الوساطة الأممية بين السويدي فولك برنادوت والموريتاني إسماعيل ولد الشيخ

د. حبيب الرميمة

في ذاكرة تأريخ الأمم المتحدة يُخلد الكونت فولك برنادوت ( 1895-1948م ) أول مبعوث أممي تم تعيينه من قِبلها .فبعد قرار التقسيم لفلسطين اندلعت مواجهات بين اليهود والعرب في فلسطين اختارت المنظمة الكونت فولك ليكون وسيطاً بين اليهود والعرب في 20 مايو عام 1948، وكان الهدف من مهمته وقف المواجهات بين الطرفين المتنازعين وتطبيق قرار التقسيم. استطاع الكونت فولك أن يحقق الهدنة الأولى في فلسطين في 11 يونيو 1948، وتمكن بعد مساعٍ لدى الجانبين العربي والإسرائيلي من الدعوة إلى مفاوضات رودس التي جرت نهاية عام 1948م. كما استطاع الكونت فولك وضع مقترحات بما يسهم بوقف المواجهات لكن اليهود آنذاك شعروا أنها لا تتناسب مع طموحاتهم فقاموا باغتياله . وبغض النظر عن النهاية التي دفع ثمنها الكونت فولك حياته في سبيل المبادئ التي آمن بها كمبعوث أممي يمثل منظمة أبرز مقاصد ميثاقها حفظ السلم والأمن الدوليين يمكن القول أن فولك لم يكن شخصية تعبر عن سلوكها بقدر ما تعبر بما كانت تحظى به مبادئ المنظمة في مشاعر موظفيها من قداسة وروح الاستبسال في تحقيقها. لكن من المفارقات بعد أكثر من سبعين سنة من عمر المنظمة نجد أن تدني هذا الشعور هو السائد وهو ما يعكس أن هذه المنظمة تسير عكس ما كان مؤمل منها . إذ من المقبول أن تظهر من المبعوث الأممي كأول تجربة وساطة بعض التصرفات التي تخل بمهنيته باعتبار أن المنظمة لا زالت وليدة العهد والتجربة التي يقوم بها هي من أولى التجارب للمنظمة وليس هناك آليات معينة ولا تجارب سابقة ومن الطبيعي أن يشوبها بعض الأخطاء هذا إذا ما أخذنا أيضا عامل فحوى المهمة إذ كانت إسرائيل – أحد أطراف الصراع – آنذاك تحظى بدعم كبير من جميع الدول الخمس في المجلس.
باعتقادي أن الكونت فولك كان يتصور أهداف المنظمة في العام ٢٠١٥م وقد تحقق كثير منها وموظفو المنظمة أصبحوا أكثر إيماناً بمبادئ المنظمة وأكثر تضحية من أجل مبادئها لكن من المؤسف جداً عندما نستحضر في نفس التاريخ (٢٠١٥) مهمة المبعوث الأممي إسماعيل ولد الشيخ الذي ظل ثلاث سنوات يشاهد آلافاً من المدنيين أطفالاً ونساءً يسقطون ضحية غارات جوية لتحالف يستخدم حتى أسلحة محرمة دوليا ويستهدف البنية التحتية لدولة تعد من أفقر دول الجزيرة العربية (اليمن ) تدمر جسوراً ومصانع ومستشفيات ومرافق حكومية من قِبل ذلك التحالف لكنه يصر أن الصراع هو داخلي وعلى اليمنيين أن يتحاوروا؟
ومن الملفت أيضا أن طيران التحالف كان يشن كثيراً من الغارات على العاصمة صنعاء أثناء تواجد ولد الشيخ فيها وهي رسالة واضحة من قيادة التحالف ممثلة بآل سعود ألا تراهنوا على مهمة المبعوث الأممي وضمنياً على دور المنظمة الدولية ، وكان ولد الشيخ يترجم هذه الرسالة بشكل متعمد من خلال عدم إدانة تلك الغارات التي تودي بأرواح المدنيين خلال إحاطاته التي يقدمها للمجلس ويصر أن الصراع في اليمن هو شأن داخلي !! قدم ولد الشيخ استقالته بعد سنة من إعلان صنعاء رفضه كوسيط أممي باعتبار أنه لا يتمتع بالحياد والنزاهة التي تؤهله كوسيط أممي . باعتقادي أن استقالة ولد الشيخ بهذا التوقيت لم تك صحوة ضمير وإنما هناك واقع متغير فرضه الميدان العسكري المتمثل بصمود الجيش واللجان الشعبية بل والتطور اللافت للقوة الصاروخية اليمنية من جهة ومن جهة أخرى أن المجتمع الدولي أصبح يخجل من الصمت اللا أخلاقي تجاه المجازر التي يرتكبها ما يسمى تحالف “دعم الشرعية” والتي أدرك ويدرك المجتمع الدولي وعلى وجه التحديد (دول الاتحاد الأوربي ) أن المقصود بها شرعية القوة المتمثلة بإرضاخ الشعب اليمني للهيمنة الأمريكية ، ونهب ثروات هذا الشعب والاستحواذ على جزره وممراته المائية كما هو حاصل في المناطق الخارجة عن سيطرة الجيش واللجان الشعبية في جنوب اليمن والتي أصبحت كنتونات متصارعة تغذيها دول مشاركة فيما يسمى “التحالف العربي “ من أجل تنفيذ مصالحها الخاصة بما يهدد وحدة وسيادة اليمن وسلامة أراضيه ، مثل القيام بتجنيس أبناء محافظة جزيرة سقطرى بالجنسية الإماراتية ، والتعامل بعملتها النقدية، وربط شبكة الاتصالات بشركة إماراتية ، وإنشاء نخب أمنية وعسكرية تابعة لها وغيرها من الأعمال التي تنافي قطعا ما أكدت عليه جميع قرارات مجلس الأمن الدولي منذ القرار رقم ٢٠١٤م الصادر سنة ٢٠١١م والتي تؤكد جميعها على احترام سيادة ووحدة وسلامة أراضي الجمهورية اليمنية. وهو ما أضاف أعباء قانونية على المنظمة في إطار مفهوم الشرعية الدولية التي تجسدها المواثيق والإعلانات الدولية ، ففي الوقت الذي تحاول منظمة الأمم المتحدة التغاضي عن الانتقادات التي يثيرها فقهاء القانون الدولي حول العمليات التي يقوم بها مايسمى “ التحالف العربي” منذ ثلاث سنوات بوصفها أعمال عدوانية تخل بأهم مبادئ ميثاق الأمم المتحدة “عدم استخدام القوة في العلاقات الدولية “ خصوصا وأن قرار مجلس الأمن ٢٢١٦ سنة ٢٠١٥ لم يأذن صراحةً ولا ضمناً بتخويل التحالف القيام بهذه العمليات- والذي سبق وأن خصصنا مقال عبر هذا المنبر حول شرعية هذا القرار في ضوء تصريحات بن سلمان أن الحرب على اليمن ستستمر حتى لايوجد حزب الله آخر على حدودها … – برزت انتقادات أكثر حدة حول مسؤولية منظمة الأمم المتحدة تجاه الاحتلال التي تتعرض له دولة عضو فيها( الجمهورية اليمنية ) من ضمنها التقرير الأخير الذي قدمته لجنة الخبراء إلى المجلس والذي يشير إلى تفكك مفهوم الدولة في المناطق التي تسيطر عليها ما تسمى قوات التحالف وانتشار الجماعات الإرهابية بشكل ملحوظ… وهو ما لم تتناوله إحاطات ولد الشيخ طوال فترة مهمته ! خلاصة القول تبقى للأمم المتحدة قصة بين مبعوثين السويدي الكونت فولك والموريتاني ولد الشيخ ستحكي الأجيال فصولها ربما تصل إلى تحليل البيئة التي ينحدران منها وتأثيرها على سلوك الوسيط الأممي كشخصية تحمل أهداف عالمية سامية . وهي أيضا مرهونة بمهمة المبعوث الجديد البريطاني مارتن غريفيت والذي من المؤمل أن يلعب دوراً كبيراً في إعادة الاعتبار لمهمة الوساطة الدولية بوجه خاص ولدور الأمم المتحدة بوجه عام ، وإلى حين إرساء قواعد ثابتة حول مسؤولية الموظف الدولي عن أعماله وذلك بإنشاء جهاز جنائي تابع للمنظمة يبقى الحل المتاح في الوقت الحاضر هو إنشاء محاكم ضمير تختص بمحاكمة كبار الموظفين الأمميين حتى يدرك هؤلاء مدى قداسة المهمة العالمية التي يحملونها وأن مهمتهم تاريخية تتعدى نطاق ما يكسبونه من ربح مادي .

قد يعجبك ايضا