماذا تقول هذا الكلام؟
فيقول لها هيثم :أختاه الدنيا في حلالها عقاب وفي حرامها عذاب، أختاه الدنيا كذابة.
أما رده على أخيه فكان بهذه الرسالة :
ما اجمل تلك الحياة.
حياة الجهاد يكون التسابق فيها على
الموت والفائز منهم أول من يقتل.
لله درهم رجال أرخصوا أرواحهم في
سبيل الله.
وقبل أن يستشهد بأيام قلائل يُحدث أهله بأنه كان على وشك أن يستشهد في مهمة عظيمة ولكن الله لم يكتبها له بعد.
وأخيراً يصل الشهيد العظيم هيثم إلى ما كان يتمناه وما بحث عنه كثيرا في السهول والوديان والجبال طيلة ثلاث سنوات وقد كان استشهاد هيثم علي مقحط بعد شهرين ونيف من آخر زيارة لأهله و والدته.
أخيراً يعانق أمنيته وحلم حياته فهنيئاً هنيئاً أيها الشهيد الخالد فقد ذابت الجنان من فرط الشوق لمعانقة روحك الطاهرة وكانت على وشك أن تنزل إليك إن لم تصعد أنت إليها أيها البطل العظيم الذي صدقت الله فصدقك الله وأنالك ما كنت تتمنى وتطلب بعد أن ارتقيت كثيرا في سلم المجد والمكرمات وبعد أن سطرت في حب الله أروع الآيات.
*لك الحمد يا رب :
في مكالمة هاتفية تسمع أم هيثم زوجها وهو يقول :”بشرك الله بالخير، والله إن نفسي طيبة، أطيب من الثربة”، فتسأله :ما هي؟ ، الأب :هيثم، الأم :ماذا حصل له؟، الأب :جُرح، الأم :قول الحقيقة، الأب :استشهد
الأم :بصوت متهدج مسموع وهي تغطي على وجهها بكلتا يديها :لك الحمد يا رب.. لك الحمد يا رب..
ها هو هيثم يرتقي شهيدا من كان محبوبا من كل أفراد أسرته ومن جميع من عرفه، بل أن جميع أهله يجمعون أنه كان الأحب إليهم جميعا فقد كان بشوشا ومرحا وله أسلوب يأسر القلوب والألباب.
يقولون نعم نحب الشهيد خليل لكنه كان هادئا جدا، أما هيثم فقد كان مرحا جدا ويجعلنا نضحك في كل وقت بأسلوبه الفريد والمميز.
أما عن قصة استشهاده فقد كان بصاروخ غادر جبان، فالجرذان تعجز دائماً عن مقارعة الفرسان حيث أصاب الطقم الذي كان فيه هو وثلاثة من رفاقه استشهدوا جميعاً، أما الثلاثة فلم يجدوا منهم شيئاً وأما هيثم فلم يصبه أي شيء إلا راجع أصاب رأسه من الخلف، وهنا تصمم الأم وتُعزي السبب في ذلك إلى أن يديها لم تصل إلى رأسه من الخلف عندما كانت تستودعه عند الله ككل مرة!
بعد استشهاد هيثم حضرت امرأة من أصحاب الفكر المنحرف تقول لوالده :أما الآن فابكي ولتطب نفسك، أما الآن فقد فقدت اثنين.
فترد الأم :والثالث والرابع
ويرد عليها أبو الأبطال :أين ذهبوا؟ ذهبوا في مرضاة الله، ذهبوا لكي يحموا أرضك ويصونوا عرضك.
*وأخيراً وجدتها يا بني :
استشهد خليل بعد سنة من بداية جهاده واستشهد هيثم بعد ثلاث سنوات وكان استشهاد هيثم بعد خليل بسنة وعشرة أشهر.
ظلت حُرقة في قلب الأم وبناتها لأنهن لم يتمكنّ من رؤية خليل بعد استشهاده، لكن هذه المرة سارع الجميع إلى الثلاجة لرؤية بطلهم العزيز جدا على قلوبهم، كانت الأم تدعو الله أن يثبت قلبها وأن يعينها لكي تقوم بوصية الشهيد كما كان يحب ويتمنى.
وصلت الأم إلى ثلاجة المشفى فقالت بكل ثبات وعزة وفخر :السلام عليك يا ولي الله، هل طابت نفسك الآن يا بني، أخيراً وجدتها، أخيرا وجدت الضائعة التي كنت تبحث عنها طوال ثلاث سنوات، وجدت ما كنت تبحث عنه يا هيثمي ووصلت إليها، السلام عليك يا قلبي وروحي، استودعتك بشهادة ألا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وشهادة من قبلك وشهادة من بعدك وشهادة إلى يوم الدين حتى تفوز بها مع الفائزين بحق لا إله إلا الله محمد رسول الله..
سلم على الإمام علي وسلم على خليل وسلم على الشهداء، السلام عليك يا شهيد، السلام على أرواحكم الطاهرة أيها الشهداء، الله أكبر
الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام
هيهات منا الذلة
اندهش جميع الحاضرين بمن فيهم أفراد أسرتها ولم يصدقوا أن تكون بهذا الثبات والقوة وهيثم هو أحب أبنائها إليها ومن كانت تقول أنها ستموت إن أصابه شيء، لكن إنما الموت في سبيل الله حياة، وشعرت بهذا أنها نفذت وصية ابنها الغالي وحققت رغبته وطيبت خاطره.
أثناء ذلك رأت الأم مسبحة حول عنق الشهيد فلم تأخذها، لكن شقيقه الأكبر أخذها بدمها ووضعها في زجاجة لتظل ذكرى من الشهيد.
حاولت الأم أن تنفذ كل كلمة قالها لها الشهيد أبو ذوالفقار، وعندما حضر جثمانه الطاهر إلى فِناء المنزل استقبله الجميع بالألعاب النارية والفرحة والاستبشار، واستقبلته والدته وشقيقاته بالزغاريد، وقامت الأم بوضع اثنين من الفل ومجموعتين من الورد والريحان عن يمينه وشماله كما قامت برش الفل والريحان على كل جسده وهي تقول كما قالت أول مرة.
وتم تشييع هيثم في زفاف مهيّب.
*رسالة أسرة الشهيد :
أما شعور والدة الشهداء ورسالتها فتقول :
هنيئاً لهم، والله إن نفسي أطيب من الثربة، مهنية لهم، والله إني أتمنى أن أذهب أنا للجهاد وكنت أطلب منهم أن يسمحوا لي بالذهاب معهم لكي أقوم على خدمة المجاهدين وتنظيف ثيابهم وصنع الطعام لهم.
تركتهم ينطلقون في سبيل الله وفي كرامة اليمن وكل اليمنيين ، ماذا يجلسون يفعلون هنا، حتى يدخل الأعداء إلينا!
أنا أعرف أين ذهب أبنائي، وقد حصلوا على أعظم وأفضل شهادة وأفضل ما تتمناه أم لأبنائها.
كما تقول أن دورها لم يتوقف هنا كونها قدمت اثنين من أبنائها شهداء، بل ذهب الثالث أيضا إلى الدورة التدريبية لكي ينطلق مجددا إلى الجبهات لكنه جريح ورغم ذلك فهو مع الأمنيات في العاصمة، كما تقول: نقوم بصنع الكعك للمجاهدين، وبحضور الفعاليات والمحاضرات والوقفات والاحتجاجات والمسيرات، ودورنا باقٍ ومستمر وسنحرر مكة المكرمة بإذن الله ولن أذهب إلى الحج إلا وقد حررناها وثأرنا عند آل سعود أنا وكل الأمهات.
ورسالتها لجميع الأمهات أن يجعلوا أبناءهن ينطلقون في سبيل الله لأن الله كتب الجهاد مثل ما كتب الصلاة، وتقول :والله لو تقومي بتخبئته في أي مكان لا بد أن يأتي أجل الله، لذلك من الأفضل له ولجميع أهله وشعبه أن يموت وهو رافع رأسه.
كما كان ردها على امرأة قالت لها بعد استشهاد ابنها :فلتطب نفسكِ الآن فقدنا الرجال هذا كله بسبب الحوثيين لأنهم لم يرضوا أن يسلموا، فقالت أم الشهداء بكل عزة وشموخ: ما عاش ولا كان من يسلم لو لم يبق رجل واحد سوف نذهب نحن.
*رسالة أخوات الشهداء :
شقيقته الأولى تقول: ما زادتنا شهادتهم إلا فخرا ورفعة وعزة، افتخرنا بهم ولم نندم بالعكس زدنا قوة وثباتاً وشجعنا الشهداء أن نسير على دربهم وأن نخطو خطاهم.
الحمدلله زدنا قوة أكثر مما كنا عليه وارتباطا بالمسيرة مع استشهاد إخوتي، ونشعر أنه من المستحيل أن نتراجع وإذا لم يبقَ ولا رجل سنذهب للقتال نحن النساء.
وأما الثانية فتقول :الحمدلله الحمدلله أننا من أسرة أكرمها الله بالشهادة وقدمت اثنين من أبنائها واختارنا الله واختار منا اثنين، الحمدلله أشعر بهذا الاصطفاء أننا أسرة مميزة،
وكما قال تعالى: “ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين”
وأقول للأسر الباقية التي لا تزال متخاذلة والتي تدعي حب الوطن وهي لا تقدم شيئاً في سبيل الله والوطن والله لن تروا عزة أبداً ولا بد لكم من الذل والهوان في الدنيا والآخرة، وكيف تقولون أنكم تحبون الوطن وأنتم لا تقدمون أي شيء!
وأقول للمحايدين لا يوجد شيء اسمه حياد بعد ثلاث سنوات من العدوان، ليس أمامكم إلا أن تكونوا مع العدوان أو ضد العدوان.
فعلى كل إنسان أن يراجع نفسه وأن ينظر ماذا قدم من تضحيات ومن بذل وعطاء، قال تعالى :”ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشرِّ الصابرين”
وتقول الأخت الثالثة :أنا مفتخرة جدا بإخوتي وسنكمل مشوارهم الذي بدأوه حتى نصل بإذن الله.
فسلام الله على الشهداء وعلى أهل وأسر الشهداء وعلى أهل البذل والتضحية والفداء، من لم نكن لنظل صامدين منتصرين على أهل الأرض جميعاً شامخين مفاخرين لولا تضحياتهم الجسيمة وأرواحهم الطيبة ونفسياتهم العظيمة، فالشهداء هم من تظل تضحياتهم مدرسة خالدة تنهل منها الأمم معنى السمو والعزة، ومعينا لا ينضب لكل من يهوى الحرية ويقدّس القيم الإنسانية.
فسلامٌ عليهم وسلام على بطلي قصتنا الشهيدين الخالدين:

الشهيد /خليل علي أحمد صالح مقحط( 27 سنة)
تاريخ الاستشهاد31 /1 /2016م مكان الاستشهاد_مأرب_حريب القراميش
و..
الشهيد/ هيثم علي أحمد صالح مقحط( 22سنة)
تاريخ الاستشهاد 12 /11 /2017م
مكان الاستشهاد_يختل_المخا
سلامٌ سلام..

قد يعجبك ايضا