تفاصيل لم تنشر عن جريمة اغتيال الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي(الحلقة الرابعة)

 ¶ الغشمي يعترف للحمدي بالمؤامرة ويتعهد بعدم الخيانة
¶ السادات نصح الحمدي بالتخلص من الخبراء السوفييت واستبدالهم بسعوديين
أحمد يحيى الديلمي
اغتيال وطن :
هناك روايات وشهادات اخرى لا أرى داعي لنشرها لأنها مثلت تكرارا لنفس الوقائع لكني أورد منها عبارة هامة وردت على لسان الكثيرين لكن افضل من نطق العبارة نفسها الأستاذ المرحوم محمد علي هيثم رئيس الوزراء الأسبق في الجنوب وتلفظ بها في جلسة من جلسات أول لجنة للانتخابات تشكلت برئاسة المرحوم القاضي عبد الكريم العرشي وضمت في عضويتها شريكي إعادة تحقيق الوحدة المؤتمر والاشتراكي وممثلين عن بقية الأحزاب السياسية التقليدية أو التي تشكلت بعد الوحدة.. كان الأستاذ المرحوم عبد الفتاح البصير عضو اللجنة العليا عن حزب التصحيح الناصري يذكر الجميع بما يمثله 11أكتوبر من مأساة وذكرى أليمة راح ضحيتها الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي وبعض رفاقه، أيد الكلام الاستاذ هيثم قائلا: فعلا الجريمة تفوق كل وصف انا لا اعتبر ان القتلة استهدفوا الشهيد الحمدي لكنهم اغتالوا الوطن.
الكلام أثار امتعاض المرحوم حمود هاشم الذارحي فانطلق يقلل مما حدث باستهداف الشهيد الحمدي، الكلام استفز المرحوم الأستاذ جار الله عمر عضو اللجنة عن الاشتراكي الذي نهر الذارحي بقوة وقال :اسكت يا حمود يكفي مغالطة ما حدث كان انتكاسة بكل المقاييس ، تدخل محمد سعيد عبدالله (محسن)عضو اللجنة عن الاشتراكي أيضا قائلا فعلا يا حمود انا كنت شخصيا ضد الخطوة التي كان سيقدم عليها الحمدي وسالم لكني ضد ما حدث وانتم في الاخوان المسلمين تتحملون جزءاً من المسؤولية.. يقاطع الاستاذ هيثم بحده وأنت يا محسن لا تغالط، الروس هم من طلبوا منكم إحباط الفكرة والوقوف أمامها، أنا وآخرين غيري قرأوا ما نشرته مجلة (نيروبي نيوز)الصحيفة الكينية الناطقة بالإنجليزية حيث قالت: (لم تلتقِ السي أي ايه المخابرات الأمريكية والكي جي بي المخابرات السوفيتية على شيء كما اتفقت على ضرورة الخلاص من الرئيسين الحمدي وسالم ربيع علي ) اقتضى السياق ايراد التفاصيل السابقة لإثبات حقيقة هامة مفادها أن اليسار المتطرف واليمين المتطرف اتفقا على الخلاص من الحمدي وان الدولتين الكبيرتين وضعتا لكل جانب الدور المعول عليه في تنفيذ الجريمة. في هذا الجانب يوجد تفاصيل اكثر دقة تحدث بها المناضل الوحدوي المرحوم الأستاذ عمر عبدالله الجاوي وسنوردها في الموضع المناسب.
تداعيات خطاب الحمدي في الحديدة
في تلك الاوضاع المختلفة والمضطربة وفداحة المؤامرات التي تحاك من الخارج وتتلقفها اطراف محلية كان المفترض ان الحمدي يخفف حدة الخطاب ويبحث عن مفردات مبسطة تخفف من قوة الاستهداف، إلاٌ أن الرجل كان اكثر صدقا ووضوحا فوجه السهام إلى أعداء اليمن الحقيقيين، من لا يروق لهم أن يستقل اليمن ويمتلك إرادة الفعل وأن يظل القرار اليمني مرتهنا خاضعا للهيمنة المباشرة من حكومة الرياض. في ذلك الخطاب تحدث الحمدي بدمه انطلقت الكلمات من قلبه.. حدد فئات التآمر المتربصين بالوطن وقذف التجار بعبارات نارية جاء فيها “وأحذر التجار من الاستغلال والتلاعب بأقوات الناس وأقول لهم لقد قضيتم شهر العسل “هذا الكلام نفسه ردده الغشمي في لقائه مع التجار الذي سبق الحديث عنه وحاول من خلاله استعداء التجار ضد الرئيس الشهيد بدعوى أنه وعد سالم ربيع علي بانتهاج خط اليسار حتى وافقه على التقارب وإعلان خطوات هامة باتجاه تحقيق الوحدة.
لضمان تسلسل الاحداث نعود إلى رد فعل الغشمي على ما أخبره علي عبدالله صالح عن اتصال الحمدي واستفساره عن علي بن مسلم المعلومة اذهلت الغشمي بادر إلى تبديد الشكوك وإبعاد اصابع الاتهام عن نفسه.
التاريخ يُعيد نفسه
بالفعل التاريخ أعاد نفسه وتكرر سيناريو 1948م عندما قام الثوار في عدن بنشر الدستور المتفق عليه ووصل خبره إلى الإمام يحيى حميد الدين مما دفعه إلى استدعاء عبدالله الوزير الذي دارت الشبهات حوله بأنه يتزعم الثورة وعندما عاتبه الإمام فتح المصحف واقسم أيمانا مغلظة بعدم علمه بشيء وأكد استحالة لأن يخون الثقة والقرابة والصداقة الحميمة نفس اللأسلوب كرره الغشمي عندما ابلغه علي عبدالله صالح بان الحمدي يعرف ما يدور خلف الجدران فكان رد الفعل في اتجاهين :علي بن مسلم استعجل مغادرة البلاد بالمقابل اخذ الغشمي مبلغا كبيراً من المال إلى الرئيس الحمدي واضطر إلى الاعتراف بالمساومات التي يتعرض لها من السعودية قائلا بأنها ارسلت المال الذي قدمه للحمدي لتحريضه على اغتياله واقسم أيمانا مغلظة بأنه لا يمكن أن يخون الأمانة والعيش والملح وأضاف هذا يعني اني سأقتل نفسي وانطلق يبكي ويذرف الدموع.
عانقه الحمدي وقال :هذا المال ورده إلى الخزينة العسكرية وهذا هو الاسلوب الذي كان يتبعه الرئيس الحمدي عندما تُقدم له أموال بشكل شخصي كما حدث مع مبلغ سبعة ملايين دولار أهداها إليه الشيخ زايد بن سلطان ال نهيان رئيس دولة الامارات العربية المتحدة فأمر بتوريدها إلى الخزينة العسكرية وقصص كثيرة مماثلة افصح عنها المرحوم علي الهادي مدير الخزينة العسكرية في نفس الفترة وذكر الوقائع بالتفصيل في تصريحات نشرتها الصحف وهناك اسلوب آخر للرئيس الشهيد تمثل في ايداع الهدايا التي تٌقدم له الى المتحف الوطني ويقول هذه ملك للشعب لم تهدَ لي إلا لأني رئيس لليمن لكنها للأسف اختفت بعد ذلك ونهبت من المتحف.
سيف من الذهب للبياتي
ذكر القاضي إسماعيل الاكوع رئيس هيئة الاثار آنذاك رحمه الله انه عارض عندما طلب الغشمي من مدير المتحف إحدى الهدايا التي أودعها الرئيس الحمدي وهي عبارة عن سيف من الذهب الخالص اهداه اليه شاه إيران محمد رضا بهلوي أثناء زيارة الحمدي لبلاده لكن الغشمي هدد وتوعد وأمر بإيصال الهدية في ذات اللحظة وبالفعل سمعنا الشاعر العراقي عبد الوهاب البياتي يمجد الغشمي ويباهي بكرمه واطلعنا في فندق شيراتون على الهدية التي قدمها له وهي فعلا السيف الذي تحدث عنه القاضي الاكوع.
موقف الغشمي واعترافه للحمدي
اعتبرت السعودية موقف الغشمي تخاذلا وفشلا قد يُمكن الحمدي من استكمال مشروعه بما يمثله من خطر داهم على السعودية قال الملحق العسكري صالح الهديان بعد ان نقل رسالة التعنيف والتأنيب الشديد للغشمي ان الموقف عكس قلقاً متزايداً من الجميع الذين يصفوك بالصديق وقالوا انه لا يُمكن الاعتماد عليك لأنك قد تنهار أمام الحمدي في أية لحظة ويجب أن تعلم بأن هذا التصرف جعل الملك خالد وولي عهده فهد يتولون ملف القضية بأنفسهم وقد وجه الدعوة للرئيس الحمدي لزيارة المملكة وسيحاول اثناءه عن التهور وعدم الاقدام على مثل هذه الخطوة الجنونية اذا لم يتراجع وأصر على الجنون قد تضطر السعودية لتصفيته وتنصيب شخص اخر بدلا عنه حتى هذه اللحظة لا تزال انت المرشح لكن الموقف سيتغير اذا استمريت بهذا التوجه المتخاذل.
خطة لاغتيال الحمدي
في شهر اغسطس عام 1977م توجه الرئيس الحمدي لزيارة السعودية وقبل المغادرة ابلغ المقربين بان يعلنوا عن الزيارة والوقت المحدد لعودته بمجرد اقلاع طائرته من مطار صنعاء مما اربك السعودية وعملاءها في الداخل وجعل السعودية تتوخى الحذر وتشعر الحمدي انه سيظل المفضل اذا وافق على امرين هما :
1 – التراجع عن التقارب مع الحكم الماركسي في جنوب اليمن.
2 – طرد العسكريين السوفييت واستبدالهم بخبراء من السعودية (4)هذه الشروط سبق ان استمعها من السفير والملحق العسكري في صنعاء كما نقلها اليه الرئيس المصري انور السادات في شكل نصيحة وقلق على مستقبل اليمن وقد ذكرها الرئيس الشهيد في وقت لاحق للصحفي المصري الاستاذ محمد عودة الذي زار اليمن مع عدد من الصحفيين المصريين للمشاركة في احتفالات العيد الخامس عشر لثورة الـ26 من سبتمبر وكان هذا ايذاناً بالتحول الذي جعل الحمدي يتفق مع الناصريين في صنعاء وقيل انه انتظم كعضو في الحزب بعد ان تكالبت عليه القوى التقدمية الأخرى عند تشكيل الجبهة الوطنية الديمقراطية وقد وافقوا على دعوة الحمدي للبقاء في صنعاء ثم الانتقال الى عدن للمشاركة بالذكرى الرابعة عشرة لثورة 14 اكتوبر في عدن.
قال الاستاذ عودة عندما زرته في مكتبه بالقاهرة: تحولت الفرحة والثورة إلى غم لأن جريمة الاغتيال البشعة تمت ونحن في صنعاء تابعنا تفاصيلها ورد فعل الشعب اليمني على ما جرى واضطررت الى مجاراة الأحداث والذهاب لمقابلة الغشمي الذي التقيناه قبل ذلك وكان الرجل الثاني. بعد حدوث الجريمة حضر إلي الرائد علي الشاطر مدير التوجيه المعنوي قال الرئيس في انتظارك لم أمانع سرت خلفه طلباً للسلامة.
تعددت الروايات حول الاحداث التي اعقبت عودة الحمدي من السعودية فقد استغل عدم وجود الملك او ولي العهد على الاقل في استقباله واعتبر ذلك اهانة له واحتقارا واستهانة بالدولة التي يمثلها فعاد من حيث اتى بعد ان سمع الشرطين من المستقبلين له وفي اليوم التالي تلقى مكالمة هاتفية من الملك السعودي خالد بدأها بالاعتذار او التأكيد على انه تخلف عن الحضور نتيجة عارض مرضي حال بينه وبين استقباله وأعاد على مسامعه نفس الشرطين كأساس لتطوير العلاقة وزيادة التعاون ورفع معدلات الدعم السعودي لليمن وقال الملك إن الامر بات محسوما وإن اليمن ستظفر بدعم سخي جدا لم تعهده من قبل.
من روى هذه التفاصيل قال انه كان موجوداً مع اخرين في المكتب وان الرئيس الحمدي ابقى سماعة التلفون مفتوحة ظل منصتا دون أي تعليق سوى بعض كلمات المجاملة للتأكيد على انه قبل الاعتذار ثم اعتذر من العاهل السعودي قائلا : اعذرني يا صاحب الجلالة وفد صومالي يحمل رسالة خاصة من الرئيس بري لابد ان ألتقيه فقد طال انتظاره. اجاب وهو يضحك ” هذه مشكلتك يا ابراهيم هؤلاء الناس ما يأكلوش عيش” وانقطع الحديث بعدها دخل السيد عبدالرحمن خلعت بري وزير خارجية الصومال عانق الرئيس وسلم رسالة ثم تحدث عن علاقات البلدين والرغبة في تطويرها بالذات في ظل اضطراب الاوضاع وحالة التكالب الدولية على المنطقة.
وأكد على ضرورة الاهتمام بنتائج قمة الدول المطلة على البحر الاحمر والقرن الافريقي في مدينة تعز وأضاف: الرئيس بري قلق جدا بشأن التقارير التي تتحدث عن التوتر بينكم وبين السعودية لم يجعله الرئيس الحمدي يكمل امسك بيده وانتقلا الى الغرفة المجاورة اكملا الحديث منفردين على مدى ساعتين.
عرفت بعض ما دار مع الوزير الصومالي في وقت لاحق بالتحديد مساء 27اغسطس من نفس العام كنت مع الاستاذ الشاعر الكبير يحيى على البشاري في منزل شاعر اليمن الكبير المرحوم عبدالله البردوني واذا بالرئيس الحمدي يحضر بشكل مباغت وجود الاستاذ البشاري دفعه إلى الإفصاح عن بعض ما يحمل بداخله من هموم في محاولة لإقناع البشاري بان الاخطار التي تحيط بالوطن اكبر بكثير مما ورد في قصيدة البشارى التي القاها في اخر ندوة عقدت بجامعة صنعاء بمناسبة إحياء ذكرى استشهاد ابو الاحرار محمد محمود الزبيري لم يلتق به قال الرئيس الحمدي أنا اقدر مشاعرك والمخاوف التي تبديها في قصائدك أقل بكثير مما يحدث ، ما يحدث في الواقع تشيب له الرؤوس ، تخيل ان الرئيس الصومالي استفزته التقارير التي يسمعها أوفد الي مبعوثا خاصا يحذرني من اتفاق امريكي روسي سعودي بريطاني لاغتيالي اصبح جاهزاً ، قاطعه الاستاذ البردوني وهو يضحك :
والله لن يصلوا اليك بجمعهم
حتى أوسد في التراب دفينا
قال الشهيد الحمدي انا مستغرب لماذا تتهاوى النفوس وتتلوث بأنواع الحقد والكراهية فتنزلق بسهولة الى دروب الخيانة والعمالة والتبعية المطلقة لأعداء الوطن كيف يقبل هؤلاءِ بالذل والهوان.
كأن البردوني عرف ما يود الافصاح عنه أطلق ضحكته الساخرة وقال الفندم احمد سخي وأنت بخيل يا فندم…أجاب الحمدي أحمد مسكين قبل ايام حضر الى عندي ومعه مبلغ كبير من المال السعودي قال ان السعودية حاولت استقطابه وتجنيده لاغتيالي.
اكتفي بما اوردت عن ذلك اللقاء وانتقل الى الشواهد الاكثر اهمية للتدليل على ان المؤامرة مثلت رغبة سعودية بأفق دولي وهو ما جعل القاضي عبد الرحمن الارياني رئيس المجلس الجمهوري الاسبق في الشمال يبعث برسالة للرئيس المرحوم سالم ربيع علي يبارك فيها كل ما حدث من تقارب وتفاهم بينه وبين الرئيس الحمدي ويحثه على الوقوف الى جانب الحمدي والحفاظ عليه باعتباره امل كل اليمنيين لمن لا يعرف العلاقة بين الارياني والحمدي أقول كان الارياني رئيسا للمجلس الجمهوري قبل الحمدي والأخير هو الذي أقصاه من الحكم وحل محله في 13 يونيو 1974م من هذه المعلومة تتحدد مكانة الحمدي التي جعلت الإرياني يقلق على مستقبله باعتباره حاملا لراية التغيير والارتقاء بالحياة العامة في اليمن وفي هذا دليل واضح على أن الحمدي استأثر بحب كل اليمنيين بما في ذلك من كانوا على عداء معه.
وفي الحلقة القادمة نواصل بقية التفاصيل إن شاء الله

قد يعجبك ايضا