أمريكا تغضب أصدقاءها.. ولا ترضي أعداءها

جورج حداد
في مطلع عام 1991م شنت أمريكا ضد العراق الحرب المعنونة “عاصفة الصحراء” أو “حرب تحرير الكويت” ووقف الاتحاد السوفياتي (حينذاك) يتفرج… وعلى الاثر انهار الاتحاد السوفياتي.
وفي اواخر عام 1999م شن حلف الناتو بزعامة أمريكا الحرب الظالمة ضد صربيا وتم “تحرير كوسوفو” وتحويلها إلى جمهورية ما فياوية بنيت فيها أكبر قاعدة عسكرية أمريكية في البلقان. ووقفت روسيا (وريثة الاتحاد السوفياتي) تتفرج أيضا.
وبين هذين التاريخين و”الانتصارين العظيمين!” للمعسكر الغربي، طرح جورح بوش الأب شعار “النظام العالمي الجديد” بزعامة أمريكا. وطرح الكانيبال البولوني الكاثوليكي الحاقد على روسيا زبيغنيو بريجينسكي شعار “أن النظام العالمي الجديد يجب ان يبنى ضد روسيا وعلى حسابها”.
وبالفعل كانت مرحلة التسعينات من القرن الماضي “الحقبة الذهبية” للآحادية القطبية الأمريكية ووحدة الكتلة الغربية ضد روسيا. وقد تكاتفت غربان الرأسمال الاحتكاري العالمي، بقيادة الرأسمال اليهودي، لنهش روسيا ونهبها وتمزيقها واذلالها.
ولكن هذا النهج كان باهظ الثمن لأمريكا بالاخص، وللكتلة الغربية ووحدتها بصورة عامة.
فأولا ـ استنفر هذا النهج النزعة القومية والارثوذكسية المتأصلة في روسيا، فتمت ازاحة العميل يلتسين عن السلطة، ومن ثم تم نفض الغبار عن الصواريخ النووية وكافة الأسلحة الروسية “السوفياتية” القديمة واعادة توجيهها ضد أمريكا وبلدان الناتو، كما تم الشروع في تجديد وتحديث الجيش الروسي وأسلحته، مما وضع أمريكا والكتلة الغربية أمام التحدي الوجودي الحقيقي الذي لا قدرة لها على مواجهته كلها مجتمعة.
وثانيا ـ توجب على أمريكا أن تدفع عدّاً ونقداً ثمن زعامتها الدولية وأحاديتها القطبية. وخاصة في الجانب العسكري. حيث أن الجيوش والاساطيل البحرية والجوية الأمريكية انتشرت في كافة البحار والقارات. كما أصبحت غالبية ميزانية حلف الناتو تقع على عاتق أمريكا. ونتيجة لذلك تفاقم بسرعة كبيرة العجز الضخم في ميزان المدفوعات الخارجي وميزان التجارة الخارجية لامريكا. وهذه هي الخلفية الأساسية التي انفجرت فوقها الازمة المالية ـ الاقتصادية في أمريكا سنة 2008م وانتقلت إلى كافة ارجاء العالم ولا تزال تجرّ ذيولها إلى الآن.
وإذا كان عهد جورج بوش الاب قد دشن مرحلة الأحادية القطبية لأمريكا، فإن عهد دونالد ترامب يجسد مرحلة نزول أمريكا عن الشجرة والعودة إلى “حجمها الطبيعي” بوصفها قطبا واحدا وحسب، وان كان قطبا رئيسيا، من ضمن أقطاب عدة على الساحة الدولية.
ولكن التحول من القطب الأوحد إلى قطب واحد ليس أيضا بدون ثمن بالنسبة لامريكا.
ومن مظاهر هذا الثمن أن أمريكا مضطرة الآن، من جهة، لتقديم التنازلات أمام الخصوم أو الأعداء التقليديين، ومن جهة ثانية، لمضايقة وإغضاب الأصدقاء التقليديين.
ففي الاجتماع الأخير لقمة حلف الناتو في بروكسل قبل نحو الشهر طالب دونالد ترامب جميع أعضاء الناتو برفع ميزانياتهم الحربية إلى نسبة 4% من الناتج المحلي القائم، بحجة أن أمريكا غير مستعدة للاستمرار بتحمل العبء الأكبر من ميزانية الناتو ومن ثم تحمل أعباء أمن الحلفاء والأصدقاء على حساب الميزانية الأمريكية والاقتصاد الأمريكي.
وفي السياق ذاته لمح ترامب إلى احتمال وقف أو إلغاء المناورات العسكرية الأمريكية في بحر البلطيق، للوقوف بوجه “التهديد الروسي” المزعوم لجمهوريات البلطيق السوفياتية السابقة، ومن ثم لشمالي أوروبا.
وقد فرض ترامب الضرائب الجمركية على استيراد الصلب والالومنيوم من كندا وأوروبا، وطالب الدول الأوروبية بتعديل ميزانها التجاري مع أمريكا. وجوابا على سؤال من قبل قناة CBS News “من هو العدو الأكبر (لامريكا) على النطاق العالمي” أجاب ترامب “لدينا الكثير من الأعداء. واعتقد أن الاتحاد الاوروبي هو عدو نظرا لما يفعله معنا على الصعيد التجاري. ربما لا يخطر ببالكم ذلك، ولكن الاتحاد الاوروبي هو عدو”.
كما فرضت أمريكا الضرائب الجمركية والرسوم الاستثنائية على مروحة واسعة من السلع الصينية الواردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة تزيد عن 500 مليار دولار
وفي الوقت ذاته قال ترامب ان روسيا ليست عدوا بل هي منافس.
وبعد خروج أمريكا من الاتفاق النووي مع إيران والإعلان عن استمرار فرض العقوبات الاقتصادية ضدها، أصدرت أمريكا قرارات اضافية لفرض العقوبات على الشركات الأجنبية التي “تخرق” العقوبات ضد ايران، وهذا هو بيت القصيد في العقوبات ضد إيران، أي أن المقصود الأول هو الدول والشركات الأوروبية التي تواصل العمل في السوق الإيرانية وخاصة في استيراد النفط من إيران.
وبعد اجتماع دونالد ترامب مع الزعيم الكوري الشمالي كيم يونغ اون أعلنت أمريكا وقف المناورات العسكرية المشتركة في شبه الجزيرة الكورية وبحر الصين الجنوبي من اجل ابتزاز كوريا الجنوبية واليابان وإلزامهما بدفع نفقات الوجود العسكري الأمريكي في الإقليم.
كما فرضت أمريكا الضرائب الجمركية والرسوم الاستثنائية على مروحة واسعة من السلع الصينية الواردة إلى الولايات المتحدة الأمريكية بقيمة تزيد عن 500 مليار دولار. مما دفع الصين لاتخاذ إجراءات مضادة. ولكن في الوقت نفسه فإن أمريكا طلبت من الصين إجراء مفاوضات تجارية واقتصادية سرية، أولا، من اجل التوصل إلى تسويات، وثانيا، من أجل قطع الطريق أمام استفادة أوروبا من أزمة العلاقات التجارية بين أمريكا والصين. علما أن الاتحاد الاوروبي سارع فوراً لاستغلال هذا الوضع وأرسل ممثليه إلى بكين للبحث الشامل في العلاقات التجارية والاقتصادية بين دول الاتحاد والصين.
يبقى الجانب الأهم في العلاقات الجيواستراتيجية الدولية المتعلق بالعلاقات الأمريكية ـ الروسية: فبعد لقاء هلسنكي بين الرئيسين بوتين وترامب، أعلن الجانب الأمريكي عن استمرار فرض العقوبات على روسيا. وهو طبعا مما لا يرضي روسيا ويدفعها إلى الاستمرار في انتهاج سياسة مستقلة خارج أي تفاهم مسبق مع أمريكا، ووضع أمريكا أمام الأمر الواقع في أي خطوة تتخذها روسيا بالتعاون مع أصدقائها وحلفائها. ولكن قمة هلسنكي أسفرت عن نتيجة رئيسية هي: الاتفاق على عدم تصعيد أي خلاف إلى درجة الصدام. ومتابعة التشاور للوصول إلى تسويات، على مختلف المستويات، بما في ذلك على مستوى القمة. وفي هذا الصدد قبل ترامب الدعوة لزيارة موسكو، كما قبل بوتين الدعوة لزيارة واشنطن.
وأخيرا لا بد من الإشارة إلى أن مخاض انتقال أمريكا من دور القطب العالمي الأوحد إلى دور القطب الواحد من ضمن عالم متعدد الأقطاب، هذا المخاض يلقى صعوبة داخل أمريكا بالذات، إلى درجة أن الأوساط الأمريكية المتشنجة توجه إلى دونالد ترامب اتهاما عبثيا هو انه عميل لروسيا وتابع لفلاديمير بوتين شخصيا.
* العهد

قد يعجبك ايضا