رمضان والإسراف

 

أحمد يحيى الديلمي

جاء في القول المأثور “ لا يُطاع الله من حيث يُعصى “ من هذا القول نستدل على مطالب الرُقي التي يسعى إليها الإنسان في هذا الشهر الكريم والفوز برضا الخالق سبحانه وتعالى لأن هناك أعمال تتعثر معها هذه الرغبات ، لذلك أكد العلماء على سلوكيات المؤمن في هذا الشهر الكريم وكيف أنه يسلك سلوكاً قويماً في كل جوانب حياته بما في ذلك الأكل والإنفاق بحيث ينال الرضا من الله ويتقبل الله صومه .
فالإسلام مثلاً بيّن لنا أن الإسراف من الأعمال التي تحبط مساعي الإنسان للرقي ، وكما نعرف أن شهوة الاشتهاء للطعام وحتى للملابس أحياناً تتضاعف في رمضان بفعل الصوم لأن المعدة خاوية كلما مر المرء من أمام شيء يؤكل استحسنه واقتناه ، وفي المساء تُرمى هذه الأشياء إلى براميل القمامة ، إنها فعلاً قمة الانحراف والتبذير ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : “ إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت “ وقال “ من أعطى في غير حق فقد أسرف ومن منع حق فقد قتر “ ورد هذا الحديث في تفسير قولة تعالى “ والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكانا بين ذلك قواما” من هذه الآية ندرك معاني الإسراف والتبذير ومخاطرهما على الإنسان كبيرة ، فيكف إذا كان هذا الأمر في رمضان !! موسم التوبة والعودة إلى الله .
والإسراف كلمة عامة لا تخص الأكل فقط ولكنها تعني الإسراف في كل شيء حتى في الحُب والبُغض ، فقد جاء في القرآن الكريم في وصف فرعون قوله تعالى “ إنه كان عالياً من المسرفين “ فربط علو وغطرسة وكبر فرعون بالإسراف ، وخاطب بني الله لوط عليه السلام قومه ينهاهم عن المنكر قائلاً” إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ” .
وفي هذا دليل على أن الإسراف محرم وفعل متطرف مذموم في كل شيء ، وقرن الله الإسراف بكلمة التبذير فأعتبر المبذرين إخوان الشياطين حيث قال تعالى “ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا “ .
إذاً التبذير والإسراف هما صفتان متلازمتان عنوانهم الذم لعمل غير مشروع يقدم عليه الإنسان بالذات في هذا الشهر الكريم ، حيث نجد الموائد عامرة بأصناف الطعام بينما يأكل الإنسان أو أهل المنزل بشكل عام أشياء محدودة ثم ترمى بقية الأشياء إلى براميل القمامة ، وهذه معصية ما بعدها معصية لأنها تتجاوز كل الحدود وتضع المال في غير موضعه ، أي أن المال ينفق على أشياء ترفيه ، وإلا فالأكل لابد أن يكون بقدر الجوع واستقامة البدن ، ومما قاله نبي الله لقمان لأبنه في تحديد الأشياء الغير سويه قائلاً “ أن يشتري ما ليس له ويلبس ما ليس له ويأكل ما ليس له “ ومر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على سعد بن أبي وقاص وهو يتوضأ ويُبالغ في الوضوء فقال عليه الصلاة والسلام “ ما هذا السرف يا سعد فسأل سعد : أفي الوضوء سرف يا رسول الله قال : نعم وإن كنت على نهر جارٍ “ وهذا معناه أن الإسراف ممنوع في كل جوانب الحياة ، وأنه من السلوكيات المشينة التي تضعف أعمال الإنسان وتقلل من حظه في نيل رضا الخالق سبحانه وتعالى ، قال تعالى “ وأتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين “ من هُنا ندرك أن الإسراف والتبذير من الصفات المذمومة التي تتعارض مع سلوك المسلم السوي تحبط أعمال الإنسان وتقلل من قدراته على الفوز ونيل رضا الخالق سبحانه وتعالى ، فكيف إذا كان هذا الإسراف في أيام فضيلة وشهر كريم هو شهر الصوم الذي ورد في الأثر أنه يذهب سيئات العام من الشهر الذي قبله ، أي أنه يطهر الذنوب طوال السنة ، لكن مثل هذه الأعمال تحبط كل شيء وكم شاهدنا ونشاهد براميل القمامة وهي غاصة بالأطعمة التي رماها أصحابها وبعضها لم ينالوا منها شيء بالذات في هذا الشهر الكريم ، الذي من المفترض أنه شهر اقتصاد وتدبير في المعيشة لأنه يتحول إلى ثقافة يتعود عليها الإنسان طوال العام ، بالتالي الأمر بحاجة إلى مراجعة لكي نتحرى الدقة وتكون الطاعات مكتملة في هذا الشهر الكريم ، وفي هذه الظروف الصعبة والحصار الجائر على بلادنا فالأحرى بكل أسرة أن تحافظ على الطعام وتمنع كل أشكال وأنواع الإسراف والتبذير ، واليوم أصبح لدينا وسائل تؤدي إلى الحفاظ على الطعام منها المواد البلاستيكية الخفيفة التي يمكن لكل منزل أن يأخذ ما بقي من الطعام في هذه الأكياس ويوزعها على الفقراء فيكون الأجر قد تضاعف بالعبادات والإنفاق ، ومن الغريب أن نجد البعض يقتر على أولاده ولا ينفق الصدقات بحجة أنه لا يحب الإسراف والتبذير وهو تفسير خاطئ للمضمون ، فالإسراف والتبذير معروف وهو كما قلنا صفة مذمومة نهى عنها الخالق سبحانه وتعالى ويجب على كل مسلم أن يتحاشى الوقوع فيها حتى لا تناله اللعنة أو يكون من المغضوب عليهم حينما يبذر في الأكل ولا يحتاط لنفسه ، وكما قلنا الوسائل أصبحت ممكنة والفقراء كثيرون والبطون الجائعة أكثر ، ما بقي علينا هو أن نتحرى الدقة وأن لا نستأثر بالأشياء ثم نرمي بها عبثاً إلى براميل القمامة ، فالطاعة والعبادة هي سلوك قبل أن تكون طقوساً عبادية بل والسلوك مقدم على الطقوس العبادية في كثير من الأحوال ، فهل نعي خطورة هذه الأشياء علينا وعلى الطاعات وعلى الصوم بشكل خاص ؟! وكما قال عليه الصلاة والسلام “ رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش “ أو كما قال ، وهذا يجعلنا في أمس الحاجة إلى التحري والدقة وعدم الوقوع في المحذور ، فالله سبحانه وتعالى حدد لنا الطريق السليم السوي الذي نسير عليه وبأيدينا أن نحتاط وأن نجعل أعمالنا كلها خالصة لوجه الكريم ، بما في ذلك تنظيم حياتنا الذاتية من الطعام والشراب كي لا نقع في الخطأ وفي نفس الوقت نضاعف في الإنفاق على الفقراء والمساكين والمحتاجين باعتبار الصدقات من الأشياء المرادفة للعبادات الأساسية ، بل هي من العبادات في حال الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام ولا يستقيم دين المؤمن إلا بأدائها لأنها وردت مرادفة للصلاة .
أخيراً أقول الأمر سهل إذا خلصت النيات وعرف كل واحد المهام والمسؤوليات التي عليه تجاه نفسه وتجاه أهله عندها يمكن أين يكون سوياً مستقيم السلوك والأخلاق وبالتالي يتقبل الله منه الطاعات وينال الفوز ، نسأل الله أن يسدد خطانا ويصلح أحوالنا وينصرنا على أعدائنا في هذا الشهر الكريم ، إنه سميع مجيب .. والله من وراء القصد..

قد يعجبك ايضا