الذكرى الـ 41 لرحيل المفكر والمناضل باذيب ..

 

*أسرار ووقائع علاقات التحالف ضد المحتل بين الإمام احمد والشيوعين بتعز ضد الاحتلال 58م (2)

عبدالجبار الحاج

كان اللقاء بين الإمام احمد وباذيب بتعز عام 58 والذي أسفر عن منح الإمام لصديقه وحليفه المناضل عبدالله عبدالرزاق باذيب القادم من عدن إلى محطته النضالية التالية تعز وقضى الأمر بينهما باتفاق يقضي بالسماح لباذيب بتشكيل مكتب سياسي لإطار تنظيمي وسياسي هكذا كان الطلب مقتضبا وواسع الحرية لباذيب بان يشكل مكتبه السياسي كيفما يشاء وببرنامجه وكما يشاء وهو إطار تنظيمي ليخوض به باذيب مرحلته التالية من تعز ضدا من الاحتلال البريطاني ومجالس الانجليز المحلية التشريعية الصورية وعملاء الانجليز المحليين والسلاطين وأدواته المتعددة كان هذا الاتفاق وارد في بنده الأول وفي البند الثاني يتضمن السماح لباذيب بإصدار مجلة الطليعة بتعز وهنا توفر لباذيب والإمام مرادهما ..فقضية تحرير الجنوب تمثل الأولوية الرئيسية آنذاك وتأتي قضية الوحدة اليمنية على ما عداها بما هي القضية الوطنية لتحتل الأولوية عقب انجاز التحرير الكامل والاستقلال الناجز للجنوب ..
ففي الرسالة التي وجهها الفقيد باذيب إلى الإمام احمد فور قدومه من عدن إلى تعز تضمنت طلب السماح له في تعز بتحقيق أمرين :1/ السماح بتكوين مكتب سياسي 2 / إصدار صحيفة الطليعة كان رد الإمام احمد على الطلب فوريا وجاء الرد فوريا في ذات اللقاء واليوم على حاشية الطلب بخط الإمام وكما قيل موافقا لهوى الإمام معبرا عن غبطته وسروره بأكثر مما كان سارا لباذيب الذي كان يشعر بان الأمر قابل للنقاش والتحقق لكنه لم يكن يتوقع الإيجاب والقبول الفوري بتلك السرعة بل والقيام بالتوجيهات إلى الجهات بالتمكين والطباعة وكل متطلبات إصدار الصحيفة ومستلزماتها كافه من ورق وحبر وطباعة ودشنت مجلة الطليعة من تعز أولى أعدادها ..
عقدا الإمام وباذيب على هذا اللقاء والاتفاق التي شكلت نصوصه الطلب والرد صيغته التنفيذية .. وعلقا الاثنان عليه آمالهما الكبيرة .. فالإمام يريد حليف يعزز موقفه المناهض للاحتلال وتمسكه بواحدية الوطن اليمني شماله وجنوبه ورفضه كل الصيغ الاتفاقياتية التي كانت تضمر محو يمنية الجنوب من خلال مسميات وسلطنات وصيغة اتحاد الجنوب العربي والمجلس التشريعي ورفضه اتفاقا حول الحدود وطلب الانجليز الترسيم مع الشمال المستقل آنذاك وهي اتفاقية وقعها الأتراك مع الانجليز أبان استقلال الشمال أبان الحرب العالمية الأولى .
لم تخل ممارسات السلطات المحلية خلافا لقرار الإمام واتصالا بالأمريكان لم تخل من إتباع ممارسات كادت أن تعصف بالاتفاق برمته منذ نزول العدد الأول من مجلة الطليعة بل تكررت تقريبا في كل الإعداد حيث كانت تلجأ إلى ما يمكن أن نسميه بنفوذ السلطة الخفية
إذ كان اليانكي الأمريكي عبر النقطة الرابعة يمارس دورا خلف تلك السلطات ويملي عليها إلى تعطيل وتخريب الاتفاق المعبر عنه هنا بنشاط باذيب السياسي والإعلامي البالغ التأثير والتي تخشاه أمريكا وأرادت من النقطة الرابعة التي ظاهرها المساعدة والتنمية لليمن لكن حقيقتها اختيار المكان القريب والمطل على المندب واختيار المدينة التي بدأت تخشى من تصاعد نشاط حركات التحرر فيها بشتى مشاربها وفصائلها ..
عندما توقفت الطليعة في إحدى مراتها عن الصدور كان يقف وراء القرار عناصر استخدمت أو تسلحت بسلطتها المحلية وتدخلت هذه السلطات المحلية بقوة في محاولة فرضها إخضاع مجلة الطليعة للرقابة والتدخل وهو ما كان باذيب يرفضه ويرفض أي تدخل أو إملاء أو وصاية بل كان رافضا تحديد سقف المجلة السياسي وهو ما كان محل اتفاقه مع ورضى الإمام وتأييده المطلق لأي سقف أو نهج تتبعه المجلة بيد أن هذه السلطات الخفية كانت تتذرع افتراء بان قرار فرض الرقابة وعدم السماح بإصدارها إلا بعد مرورها على مقص وقرار الرقيب هو قرار الإمام وهو ما تبين في لقاءات جمعت الإمام بباذيب وتكشف عن افتراء واستخدام اسم الإمام سلاحا لتخريب تعهدات الإمام ونقضا لوعوده ..وظل الإمام متمسكا ووفيا لتوجيهاته وتعهداته ..
بيد أن تلك الممارسات التي راحت تحاول تضييق الخناق وتعطيل إصدار المجلة كشفت الوقائع آنذاك أنها كانت تأتي بإيعاز من النقطة الرابعة إحدى محطات السي اي ايه الأمريكية بتعز وهو ما كان يدركه باذيب ..
كانت السلطات الخفية وخلفها أصابع الأمريكان تتدخل لتعطيل نشاطا لمجمل قوى التحرر على ساحة تعز وعلى مرأى ومسمع ورضى الإمام احمد وكان مفاعيل الاتفاق وموضوع مجلة الطليعة تشكل تهديدا حقيقيا وتفوقا حاسما في إفشال مرامي ومشروع النقطة الرابعة الاستخباراتي الأمريكي الخفي والسري وكانت السلطات تلك عادة تتذرع عند كل مرة لمنع إصدار وإنزال المجلة تتذرع بالقول بأنها أوامر الإمام وهو ما تكشف لاحقا من لقاء مع الإمام أو ممثله السياسي احمد الشامي بأنها ممارسات خارجة عن أي توجيه أمامي لان الإمام كان واضحا ومتحمسا لاتفاقه ومؤيدا إصدار المجلة دون أي رقيب تدخل أو حتى عند سقف محدد ..
انطلق باذيب في بناء شبكة علاقات خطه الوطني والسياسي فاتحا قنواته وكان مقتضى الاتفاق يسمح له بالتواصل ما جعله على خط اتصال ولقاء دائم مع عدد من ممثلي السلك الدبلوماسي الذي كان يتخذ من تعز مقرات له وبالذات اتصاله بالسفارة السوفييتية والإمام على علم ورضى ويبدو عن اتفاق بذلك .. وهذا ما كان يغيض أمريكا ..
وقد تمخضت علاقة باذيب وولي العهد البدر عن تأدية ادوار في العلاقات مع المعسكر الشرقي .
كانت تمضخات الصراع في المنطقة العربية والعالمية بين قوى الاستعمار القديم والجديد من جهة وكانت تعز مركز استقطاب حاد بين المعسكرين وبين قوى التحديث والاستقلال والتحرر والوحدة ..
كان الصراع النقطة الرابعة وأشكال حركة التحرر التي تعج بها مخاضات النشاط المشتعل بتعز وعلى مرأى وتشجيع من الإمام كانت تجد تعبيراتها القوية في توجهات في أكثر من جناح في رأس السلطة فكان الحسن منفتحا على الخارج ولكن باتجاه الغرب وأمريكا ..
كانت تعبيرات الصراع وتجنحاته جلية التعبير والانقسام الخفي حينا والبارز حينا بين البدر التحديثي وميله للمعسكر الاشتراكي ويجد في نشاط حركة القوميين العرب ضف إلى ذلك ما أنتجه باذيب وتأثيره السياسي والصحفي من حضور بالغ الأثر كل هذا في الضفة الواحدة الأقرب للتحديث وكان البدر ممثل هذا التوجه في جناحي السلطة وميل احمد إليه يرجحه ويقويه ..
وفي الجناح المضاد رغم أن الحسن يمثل توجها تحديثيا ولكن من موقع توجهات تميل للاعتماد على الغرب وكانت أمريكا والنقطة الرابعة تلعب وتراهن على تقوية جناح الحسن .. مع هذين الجناحين لم تخل السلطة أيضا من جناح معارض للتحديث ..
كان باذيب يرى في تعز ومن هذا الاتفاق نقطة انطلاقته كساحة امثل وأخصب ضد الاستعمار وعملائه ونقطة انطلاق لمشروع تنظيمه السياسي إلى العالم. ومركز تحركه إلى مناطق وزعماء وبلدان حركات التحرر عربيا وترسيخ وجود وتنظيم يحظى بحضور عالمي وفي منطقة العالم الثالث وعواصم المعسكر الاشتراكي ..
في مواجه هذه الصيغة المتقدمة بكل المقاييس السياسية ومن أي منظور ومن أي زمن قيمناها فهي بحق صيغة تحالفية راقية بين التوجهات اليسارية البازغة والصاعدة واحد رموزها باذيب ورفاقه أي أنها أرقى صيغ التحالف الوطني ضد المحتل الأجنبي ..
استنتج ممن الوقائع والنتائج في هذا التلاقي وسرعة الاتفاق والتنفيذ من قبل الإمام أن اتصالات بين الاثنين من جهة سبقت اللقاء وقبل ذلك فأنني استنتج أن دوافع كلاهما في قضيتي تحرير الجنوب ووحدة اليمن وتحديث الشمال هي تماما ما تعكسه العلاقات والتحركات السياسية لكل من ولي العهد البدر وباذيب باتجاه واحد في تعزيز شبكة العلاقات الدولية باتجاه المعسكر الاشتراكي السوفييت والصين وألمانيا الديمقراطية على سبيل المثال ..
من المثير للانتباه أن هكذا اتفاق أثار حفيظة ما كان يطلق عليهم بحركة الأحرار (مجموعة 48) وابرز ممثلي هذا الاتجاه ممثلين بالنعمان والارياني والزبيري وآخرين فقد كان هؤلاء على خصومتهم بالإمام الشديدة إلا أنهم إلى حد واضح على ارتباط وصلات بالانجليز ودارت بين هؤلاء وباذيب سجالات ومعارك سياسية كان باذيب الخط المناهض في معارك سياسية شتى وفي مؤلف باذيب في كتابات مختارة العديد من تلك المعارك والسجالات والتي ضمنها باذيب موضوعات ورؤى اتسمت بالتناقض المنهجي من قضايا الوحدة والاستقلال ومن قضايا الثورة الجذرية ومفهوم التغيير بإسقاط رأس الإمام وبيت حميد الدين فحسب وهي معارك ظلت دائرة وكشفت عن جوهرية الصراع وامتدت إلى ما بعد ثورة سبتمبر التي كشفت عن ارتهانية هذا الخط الذي يتخذ من الخصومات وليس من المناهج مسارا.

قد يعجبك ايضا