مقومات الوحدة الإسلامية.. عند الإمام زيد

 

أ. محمد العفيف

أساس الوحدة الإسلامية في القرآن الكريم
مصطلحات وحدوية وخطابات الجَمْع والجماعة.
لطالما عبّر القرآن الكريم عن أهمية الوحدة الإسلامية باعتبارها قضية مصيرية يتركز الإسلام عليها وذلك بالعديد من المصطلحات الوحدوية من ناحية، وبتوجيه الخطابات الهامة والتعاليم الرئيسية العامة عن الدين الإسلامي بألفاظ الجَمْع والجماعة من ناحية أخرى.
فعلى سبيل المثال لا الحصر: يشير القرآن الكريم مؤكداً على واحديّة أمتنا الإسلامية ووحدتها بقول الله تعالى: ?إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون?[الأنبياء:92] حيث جعل مصطلح (الأمّة) عنواناً لجماعة المسلمين تنطوي تحته وتسمى باسمه شريطة أن يكونوا –أي المسلمين- مجتمعين جماعة واحدة تذوب أفرادهم فيها حتى يصلوا إلى درجة أن يُبِّر عنهم بهذا المصطلح الجَمْعي الجماعي الذي لا واحد له من لفظة (أُمّة)!!
ومن ناحية أخرى فإن هذا المصطلح لا يستقبح ولا يكون له معنى إلا بإضافته إلى الجماعة (أمّتكم) في دلالة واضحة على أنّ حال واحديّة هذه الأمة ليس إلا بالجماعة (أمّةً واحدةً) وذلك هو سرّ قوتها وتميّزها وتفردها!
ولمزيد من التأكيد على ذلك نتأمل الجمع بين المصطلح الوحدوي (أمّة) وبين مخاطبة أفراد هذا المصطلح باعتبارهم جماعة لا أفراداً، وذلك أثناء الإشارة إلى بيان سرِّ تميزهم وتمكنهم في قول الله تعالى: ?كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ?[آل عمران:110] حيث جمع بين مصطلح (الأمة) وبين مخاطبة جماعة هذه الأمة المعبّر عنها بميم الجمع في (كنتم) وبواو الجماعة في (تأمرون، تنهون، تؤمنون) وهذا الخطاب في أوضح بيان على أن هذه الأمة لن تكون خير أمة إلا إذا كانت مجتمعة بواو الجماعة لتأمر وتنهي وتؤمن وإلّا فلا سبيل لها إلى تلك الخيرّية من التميّز.
أضف إلى ذلك أن التشريعات التي شرعها الله لهذه الأمة لم تصل إليها إلّا بالخطاب الجماعي وبألفاظ الجماعة ?أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ? ? كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ? وهكذا إلى درجة أنه لا سبيل إلى نجاة هذه الأمّة إلّا باعتصامها مجتمعةً من ناحية، وباجتماعها معتصمةً بحبل الله وعدم تفرقها من ناحية أخرى كما أوضحه قول الله تعالى: ? وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ?.
وعليه .. فإن خاصة ما ذكرناه آنفاً أن ديننا الإسلامي ما شرعه الله تعالى لنا إلَّا ديناً جماعياً وحدوياً لا يقوم إلّا بالجماعة الموحّدة والمجتمع الواحد المعبَّر عنه بالمصطلح الوحدوي الواحدي (أمّة) ومن ثمّ فالوحدة الإسلامية واجب شرعي وضرورة ملحة لهذه الأمّة..
وهذا هو عين ما وعاه مولانا الإمام زيد بن علي عليه السلام حق الوعي فسعى نحو تحقيقه..
الإمام زيد عليه السلام والوحدة الإسلامية
مفهوم الوحدة الإسلامية عند الإمام زيد:
لقد تجسّد مفهوم الوحدة الإسلامية لدى الإمام زيد عليه السلام من خلال فهمه للمصطلح القرآني الوحدويّ (أمّة) حيث كان يتكرر هذا المصطلح على لسانه عليه السلام باستمرار باعتباره مصطلحاً قرآنياً بدرجة أساسية أمعن الإمام النظر والتأمّل فيه أثناء تأمّله للقرآن الكريم طيلة ثلاث عشرة سنة حتى سمي حليف القرآن!
وبما أن القرآن الكريم قد عبّر عن الوحدة الإسلامية بذلك المصطلح الجَمْعي الجماعي والوحدوي الواحدي (أمّة) فلا غرابة أن يحمل حليف القرآن عليه السلام ذلك المصطلح على عاتقه ويسعى نحو تحقيقه، ومن ثم كان يتكرر على لسانه باستمرار حتى كاد كل حديث له لا يخلو منه باعتباره جوهر الوحدة الإسلامية التي افتقدها المسلمون آنذاك (والله لو وددتُّ مصلقة بالثريا فأقع إلى الأرض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأن الله يصلح (أُمّة) محمد صلى الله عليه وآله وسلم) !!
أهم عوامل سعي الإمام زيد نحو تحقيق الوحدة الإسلامية
مآسي ماضية الدامية قبل ميلاده الشريف:
لعل فاجعة كربلاء الدامية في العام الحادي والستين للهجرة، وتفاصيل خروج الإمام الحسين عليه السلام حتى استشهاده والتمثيل بجسده الشريف، وما تبع ذلك من مآسٍ بأهل البيت عليهم السلام, ولعل الوحدة الإسلامية التي كان ينشد تحقيقها الإمام الحسين عليه السلام, وذلك بالإصلاح في الأمة الإسلامية الذي بدأ بخروجه إلى الثورة معلناً: (والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولكن خرجت للإصلاح في أمة جدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) فحال دون ذلك بنو أمية ففعلوا ما فعلوا به عليه السلام وبأهل بيته في كربلاء من جرائم وحشية خلدها التاريخ معتقدين أنهم بذلك قد طمروا ثورته ودفنوها بتراب كربلاء..
ولعل ما أصاب المسلمين بعد تلك الواقعة الرهيبة من الخوف والهلع، وكيف تفرّق الناس بكل شرائحهم عن الحق وأهله إلّا ما ندر خاصّة بعد أن ساستهم بنو أمية بالحديد والنار وبقاعدة (فرّقْ تَسُدْ)، فسادتهم مفرقين يعيشون الشتات والتمزق والضعف بكل أشكاله وصوره.
لعل كل ذلك الماضي المأساوي السابق لميلاد الإمام زيد عليه السلام بسنين معدودة لا تتعدى الرابعة عشرة قدنقل صداه المُدوّي إلى الإمام عليه السلام منذ ميلاده ومراحل سني عمره الأولى أثناء سماعه أولًا من والده الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام الذي عاش جميع ذلك الماضي بجميع مآسيه وأحزانه كان له أبلغ الأثر في نهفس الإمام زيد عليه السلام فقرر أن يعيد الكرَّة التي بدأها جده الإمام الحسين عليه السلام لإصلاح أمة جده محمد صلى الله عليه وآله وسلم !!
ظروف نشأته عليه السلام:
كان لنشأة الإمام زيد عليه السلام في بيت النبوة ومعدن الرسالة منحدراً من السلالة المصطفاة لوراثة القرآن الكريم الدور الأساس في تغريبه عليه السلام باعتباره عنوان الطهارة والإيمان وقبلة العلم والعبادة عن المجتمع الذي تلطّخ بالدنس الأموي من جميع جوانبه ونواحيه ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر:-
* من الناحية السياسية:
عاصر الإمام زيد عليه السلام بطهره ونقائه أرذال الحكم الأموي كالوليد بن عبدالملك المعروف بالترف وسفك الدماء وخبث الولاية ثم سليمان بن عبدالملك المعروف بالخليفة الأكول حين انصرف إلى الأكل والترف وتنويع الطعام حتى قتله الشره، ثم يزيد بن عبدالملك الذي قضى أوقاته في اللهو والمجون وكانت له معشوقة اسمها (حُبَابَة) رماها بحبة عنب فوقعت في حلقها فشرقت بها وماتت، فحزن عليها حزناً شديداً وترك جسدها في القصر حتى أنتن، ثم أصيب بعدها بالسل حتى هلك، فخلف من بعده هشام بن عبدالملك الطاغية الغشوم الذي عرف بالفظاظة والغلظة والبخل المفرط والحسد لكل شريف وتبعيته لمستشاره اليهودي حتى بلغ به الكبر والغرور أن يقول: والله لا يقول لي أحد أتق الله إلا ضربت عنقه!!
* من الناحية الاجتماعية:-
أدى فساد الحكم الأموي إلى انهيار القيم والأخلاق وتعظيم السفهاء وتحقير الفضلاء وانتشار المظالم والمفاسد والرذائل حتى كادت معالم المجتمع الإسلامي أن تنطمس.
* من الناحية الدينية والفكرية:-
يعتبر العصر الأموي عصر الفرق الدينية المتناحرة والحركات الفكرية المضادة للفكر الإسلامي النقي كالقدرية والمجبرة والخوارج وغيرها مما أنشأه حكام بني أمية بقصد سلخ الناس عن عقائدهم وفكرهم ودينهم الإسلامي النقي واستبداله بما يوافق أهواءهم ويخدم سلطانهم عن طريق وضع الأحاديث وتزييف العقائد وتحريف الدين الحنيف مما حدى بالإمام عليه السلام إلى قرار لمّ الصف.
* شخصية الإمام زيد عليه السلام:-
تعتبر شخصية حليف القرآن عليه السلام شخصية رسالية وفلتة زمانية مما لا يمكن تكررها حيث جمعت شخصيته عليه السلام بين شجاعة علي عليه السلام وبصيرة الحسن وإباء الحسين وعبادة زين العابدين وعلم الباقر، اكتنفته مكارم الأخلاق من كل جانب، فنشأ في بيت الكمال تغذوه أعلى مراتب الإنسانية وترعرع في أحضان الفضيلة النبوية وتقلب في وهج مصابيح العلوم المحمدية وأنوار الحكمة العلوية حتى صُقلت شخصيته بملامح جده الرسول وأبيه الإمام فمزج بذلك بين الرسالة والإمامة فأصبح فامتياز: الإمام الرسالي!! كيف لا ؟! وهو لم يحمل هم نفسه قط بل حمل هم الأمة الإسلامية جمعاء فذاب في إخلاصه وتفانيه لجمع كلمتها وإصلاحها وتوحيدها ورفع الظلم عن كاهلها وإن ضحى في سبيل ذلك بنفسه وبذل مهجته، وهذا هو عين ما عبّر هو عنه بأبلغ تعبير وأفصح بيان حين قال لمسلم بن بابك في منتصف الليل وقد استوى الثريا: (يا بابكي أما ترى هذه الثريا؟ أترى أحداً ينالها؟! قال: لا. فقال عليه السلام والله لوددت أني يدي ملصقة بالثريا فأقع إلى الأرض أو حيث أقع فأتقطع قطعة قطعة وأن الله يصلح بين أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم) فكان لهذه الطاقة الفدائية أثرها لتوجيه الإمام عليه السلام بعد تكامل شخصيته –نحو إصلاح أمة جده صلى الله عليه وآله وسلم ولملمة صفها وتوحيدها..
* أهم مقومات الوحدة الإسلامية لدى الإمام زيد عليه السلام التي سعى لإرسائها:-
حين توافرت للإمام عليه السلام ما سبق من عوامل قلّما يمكن توافرها لغيره، وحين قرر السعي نحو تحقيق الوحدة لأُمّة جده صلى الله عليه وآله وسلم امتداداً لما بدأه أبوه الحسين عليه السلام كان لابد أن يقوم بحزمة من الإصلاحات الجوهرية ما كان لتحقيق الوحدة الإسلامية أن يتمَّ دون إجرائها باعتبارها المقومات الإصلاحية من وجهة نظرنا ما يلي:-
أولاً: الإصلاح السياسي:-
لـمّا عاث ولات حكام بني أمية وكان حال تلك الشجرة الخبيثة ما كان من مظاهر الفساد والإفساد أثناء توليهم رقاب المسلمين وأموالهم وأعراضهم دون أن يرعوا أياً من الحرمات، بل وأعلنوا العداء والبغض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفرّغوا أحقادهم تلك في أهل بيته وذريته قتلاً وتنكيلاً وتشريداً وتشويهاً، فسمِّروا إعلامهم الرسمي للنيل من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسبّ أهل بيته عليهم السلام وتشويه صورهم بين الناس وتثبيط الناس عن اتباعهم أو الانتماء إليهم، وبثوا الجواسيس هنا وهناك لمطاردتهم تحت كل حجر ومدر!! حتى قتلوا الناس على التهمة والظنّة!!
وسخروا لكل ذلك الكثير من العلماء والخطباء والمفتين والمحدثين فاشتروا ذممهم ليزينوا للناس فيقلبوا الحق باطلاً والباطل حقاً!! بل وجيّشوا لذلك الجيوش من السفهاء والحسدة والمنافقين والطامعين فنهبوا الأموال والثروات، وحكموا الناس بالحديد والنار، قاموا بترويج الشائعات والأراجيف ونشر فتاوى التكفير حتى أصبحوا هم أهل الحق والإيمان وأصبحت القلة القليلة من العصبة المؤمنة من أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم هم أهل الباطل والكفر والخارجين على ولي أمر المسلمين!! وأنهم مجرد عصابات خرجت على دولة الإسلام ويجب القضاء عليها واستئصال شأفتها حتى يسلم المسلمونه من شرهم!! فإذا ما تم القبض على أحد منهم أو مجموعة منهم وتم قتلهم أو ذبحهم والتمثيل بهم أبشع تمثيل!! أو حبسهم وتعذيبهم في السجون والتنكيل بهم أشد التنكيل!! بل ونهب أموالهم وتخريب بيوتهم واستباحة حرماتهم إذا ما تمّ ذلك وجدوا التأييد المطلق من مجتمعاتهم!!
أمام كل ذلك لم يجد الإمام زيد عليه السلام بدّاً من وجوب إصلاح ذلك الواقع السياسي المشين ورسم المعالم السياسية البديلة وفق الرؤى الوحدوية الثاقبة التي وضعها كمبادئ دستورية لولاة أمر الدولة الموحدة القادمة ومن أهم تلك المعالم والمبادئ الدستورية السياسية ما يلي:-
1– مبدأ الخروج:-
كل علوي فاطمي شجاع عالم زاهد سخي خرج ثائراً على الظلم يكون إماماً ومهدياً، وليس الإمام منا من جلس في بيته وأرض ستره وثبط عن الجهاد، ولكن الإمام منا من جاهد في سبيل الله حق جهاده ودافع عن رعيته.
كما حق علينا أهل البيت إذا قام الرجل منا يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله وجاهد على ذلك فاستشهد ومضى أن يقوم آخر يتلوه يدعو إلى ما دعا إليه حجة الله عزوجل على أهل كل زمان إلى أن تنقضي الدنيا، ذلك أن سل السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب ما دام لا يمكن دفع المنكر فإقامة الحق لا يكون إلا بذلك.
2– مبدأ جواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل:-
إذا كانت مصلحة الأمة أن يكون القائم بولايتها ممن عرفوه باللين والمودة والفضل وغير ذلك من الشروط السالف ذكرها وهناك من هو أفضل منه لكن السبف كان للمفضول جاز تولي هذا المفضول مع قيام الأفضل لكن على المفضول أن يرجع إلى الأفضل في أحكامه وقراراته المصيرية ويحكم بحكمه فيها.
3- جواز خروج إمامين في قطرين متباعدين تجمعهما شروط الإمامة:-
أجاز الإمام زيد عليه السلام خروج إمامين في قطرين يتعذر وصول دعوة الإمام الأول إلى القطر الثاني، على أن يستجمع كل منهما شروط الإمامة حتى إذا انتصرت الدعوة واتسعت الرقعة حتى تقارب القطران فإن الأمر يكون حينها لأسبقهما إلى الدعوة فإن لم يعرف أسبقهما كان الأمر لأكفهما.
وكان يهدف الإمام عليه السلام من هذا المبدأ أن تتعدد الثورات في البلدان وأن تتباعد حتى تعجز السلطات الغاشمة القائمة عن مواجهتها معاً وذلك أدعى إلى انتصاراتها.
ثانياً: الإصلاح الديني والعقائدي:
أخذ الإمام زيد عليه السلام –وهو حليف القرآن وربيب السنة المطهرة- على عاتقه الذبّ عن أصالة هذا الدين الحنيف وحمايته من التحريف فبدأ بتفسير غريب القرآن –وهو أول تفسير في الإسلام- حتى لا تشوه معاني القرآن خبائب بني أمية، ثم جند نفسه للدفاع عن حياض السنة النبوية عن طريق جمع وتمييز ما هو صحيح وما هو موضوع خاصة في مواجهة دولة بني أمية التي كانت تحاول أن تهدم أحكام الشريعة بمعول إحدى يديها وباليد الأخرى تستخدم المأجورين وعلماء السلطة ومحدثي البلاط لحشر الأكاذيب والأباطيل بين ثنايا الحقائق من جهة، ونقل الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة من مصادر كعب الأحبار وأمثاله من جهة أخرى. حتى اختلطت الأحاديث الصحيحة بالموضوعة!! فبرزت الأحاديث الموضوعة وانتشرت على أنها هي السنة بينما خفت وصُوّر ما ظهر منها على أنها بدعة!!
فكادت السنة أن تفقد دورها وماكنتها لولا جهود الإمام زيد عليه السلام في الذب عن سنة جده صلى الله عليه وآله وسلم – وما وضعه من ضوابط علمية تكشف صحيح الأحاديث من موضوعها، ومن ذلك مقارنتها بالنص القرآني وعرضها على معانيه عملاً بالقاعدة التي أسسها جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم حين قال: (اعرضوا الحديث إذا سمعتموه على القرآن فما كان من القرآن فهو عني وأنا قلته، وما لم يكن على القرآن فليس عني ولم أقله وأنا بريء منه) بل إن الإمام زيداً عليه السلام كان في سبيل ذلك يقف متحدياً يصول ويجول منادياً: (والله لا تأتونني بحديث تصدقون فيه إلا أتيتكم به من كتاب الله).
فكان نتاج ذلك كله أن قام بتصحيح الكثير من المفاهيم الدينية المغلوطة التي انتشرت آنذاك بين الناس وكان مصدرها القصر الأموري!!
ومن تلك المفاهيم المغلوطة على سبيل المثال لا الحصر:
– تحريف حقيقة الإيمان واعتباره مجّرد قول باللسان للاعتراف بالدين فقط لا يضر معه أية معصية أو كبيرة من الكبائر!!
– تحريف معاني القضاء والقدر لأسباب كثيرة أهمها: أن حكم بني أمية باستبداده وظلمه وفساده قضاء وقدر فرضه الله وقدره على الناس، فيجب الرضى به خيره وشره!!
فالقدر هو الذي منح بني أمية السلطة! والقدر هو الذي أغرقهم في فسادهم ومعاصيهم!!
والقدر هو الذي قتل الأبرياء وسلب أموالهم! والقدر هو الذي شرّد أهل البيت عليهم السلام وقتل أئمتهم وشيعتهم، وعاث في الأرض والفساد، ونشر المعاصي والمحرمات وحمل الذنوب على الله!
والقدر هو من جعل الكثرة على الحق والقلة على الباطل!! والقدر هو من أسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر!! وأوجب السمع والطاعة لوي الأمر وإن سلب مالك وجلد ظهرك وأخرب بيتك مالم يظهر كفراً بواحاً لأنه صنيع القدر!! فأين المفر؟!!
هذه المفاهيم المغلوطة وغيرها الكثير والكثير استشرت في أوساط الأمة الإسلامية ومجتمعاتها بعد أن روجها إعلام السلطة الأموية وعملاؤها فخضعت لها عقول الناس ورقابهم حتى أصبحت من المسلّمات!!
ثالثاً: إصلاح علماء الأمة:-
قرر الإمام عليه السلام إحياء دور العلماء وواجباتهم تجاه أمتهم وأوضح ذلك بقوله لهم: (إنما تصلح الأمور على أيدي العلماء وتفسديهم إذا باعوا أمر الله تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين الجائرين!!).
ومن قبس تلك الرسالة العظيمة قوله عليه السلام لعلماء الأمة: (فالله الله يا عباد الله.. أجيبوا إلى كتاب الله وسارعوا إليه، واتخذوه حكماً فيما شجر بينكم، وعدلاً فيما فيه اختلفنا، وإماماً فيما فيه تنازعنا، فإنا به راضون، وإليه منتهون، ولما فيه مسلمون لنا وعلينا، ولا نريد بذلك سلطاناً في الدنيا إلا سلطانه ولا نلتمس بذلك أثرة على مؤمن ولا مؤمنة ولا حر ولا عبد..) إلى أن قال: (عباد الله.. فأجيبونا إجابة حسنة تكن لكم البشرى بقول الله عزوجل في كتابه: ?الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَاب?[الزُّمَر:18] ويقول: ?وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِين?[فُصِّلَت:33] عباد الله .. فأعينونا على من استبعد أمتنا، وأخرب أمانتنا، وعطل كتابنا وتشرف بفضل شرفنا، وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على الحق، لا نجزع من نائبة من ظلمنا، ولا نرهب الموت إذا سلم لنا ديننا.. تعاونوا وانصروا الحق بقول الله عزوجل في كتابه: ?يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم?[محمد:7] ويقول الله عزوجل: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُور?[الحج:41].
تلكم كانت حزمة أهم الإصلاحات التي تعد أهم مقومات الوحدة الإسلامية التي ما كان لها أن تقوم لولاها، أرساها الإمام زيد عليه السلام بعظمته الخالدة ورواها بدمه الزاكي وأذكاها بثورته الرائدة، ولنا نحن الزيدية –الشرف والعزة والكرامة – إذ ننتمي إلى مولانا الإمام زيد وننتسب إليه ونسمى باسمه!!.
فالإمام زيد ثورة بكل ما تعنيه الكلمة:
ثورة جهادية ضد الطغاة والمستبدين والظالمين؟!!
ثورة علمية ضد التخلف والجهل البسيط والجهل المركب!!
ثورة فكرية ضد العقائد الفاسدة الدخيلة على المسلمين!!
وضد العقائد الزائفة صنيعة القصور وبلاط السلاطين!!
كل ذلك وأكثر عنوان الوحدة الإسلامية في أي زمان وأي مكان أسسها مولانا الإمام الأعظم زيد بن علي عليه السلام.

قد يعجبك ايضا