الجذور التاريخية للصراع اليمني السعودي” 10 “

عبدالجبار الحاج
على الرغم من أن السعودية كانت تنظر إلى البدر بصورة الأمير الأحمر، أي الأمير الشيوعي نكاية بعلاقته بالسوفييت والصين .. وبنظرة عدائية لمشروعه كما رأينا سابقا ولأن المشروع الأمريكي ومخططه في اليمن كان على الضد هو الآخر من البدر ومشروعه التحديثي وعليه فإن السعودية من موقع التابع السياسي والاقتصادي لأمريكا تماثلت في خياراتها وموقفها من البدر مع أمريكا حد التطابق .
هنا يتجلى بوضوح زيف الذرائع التي تطلقها في كل مرة من مرات الحروب العدائية فقد خاضت تلك الحروب مستخدمة كل العناوين والذرائع المتناقضة فمن دعاوى حماية الشافعية من استفراد الإمامة الزيدية بالحكم في حرب الثلاثينيات !! وفي الستينيات انطلقت من عنوان حماية الإمامة والزيدية من ثورة الشوافع !! ومع أنها لم تقل عنوانها في حرب إبادة ثلاثة آلاف ومئة وخمسين شهيداً من قوافل الحجاج العزل الذين كانوا يمثلون كل أطياف وجهات ومناطق اليمن . وهي ما أعدها هنا بالحرب الأولى خلال القرن العشرين وفي ظل أطوار نشوء السعودية الثالثة على يد عبدالعزيز بن عبد الرحمن بن فيصل آل سعود ..
هذه هي العناوين والذرائع التي لم تعد تنطلي على احد بيد أن من يسير وراءها ويتخذها مشروعا له لم ولن يكون سوى أداة يسوق بهذه العناوين عمالته مع وجود مراتع خصبة من الفقر والضلال في كل مرة على حدة …
إنها السياسة السعودية التي لم تكن يوما مع هذا أو ذاك بل هي السياسة القائمة على العداء لكل يمني والطامعة في كل ماهو حق مطلق لليمنيين كنهج رئيس لها أصله وجذره معاديا لنزعة الاستقلال التام والنهوض والتقدم وهي هي السياسة التي تبحث عن نخبة أو شلة يمنية ليس انتصارا لها إلا بقدر ما تجد فيها ومن خلالها مجالا للذرائع والتدخل في الشأن اليمني وبقدر ما تحققه من مطامعها في اليمن من توسع واحتلال تارة بقضم أطراف الأراضي في ظل تواطؤ الأنظمة السياسية وفي ظل أوضاع سياسية تبعية تغض الطرف وتارات أخرى بالحروب العسكرية المباشرة ..
وعلى رغم كل الشواهد التي أوردناها سابقا وغيرها وكلها تؤكد توجهات جادة وفاعلة وببراهين واقعية أثبتت خلال فترة ولاية العهد للبدر أن الرجل كان صاحب برنامج تنموي وتحديثي فوق انه كان ميالا في سياسته الخارجية للمعسكر الشرقي وإذا نظرنا إلى هذه السياسة من منظور وطني قائم على أساس من أعمال الموازين الدولية وتحويلها في ميدان الصراع اليمني السعودي فإنه خيار سياسي وطني صائب وضع القضية الوطنية اليمنية في حسابات الصراع الإقليمي الدولي لصالحها بحساب الاصطفافات التي كانت قائمة بين معسكري الشرق والغرب وبالطبع وفي الواقع كانت أمريكا تنظر إلى نهجه بعين لا ترضاه إن لم تكن قد سجلت الأحداث وسياساتها في اليمن تعبيرات الغضب والبحث عن بديل من ذات القصر ليحظى بدعمها وكان ذلك كما بينا بالوقائع في دعم الجناح الثاني ممثلا بالحسن داخل بيت حميد الدين ..ومن خلال دور في النقطة الرابعة بتعز .
لكن بالواقع ما إن قامت ثورة سبتمبر إلا وكانت السعودية أول من دشنت حربها الثالثة الكبرى خلال القرن العشرين وفي ظل ما يسميه مؤرخوها بالدولة السعودية الثالثة والتي شنتها منذ منذ الأيام الأولى لثورة سبتمبر عام 62 حتى العام 68 ومن ثم بدأ سقوط الجمهورية على التوالي منذ قيام حركة خمسة نوفمبر 67 بالإطاحة بالسلال وتلتها الإطاحات المتتالية بالفصائل الثورية في الجيش ومواقع الإدارة السياسية وما إن حل العام 70حتى باتت السلطة السياسية في صنعاء كلية رهن إشارتها وطوع أمرها .. أو لنقل بات القرار السياسي والتنفيذي في عموم أجهزة الدولة رهن وطوع المشيئة السعودية .
إذا أردنا أن نضع الثورة شمالا وجنوبا أمام مهماتها الوطنية الكبرى ..لنقف قليلا أمام الوضع في اليمن بجزئيه المشطورين شمالا وجنوبا وجزء ثالث واقع تحت الاحتلال السعودي ،وبالتالي فهي من هذه الزاوية إرادة شعبية تنتصر للكرامة الوطنية .
وبطبيعة أي ثورة فإن الأهداف عادة ماتكون معدة وتطرح أمام الشعب كله باعتبارها ترجمة .فإذا نظرنا لأهداف سبتمبر فهي ثورة ضد الاستبداد وضد الإقطاع وضد الظلم الاجتماعي والفوارق والامتيازات الطبقية ومن اجل رفع مستوى معيشة الشعب ومن اجل العدالة الاجتماعية في الداخل وهي ثورة وطنية ضد الرجعية والاستعمار ومن اجل الوحدة وكلها أهداف تترجمها البرامج لاحقا وضرورتها الموضوعية والذاتية تكمن في كون النظام المثار عليه عقبة أو باعتبارها نقائص السلطة المعيقة ..
إذن بهذه الأهداف المترجمة بصيغتها السداسية توفرت أسباب الثورة داخليا ولكنها إمام وضع إقليمي مع الركيزة الكبرى التي أوجدها الاستعمار البريطاني ممثلة بالسعودية ومشيخات ما يشار إليه بأمراء الساحل المتصالح .
بهذا المعنى فإن الثورة قد وضعت نفسها أمام معركتين كبيرتين إحداهما في الداخل وأخرى مع الخارج إقليميا ودوليا ..
وبحساب الموازين الدولية فإن العالم يشهد ثورة تحررية عالمية ويدور صراع حاد أسميت مرحلتها بحرب باردة ولكنها تدور على بقاع مشتعلة بين قطبي الصراع يقف إحداهما مساندا لثورات الشعوب وآخر معاديا للتحرر والاستقلال والعدالة وبالتالي فهو مركز الثورة المضادة .
وعلي الصعيد العربي لم تشذ حرب الستينيات عن كون تلك الحرب امتداداً للعداء التاريخي السعودي لليمن مع أنها فقط وبحكم علاقة العام والخاص في التأثير المتبادل للأحداث وطنيا وإقليميا وعالميا، إلا أنها مع ذلك عكست واقع كون الحرب اليمنية السعودية في الستينيات هي في إحدى تجلياتها البارزة عكست جوهر الصراع بين قوتين رئيسيتين في المنطقة العربية بين حركة التحرر العربي ووقف عبدالناصر على رأسها وبين الرجعية السعودية التي مثلت دورها كقلعة وعاصمة لقوى الثورة المضادة على المستوى الإقليمي والعربي ولن تكن بعيدة عن صراع عالمي بين قوى التحرر والثورة في العالم وقوى الرجعيات العميلة الحاكمة وتلك التابعة للاستعمار الذي أخذت تقودها أمريكا منذ الخمسينيات والستينيات وما تلاها ..وإلى اليوم ..
من مفاعيل الثورة اليمنية المتحققة أنها أججت في وجدان الشعب اليمني كله شمالا وجنوبا الروح الوطنية وهي الروح الوطنية المعادية للسعودية وأدواتها وبالتالي فان الثورة اليمنية أججت جذوة الروح اليمنية شمالا وجنوبا توقا للتحرر والتحرير ووحدة الشعب، ليس وحدة النظامين كما جرى تعسف هذا الهدف لاحقا وإفراغه من مضمونه الشعبي والاقتصادي الاجتماعي العام وبالتالي فإنها ثورة ضد الرجعية والتبعية وضد الاستعمار ..وهي بهذا ثورة ذات نهج معاد للسعودية ..
تعد الفترة من 62وحتى 68 سواء تلك التي نفذت فيها السعودية وأنظمة اليمين الرجعي في المنطقة عموما كلها بالحرب المباشرة أو تلك الفترة اللاحقة بتامين نظام سياسي تابع وحكومات تعد قوائم أعضائها في عواصم الجزيرة العربية ومن ثم بروز دعاوي ومؤتمرات السلام الاستسلامي من خلال الخط الجمهوملكي الذي نجح في الوصول إلى السلطة وانحرفت الثورة عن مسارها وأفرغت من مضمونها التحرري السياسي والاقتصادي الاجتماعي.
كل الظروف الدولية التي كانت والتي أحاطت بزمن تولي البدر الإمامة كانت تصب في غير صالحه، فالسوفييت على تفهمهم وتقديمهم لليمن مساعدات سخية من خلال البدر يمثلون مركزا للثورة العالمية ومصدر دعم لها والصين لا يمكنها أن تكون إلا في صف أي ثورة تعلن في اليمن ومن أين لها أن تقف إلا في هذه الوجهة .. وفي العالم ثلاث قارات كبرى هي آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية تشهد موجات ثورية عارمة العديد منها انتزعت الانتصار وأخرى في الطريق والقليل منها تواجه ثورة مضادة لكنها لاتزال في مرحلة المخاض .
وفي الوطن العربي خلال هذه المرحلة تسلم عبد الناصر زمام مصر وقاد التحولات الكبرى من تأميم قناة السويس إلى هزيمة العدوان الثلاثي وقيامه بالتأميمات الكبرى وتنفيذ برنامج الإصلاح الزراعي وكلها قرارات جعلت عبدالناصر محبوب الأمة ومسموع الكلمة عند شعوب العرب وهو بالتالي سيكون مع الثورة اليمنية إن لم نقل كان حاضرا في تحضيراتها وهذا شرط لصالح الثوار وسوء طالع للبدر، وفي المغرب العربي اشتعل أوار الثورة الجزائرية الكبرى وتفصلها أيام فقط بين إعلان استقلال الجزائر عام 62 وستكون بالتالي إلى جانب الثورة وهذه العوامل كلها تضافرت لتقف مع أي ثورة كانت لتقف ضدا من البدر الذي يشكل انتماؤه وحدة لحكام المملكة المتوكلية اليمنية جريرة يؤخذ بها وعقوبة له على ما اقترفه سواه ..
ولكن كما قيل أو قالوا عن محمد بن مروان آخر خلفاء بني أمية وكان أشدهم بأسا وأحزمهم وأقواهم لكنها طبائع الأشياء ونقائض المشيئات أن تجعل ما يزرعه السابقون في نتائجه غالبا ما تصيب أشواكه اللاحقون وتدميهم إذا لم تقتلهم ..
ولمروان هذا مقولة مأثورة عنه : ما نفع العدة إذ انقضت المدة .
تلك هي صنائع الظروف المحيطة والتي تقف عادة لتعصف بالنوايا والقدرات مهما حسنت ..
باختصار كانت تلك صورة الظروف التي أحاطت بالثورة اليمنية ووفرت فرصا وعوامل خارجية لثورة الشمال بالفوز بدعمها وغيرها من الثورات المشتعلة في المنطقة خاصة الثورة الكبرى في الجزائر والذي تزامن انتصارها مع قيام ثورة اليمن ومع أن ثورة اليمن شمالا بحيث كانت عواملها الداخلية اضعف من أن توفر لها الانتصار للأهداف المعلنة .. وهذا لا ينطبق على حالة الثورة في الجنوب ..
ففي الجنوب اليمني فإن الظرف العالمي ظل مؤاتيا كما كان في الشمال بيد أن الظرف والوضع العربي الذي كان عاملا مساعدا بل وحاسما في الثورة في الشمال من جهة الموقف المصري ممثلا بجهازه المخابراتي والذي لم يكن يمثل خط عبدالناصر .. فعلى العكس كان يقف ضدا من قيادة الجبهة القومية التي كانت تمثل قيادة الثورة وخط الكفاح المسلح ونهج الاستقلال الكامل في الجنوب .
ثم إن مآلات الثورتين شتان ما بينهما في المآلات .. فثورة سبتمبر خانتها التسويات واحتوتها الإرادة الإقليمية، بينما أكتوبر في الجنوب انتزعت الانتصار الحاسم رغم الظروف المعاكسة والمضادة لها عربيا .. وهذه المقارنة نحتاج فيها فيما نحتاج إلى مرجعية هامة لواحد من السياسيين اليمنيين الذين كان لهم شرف اللحاق والانخراط وقربه من مواقع الثورة شمالا وجنوبا ..وذلك في كتابه الهام عن الثورتين ومساراتيهما ومآلاتها وهو الكتاب المعنون بـ : اليمن : الثورة في الجنوب والانتكاسة في الشمال ..

قد يعجبك ايضا