صعدة نافذة على تاريخ من دروب وحروب

 

عبدالجبار الحاج

شهدت اليمن هجرتها الكبرى نحو الشمال العربي في  الشام والعراق وجهات أخرى هي بالدلالة  هجرة شاهدة على انهيار حضارة عربية أصيلة قامت أسسها على الزراعة وكان سد مارب مجرد رمز لآلاف السدود ورمز لأسطورة اليمنيين في تطويع الطبيعة القاسية والشحيحة وتحويلها الى ارض تزرع في بلاد لم تهبها الطبيعة مجرى نهر واحد  ومجرد رمز  لقوة ونظام وعاصمة ..
وشهدت اليمن مرة أخرى هجرة معاكسة شاهدة على ان انحرافاً مبدئياً في نهج دولة الاسلام في ذروة المجد اذ وقعت مقاليد الرئاسة والزعامة لصالح تأسيس الملك العضوض ..فكان القتل والتنكيل عنوانا لسلطة الانفراد الأسري الأموي وصار تقليدا استبداديا ..فنتج عن نهج وسياسات الانحراف الهجرة المعاكسة جنوبا ونحو اليمن ..
عملا بالوصية التاريخية الشهيرة :عليكم باليمن ..فقد  كانت وظلت اليمن وحصونها  وجهة  الناجين  والباحثين عن ملاذ آمن وجبال حصينة منذ معركة صفين وحتى مقتل الإمام علي عليه السلام ….
وكانت  كل اليمن بكل جهاتها بما فيها جبال صعدة وعسير وجيزان ونجران  ملاذاً لكثير من المعارضين لدولة بني أمية كما كانت بنفس الوقت ويا للمفارقة ملاذ  الأمويين الفارين من مذابح الدولة العباسية على يد خليفتها العباس السفاح  وأبو جعفر المنصور فمنهم من توجه غربا نحو افريقيا مرورا  بالجزائر والمغرب وحتى جنوب اوروبا واتخذوا  من الاندلس ملاذا وتمردا  ودولة …فكانت اليمن كلها ملاذا مع ان مناطق الشمال كانت اكثر محطات من حطوا رحالهم فيها وراحوا يبحثون عن فرص للصعود والبحث عن مواقع ومناطق لنفوذهم وطوحاتهم التي لم تمت .
كل معارضي الدولة الأموية وحتى العباسية اختاروا ..
على اختلاف مشارب السياسة والفكر من  بين هؤلاء القادمين من ينابيع متلاطمة وجمعتهم الويلات والنوائب   ووحدتهم في مناطق اليمن، أقصد هنا  صاروا يمنيين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وكذا صاروا جزءاً من الصراع السياسي اليمني بكونهم يمنيين فحسب .
عندما جاء الإمام الهادي الى اليمن واختار صعدة محطة له لتوسطها تلك المقاطعات التي تكاثر فيها القادمون من الشام والعراق وغيرها والحقيقة أن كل هؤلاء القادمين صاروا يمنيين وشاركوا في حروب الدفاع عن اليمن في مواجهة الغزوات والاحتلال ولعبوا أدوارا بارزة في حروب اليمن ضد الاحتلال العثماني  ومن هؤلاء  من صاروا جزءا من تركيبة الحكم وهم من تشاركوا تحالفات سياسية يمنية ومنهم من شكلوا في مسارات الدولة  واجتمع امرهم مع غيرهم من كل اليمنيين وتشاركوا مواقف ومعارك عديدة ..حتى ان آل العلفي وهم من أصل أموي صاروا وزراء للأئمة ..وصار أحد الأمويين الطامحين حاكما وأميراً لما نراه  لدى  المؤرخين أميراً للمخلاف السليماني وتأتي التسمية نسبة الى اسمه وهو .. سليمان الحكمي ..
شكلت صعدة في  مراحل تاريخية عديدة عاصمة للدولة التي أسسها الإمام الهادي.
كما أن جغرافيا اليمن وتاريخها وحروبها وانكساراتها وانتصاراتها هي التي تضع صعدة ضمن اليمن جزءاً من بوابة وثغراً واحداً امتداده وحضوره واحد لا يتجزأ مع نجران وعسير ..
إن موقع صعدة خلف نجران وعسير وجيزان سهلها الرابط بمنفذها إلى البحر  يضعها ويلقي عليها مسؤولية تبوؤ الموقع المتقدم في جعلها جزءاً من الاقليم وهذا ما جعلها فيما مضى واليوم اكثر أهمية في واجهة  استعادة اطرافها  الى الجسد اليمني كما كانت وظلت كذلك في مراحل عدة  مركز القرار وعاصمة الدولة الزيدية  ..
ما يشجعني ويمنحني الثقة على هذا النحو هو أن نهجاً سياسياً وعسكرياً وسيادياً اتبع وحاز على اولويات منذ الإمام الهادي وحتى شرف الدين والقاسم وغيرهما وأقصد تلك المهمات  التي كانت تتخللها حروب سريعة في مهمات بسط السيادة الوطنية على كامل التراب ..
وأنا أتحدث هنا عن سيادة الدولة اليمنية على هذه الأجزاء وكانت هذه الأجزاء يمنية بالطبع ولا شيء يوحي بغير يمنيتها، إلا أن ما اردت قوله من بسط سيادة الدولة اليمنية هو القضاء على تلك الميول التي كانت تجنح في ظل غياب واتشغال وضعف مركزي وتزين لأحلام أمراء أو حتى عمال وولاة يمنيين في هذه المناطق من نزوع  يفضي الى تقطيع اليمن الى دويلات يمنية عديدة .
المرحلة التي أتحدث عنها في معظمها قبل ظهور غزوات الوهابية الأولى على جزء يسير من هذه الأحداث صادف بدايات بزوغ إمارة الدرعية الاولى وبالذات تلك الفترة من العقد الاول للقرن التاسع عشر ..
تظل صعدة  فوق ما هي المؤخرة لحروب  بسط السيطرة والسيادة الوطنية على كل اليمن بما  مثلته الى جانب حجة ونجران وجيزان وعسير  باعتبارها حدودا واحدة لا تقبل التجزئة لمساحة الثغور اليمنية شمالا وغربا وهي الى ذلك قاعدة انطلاق احد اهم مراكز الثغور الشمالية لليمن وكانت لذلك …
اكثر الحروب التي كانت  تحقق وتظفر  بالانتصار المعجل  وبأقل كلفة وأعلى الانجازات هي تلك التي كانت تتجه او كلما اتجهت وتوغلت شمالا في نحو أعلى أعالي اليمن .. فيما كان  الانهاك وطول المدة مع الكلفة العالية هي النصيب السيئ من  تلك الحروب التي تتجه جنوبا وهذه وقائع التاريخ وحقائقه  واستنتاجات معظم المؤرخين وليست محاولة تسخير وقائع التاريخ لميول ومهمات الحاضر مهما كانت وجيهة ..
ليس موقف أئمة الدولة الزيدية الذين اتخذوا من صعدة عاصمة او قاعدة في اتباع نهج اولوية السيادة  اليمنية من ظفار جنوبا وشرقا الى اقاليم نجران وعسير شمالا  موقفا او نهجا استثنائيا في تاريخ بسط نموذج الدولة على كل اراضي اليمن بل نموذج الدولة الوطنية اليمنية في كل شبر من البر والبحر والجزر والمضيق   ..
سأمر سريعا وبإيجاز كاف لوضع القارئ أمام تاريخية السيادة الوطنية وامتداداتها ..
ففي عصر الدولة الرسولية الذي امتد كأطول فترة زمنية وتعمرت لمدة قرنين ونصف فيها ساد اليمن العمران والرخاء واتسع نفوذها برا وبحرا وازدهرت احوال الناس وارتفعت مستويات  علوم الطب والفلك واتسعت .. وكانت دولة القرامطة بقيادة ابن الفضل هي اولى الدول التي خاضت معارك عنيفة بين الدولتين اليمنيتين ..
وفي معظم زمن  الدولة الصليحية وبعض من زمن الدولة الطاهرية امتدت هذه الدول بسلطانها ونفوذها على كل هذه الانحاء التي تضم كل اليمن بما فيها نجران وجيزان وعسير وظفار وحتى مكة في ايام الرسوليين ..
عدى تلك المراحل المشار اليها ظل المد والانحسار نصيبا لهذه او تلك من الدول اليمنية ..
لن اتناول هنا حروب القرن العشرين التي دارت رحاها واختلطت بين حروب مع الادريسي وامارته اليمنية في عسير بحروب اليمن مع اطماع عبدالعزيز بن عبد الرحمن آل سعود .. وسأتناول فقط في مقال تالٍ تلك الحروب التي قادها الأئمة في مجرى بسط النفوذ السيادي على كل اليمن وهي الحروب التي ظلت تضع اليمن واقاليم نجران وعسير وفرسان كجزء من الدولة اليمنية .. على أن كل مآخذنا على ماهو سلبي في مراحل هي مآخذ على انشغالات عسكرية  للدولة اليمنية عموما كانت مشاغل في غير وجهتها وبسببها أضعنا وضيعنا أجزاء من الوطن من ظفار وحتى نجران وعسير ..

قد يعجبك ايضا