المسجد ودوره في بناء الأمة ووحدتها

محمد علي المولد العنسي

ما إن استقر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المقام في المدينة المنورة حتى باشر بالتأسيس لمجتمع جديد إيذاناً منه صلى الله عليه وآله وسلم بسطوع شموس الدولة الإسلامية الجديدة، ولقد كان أول وأهم ركائز بناء هذا المجتمع الجديد هو المسجد حيث اشترك في بنائه جميع الصحابة وشاركهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وفي الابتداء ببناء المسجد دلالات هامة وبيان لأهمية المسجد ودوره في تزكية الروح، وترسيخ مبدأ الأخوة بين أبناء المجتمع الإسلامي الواحد، أضف إلى ذلك ما للمسجد من دور هام وكبير جداً في تقديم دين الله للعالم، وذلك من خلال اجتماع المسلمين فيه، وبصورة مستمرة، والأخوة في الله عنوانهم، والتعاون على الخير ديدنهم.
ويمكن أن نتكلم عن دور المسجد في المجتمع من عدة جوانب:
من هذه الجوانب: الجانب التربوي، والجانب الدعوي، والجانب الاجتماعي، والجانب العسكري الجهادي.
أما من الجانب التربوي: فإن من أهداف بناء المسجد هو أداء العبادات ولقاء المؤمن مع ربه، وهذا يقتضي تربية المؤمن، وتهيئته تهيئة إيمانية وروحية، لمقابلة خالقه، وكذلك تفقيهه بأمور دينه، وقد كان المسجد هو المدرسة التي فيها يتلقى تلك المعارف، ويصبر نفسه على طلبها وتطبيقها، وينهل المسلم في المسجد من معين الكتاب والسنة المطهرة، فتصفو روحه وتزكى نفسه، فيخرج من المسجد الرجل الروحاني الرسالي، الواقعي، ويخرج على العالم مرشداً، ومربياً، وقد وطن نفسه على مكارم الأخلاق.
وأما الجانب الدعوي، فإن من المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن لدته مدارس ولا جامعات، بل إنه صلى الله عليه وآله وسلم، اتخذ من الجامع منبراً للإرشاد والدعوة إلى الله سبحانه، بل إنه ومن خلال سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهم المنابر للدفع بالناس إلى مواجهة أعداء الله.
ومن هذا القبيل اتخذ من المسجد منطلقاً لتقديم دين الله للعالم تقديماً صحيحاً، وفيه يتم حث الناس على التحرك في سبيل الله، وتبصيرهم وتذكيرهم بمسؤولياتهم، أمام الله إزاء ما يقدمونه في سبيل إعلاء كلمة الله، وفي مواجهة أعداء الله. وتذكيرهم أيضاً بأنه لا حل لمشاكلهم إلا عن طريق تمسكهم بدينهم، وكتابهم الذي خصهم الله به.
وأما الجانب الاجتماعي: فقد مثل المسجد ملتقى دورياً يلتقي فيه المسلمون في اليوم والليلة خمس مرات، فيلتقي فيه الآمر والمأمور، والكبير والصغير، والغني والفقير، والقوي والضعيف، يلتقي فيه الجميع على تغاير أشكالهم وألوانهم، وتعدد لغاتهم، فيقفون بين يدي خالقهم قيوم السماوات والأرض، ويصطفون صفاً واحداً، لا مكان فيه للطبقية، ولا للتمايز، بل الجميع أمام الله سواسية، ففيه تذوب الفوارق الطبقية والاجتماعية، لأن الله أمر الجميع بالصلاة صفاً فيقف الغني والقوي والآمر إلى جوار الفقير والضعيف والمأمور فيركع الجميع ركوعاً واحداً ويسجدون سجوداً واحداً، ويقرأون ذكراً واحداً، ويدعون إلهاً واحداً، وبهذا يكتسب الجميع بواسطة هذا الاصطفاف صفة الرسوخ والتماسك، وتشيع أواصر المحبة والألفة والمحبة، والإخاء، والرحمة بين المسلمين جميعاً، وتنصهر أشتاتهم في بوتقة واحدة، من الوحدة الراسخة فيما بينهم، يجمعهم حبل الله المتين الذي هو كتابه وشرعته.
وأما الجانب العسكري والجهادي فمن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما بنى المسجد ليأوي إلى زاوية منه، فيرتاح، وإنما بناه ليكون بيتاً لله تؤدى فيه الصلوات، وتعلم فيه الشرائع، وبناه ليكون قاعدة للجهاد وثكنة عسكرية، وقلعة من قلاع الجهاد، ومنبر من منابر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فكما كان منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يهز الكفر والطغيان والظلم، فهكذا ينبغي أن تكون جميع المساجد، منابر تهز الكفر وأعداء الإسلام، وقلاعاً للجهاد والدفاع عن الإسلام وأبنائه.
ولن يكون المسجد كذلك إلا إذا كان من يعمره يتصف بالرجولة والخشية لله، ولا يخاف في الله لومة لائم قال الله سبحانه: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَال ، رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلاَةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَار}[النور:36، 37]إنها صفة الانقطاع والانفتاح على الله، والمؤمن إذا ما انفتح على الله صفت روحه وزكت نفسه، وقوي إيمانه، وإذا ما انفتح على الله انفتح على الناس فيعايش واقعهم، ومشاكلهم، ويعمل على حلحلة تلك المشاكل بنفسية المؤمن القوي المخلص المنقطع لله لا يخاف لومة لائم، فيصلح المجتمع بصلاحه، وهذا مصداق قوله سبحانه {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِين}[التوبة:18].
فهذا هو دور المسجد كمركز إشعاع يضيء للعالم بنور القرآن وتحول المسجد أيضاً عند جماعة آخرين إلى زوايا ينقطع فيها البعض لترديد الأذكار، وقراءة القرآن، فحسب دون تطبيقه، ودون النظر إلى من حولهم، ينظر الواقع الإسلامي، فعند هؤلاء فقد المسجد رونقه وخفتت رايته، لأن هؤلاء اهتموا بالجانب النظري، وأهملوا الجانب العملي والحركي في الدين.
ولكي يعود للمسجد دوره الفاعل في المجتمع من إعداد للأمة المسلمة إعداداً إيمانياً، ينبغي علينا الآتي:-
– احترام قداسة المسجد باعتباره بيت الله قال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّـهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا}[الجن:18]واحترام قداستها يعني خلوها من كل مظاهر التفرقة، والعصبية، والطائفية.
– الارتباط الوثيق بالمسجد، وعمارته، العمارة الحقيقية التي هي الحيوية للمسجد، ولا يتحقق ذلك إلا بأن يتصف عُمّار بيت الله بالإيمان، وأنهم لا يخافون في الله لومة لائم، ولا يخشون إلا الله.
– قال السيد حسين بدر الدين الحوثي: «المسجد أول معقل للمسلمين وآخر معقل»، وهذا يعني بقاء دور المسجد ما بقي الإسلام في هذه الحياة. وبقاء دوره أيضاً ما اضطلع المسلمون بمسؤولياتهم أمام الله.

قد يعجبك ايضا