التاريخ يصنع وعينا (9) اليمنيون أولو قوة وأولو بأسٍ شديد

حمود عبدالله الأهنومي

 

يحكي المؤرِّخون عن اليمنيين قصصا طريفة، وجميلة، ومعبِّرة، وتعطي صورة نمطية لليماني الحر، حين تُستَثارُ حميَّتُه، وتُمَسُّ كرامتُه، وتداسُ أرضه، وينتَهَكُ عرضُه، فلا يقبل الضيم، ولا يقبل الانكسار، ويثبِت حضورَه القوي والعزيز على أرضه، وبين مزارعه، ومراعيه، وفي ذلك ما فيه مما يجب أن نتعلم دروسه، ونستفيد عبره وأمثاله.
سأكتفي بإيراد مثالين، أولهما من تاريخ صدر الإسلام، وثانيهما من التاريخ الحديث، ففي صدر الإسلام، في عهد أبي جعفر المنصور (ت158هـ) أرسل إلى اليمن جيشا بقيادة معن بن زائد الشيباني، فأخرب مدينة المعافر (في الحجرية اليوم)، وقتَل من أهلها نحوا من 2000 رجل، وكثيرين من أهل حضرموت؛ لقد طلب منه أبو جعفر أن يبسُط السيف في أهل اليمن، فنفّذ واليه معن ما أراد منه، ثم غادر اليمن بعد نقل ولايته عنها، لكن أحد اليمنيين لم يغادر ثأر أهله من قلبه لحظة واحدة.
يخبرنا التاريخ أن يمانيا قطع آلاف الكيلوهات ليترصّد معن بن زائدة بعد عزله عن اليمن وتوليته على رأس حملة تأديبية على سجستان (جنوب شرق إيران اليوم) سنة 151هـ، فقتله اليمني هناك ثأرا واقتصاصا بأقاربه، كما يؤكد ذلك الدكتور العمارنة، [في كتابه تاريخ اليمن السياسي في العصر العباسي، مج2، ص113، 115].
في التاريخ الحديث، في أكتوبر عام 1902م تعرّض كلٌّ من ميناءِ ومدينةِ ميدي لتدميرٍ شبهِ كاملٍ، بسببِ قصفِ البوارجِ الإيطالية، غير أن من الطرافة بمكان ما ذكره بعضُ المؤرِّخين عن أسباب ذلك القصف والتدمير، لقد قالوا: إن رجلا من قبيلة بني مروان (مديرية ميدي) كان أجيرا عند بعض التجار الطليان، فحدث بينهم خلاف، فقتلوه في جزيرة دهلك، فما كان من بني مروان، إلا أن ركب جماعةٌ منهم البحرَ في (سنبوك) إلى تلك الجزيرة، فقتلوا القاتلَ وجماعة من أولاده وذويه، واستولوا على مبلغٍ ماليٍّ يقدَّر بـ30 ألف ريال ماريا تريزا، وعجزت سلطات الاحتلال التركي أن تسيطر على الموقف؛ الأمر الذي حمل القوات الإيطالية على الانتقام من المدينة ومينائها بذلك الشكل الهستيري.
إن تلك الرواية عن سبب القصف تعبِّر – أكثرَ مِن سواها من الروايات المعلِّلة لذلك الحدث – تعبيرًا حقيقيا عن ذلك اليمني الأصيل الذي لا يَتْرُك ثأرَه ولو كان في عمق البحار، أو خارج حدود الأقطار.
وما بين تلك وهذه، يقف تاريخ اليمن وأهله منتصبا على أقدام الشرف والرجولة والعزة والكرامة، وما يتحفنا به الإعلام الحربي بشكل يومي من مشاهد ومعارك وبطولات يجترحها أهل اليمن ليست سوى أدلة متجددة وثابتة، تؤكد ما أكده التاريخ سابقا، وأثبتته الأحداث لاحقا، ودلت عليه التجارب الكثيرة في كل وقت وحين.
ذات حجٍّ كنتُ تحتَ مئذنةِ الحرم المكي، وكان يجلس إلى جانبي شيخٌ كبير قد ابيض رأسه ولحيته، اتضح لي لاحقا أنه تركي، فسألني بلغة عجمية مكسرة: من أين أنت؟ قلت له: من اليمن، فالتفتَ إليَّ بعين مزوّرة، وقال: أنتم يا أهل اليمن قتلتم جدي، فقلت له: وما الذي جاء بجدِّك التركي إلى اليمن؟ ألم يكن وسعه أن يبقى في أرضه؟ فرطن بكلامٍ لم أفهمه.
أمرٌ غير هيِّن أن يفقِد المرء والدَه أو جدَّه في أرضٍ تبعد آلاف الكيلوهات، وبإمكان أحدنا أن يتفهم المشاعر المغضبة لديه، والتي تركز على مأساوية الحدث، أكثر من تركيزها على سببيته، أما حين يكون الأمر ظاهرة عامة، بحيث لا يبقى بيتٌ تركي إلا ويعاني من تلك المشاعر المؤلمة، والذكريات الموجِعة، فإن ذلك سيشكل وعيا اجتماعيا جارفا، وعقدة مأساوية طاغية، لا بد أن تتجسد قوالب أحزانها، وتتدفق موجات عواطفها، في أشكال متعددة، من الأدب والفولكلور والشعر والتراث، والتاريخ، والأساطير، وحكايات الجدات، في عتمات الليالي، وهن اللائي شابت ذوائبهن وهن ينتظرن عودة أحبائهن، الذين لم يعودوا.
وليس ببعيد أن ذلك أهم أسباب عزوف تركيا عن المشاركة في هذا العدوان على اليمن رغم أنها أعلنت تأييدها له؟!
هل كان على ابن سلمان وابن زائد أن يقرءا شيئا عن جغرافية اليمن وتاريخ أبطاله ورجاله؟
ألم يكونا بحاجة ماسة إلى أن يستمعا لذلك المقطع الغنائي من فتاة تركية وهو يفيض حزنا وألما، وهي تتساءل فيه عن ماهية هذه اليمن، البعيدة، وذات العشب الأخضر، والجبال الشماء، وكيف أنها لا تقبل أن ترُد أحدا ذهب إليها؟
إن أقل ما يمكن أن يوصفا به هو أنهما فتيان غِران، أحمقان، جاهلان، صرفَهما المال عن التعرف أو حتى التحرش بتاريخ اليمن وجغرافيته، لا سيما وقد انتدبا لمهمةِ تدميره نيابة عن الأمريكان والصهاينة؛ لكنهما بكل حال، لم يكونا قد حسِبا الأثمان الباهظة التي سيدفعانها مقابل الغرق في هذا المستنقع التاريخي الذي أعجز أقوى الأمم شجاعة وبأسا.
لقد كان بوسع الغِرَّين الأحمقين أن يسمعا مقطع الزعيم العراقي عدنان الباجي دي، وهو يتلو شهادته على العصر؛ حيث نقل ما قاله له الرئيس الثاني لدولة تركيا، عصمت أنونو، حيث قال: لقد ارتكب عبدُالناصر خطأ كبيرا بالذهاب إلى اليمن، ثم قال: لقد حاربتُ جميعَ الأقوام، حاربتُ الإنجليزَ، وحاربتُ الصِّرب، وحاربت اليونان، وحاربتُ الروس، وكنت قائد حامية في اليمن، يقول: فما رأيتُ في حياتي محاربين أشداء مثلَ اليمنيين، وأضاف: إنهم يكتفون بالقليل، ولا يحتاجون معدات، وعندهم الجبال، وكل خرطوشة يحطونها في البندقية لا تذهب سدى، أي أنهم لا يُفرِغونها إلا في (الرأس والا الجمجمة)، على حد عبارة أحد زوامل الرائع عيسى الليث.
ومن يدري .. لعلهما أيضا لم يمرّ على سمعِهما يوما ما حكاه القرآنُ مقرِّرا إياه، عن ملأِ سبأ جوابا على ملكتهم وقد طلبت فتياهم، ومشورتهم، فقالوا: (نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ) [النمل: 33]، أي نحن أولو قوة في أجسادنا، وفي عدتنا، وعتادنا، ونحن أهل بأس شديد، ونكاية شديدة، وجلَد قوي في الحرب.
وللحديث بقية

قد يعجبك ايضا