مسؤولية العلماء والدعاة في مواجهة سلطات الإفساد الأخلاقي

 

“خالد موسى”

للسلطة السياسية الحاكمة نفوذها وهيبتها ووظيفتها، ولها حق الأمر والنهي والمساءلة لأفراد الشعب وتأديبهم عندما يتجاوزن الحدود ويتعدون على الحقوق العامة أو الخاصة، ويشكلون خطراً على غيرهم من البشر ويتسببون في تضييع مقدرات الأمة ويتهاونون بممتلكاتها وخيراتها فحين يكون أحد المواطنين سبباً لهدر الطاقات وتبديد الثروات والإضرار بالشعب فإن للشرع كلمته الفصل وموقفه الحازم لإيقاف هذا العبث والسفه فالشريعة الإسلامية تقوم على جلب المصالح ودرء المفاسد هذا على مستوى المواطنين العاديين البسطاء وكذلك يشمل هذا المبدأ مبدأ المساءلة والمحاسبة والمحاكمة والتأديب كل من تسول لهم أنفسهم الأمارة بالسوء من الولاة والحكام والأمراء خرق قانون الحياة الكريمة والعادلة التي أرسل الله الرسل وأنزل الكتب من أجلها؟ قال تعالى: «لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ»[الحديد : 25].
فلا بد للحياة من قوانين منظمة وتشريعات زاجرة توقف كلاً من الراعي والرعية عند حده إذا ما سولت له نفسه أن يفسد و يطغى أو يتعدى وتفرض عليه قوانين العدل و التعايش مع أخيه المسلم وغير المسلم.
إن الرعية حين ترى الراعي في مقام القدوة والسلوك الحسن والانضباط والالتزام بالأوامر فإنها ستكون أكثر التزاماً وأشد احتراماً للرَّاعي أو الحاكم ولاء ووفاء له، ولنا في رسول الله وأهل بيته أسوة حسنة وفي سيرته دستور حياة فحين دخل مكة فاتحاً جسد القدوة في الحزم وأصدر الأمر بضبط الأقربين قبل الأبعدين فأصدر قراراً ملزماً يقول فيه: (وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَأَوَّلُ دَمٍ أَضَعُهُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ – كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ – وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُهُ رِبَانَا، رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ). ونطق بالقول الصارم والفصل بحق أقرب المقربين منه وهي فاطمة الزهراء البتول المعصومة أم أبيها وتربيته إلا أنه أراد أن يجعل للحق سلطانه وللحدود فاعليتها وحيويتها فقال على سبيل الافتراض: (وَالله لَو أَن فَاطِمَة سرقت لَقطعت يَدهَا) وهذه القيم أكد عليها القرآن قائلاً: « يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّـهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ»[النساء: 135].
هكذا كان النبي وهكذا يجب أن تكون أمته من أعلى هرم في الحكم والسلطة وصولاً إلى المواطن البسيط، ومن هنا واقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن يحمل العلماء والدعاة ما يفرضه عليهم العلم من مسؤولية النصح والتبيين والجهر بالحق في وجه الحاكم والمحكوم على السواء لا أن تكون نصائح العلماء ومواعظ الدعاة موجهةً فقط إلى بسطاء الأمة وضعفائها بل يكون الخطابُ والنصح والإرشاد والتوجيه أكثر اهتماماً وعناية بأصحاب القرار وأن يتم الصدع بالحق وتوجيه سهام النقد والنصح البناء إليهم وزجرهم ونهيهم عند الحاجة واللزوم لذلك لا أن يقع العلماء والدعاة والناصحون في الخطيئة التي وقع فيها بنو إسرائيل والتي تمثلت بمحاسبة ومعاقبة الضعيف وغض الطرف عن منكر الشريف.
عندما يكون الانحراف في رأس الهرم أو رأس النظام والحكم فلا بد من قوة رادعة وسلطة مانعة تحول دون انحراف الراعي وانحداره في مستنقع الفساد وبراثن الظلم والمظالم والتمادي في الطغيان وهذه القوة والسلطة تتمثل في دور العلماء الربانيين الصادعين بالحق الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر وهذا ما رّغّب وأرشد إليه النبي بقوله: (سيد الشهداء حمزة، ورجل قال كلمة حق عند سلطان جائر). لأن الصدع بكلمة الحق أمام السلطان الجائر والحاكم الظالم تعني المحاسبة والمساءلة والتخفيف على كاهل الأمة من الفساد و الظلم وتراكم المظالم وهذا ما أشار إليه الإمام زيد عندما وجه خطابه لعلماء الأمة السيئين والكاتمين للبيان عند الحاجة فقال لهم: (فو الذي نفس «زيد بن علي» بيده لو بينتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحق الذي تعرفون، لتَضَعْضَعَ بُنْيَان الجبَّارين، ولتهَدَّم أساس الظالمين، ولكنكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلاً، وادْهَنتم في دينه، وفارقتم كتابه هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق، كي تتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، فأمْكَنتم الظلمة من الظلم، وزيَّنتم لهم الجَورَ، وشَدَدْتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة، فهذا حالكم) إلى آخر كلامه عليه السلام.
وهناك الكثير من الشواهد التاريخية والمواقف المشرفة والعظيمة لبعض العلماء والدعاة الذين وقفوا وقفة بطولية وشجاعة لمحاسبة الحكام وبيان أخطائهم وانحرافاتهم، هذه المواقف والشواهد تعتبر حجة على علماء ودعاة اليوم الذين ينظرون إلى _الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه- فلا يتخذون موقفاً.
فكثير من دعاة وعلماء هذا الزمن يرون منكرات الحكام والأمراء ويشاهدون فسقهم وفجورهم وفسادهم وانحرافهم وانحدارهم القيمي وانسلاخهم وبعدهم عن كل الأخلاق والآداب فلا يحركون ساكناً وكأن منكرَ وفسادَ وإجرامَ وانحرافَ الحاكمِ وصاحبِ الجلالةِ والفخامةِ نزل به وحي من السماء وسمح به الجليل الأعلى تعالى الله عن ذلك وتنزّه سبحانه وتقدست صفاته وأسماؤه.
وهذا ما يدعونا للتذكير بمواقف أولئك العلماء العاملين الذين وقفوا وقفة الحق أمام الحاكم الظالم وهذه الوقفة الشجاعة من العلماء على اختلاف مذاهبهم تعتبر حجة على العلماء الساكتين عن قول الحق والصامتين أمام إجرام الحكام والسلطات الجائرة في هذا العصر.
ومن الشواهد التاريخية المشرفة التي لا زال التاريخ يرويها للأمة موقف العلامة العز بن عبد السلام الذي اتخذ موقفاً صارماً من السلطان المتكبر والحاكم الفاسد والمفسد لشعبه حيث ذكرت كتب التاريخ والسير أن العز كان له موقف عظيم أمام سلطان زمانه كان ذلك في يوم العيد هذا اليوم الذي تقبل فيه الرعية على الأمير والسلطان لتقدم له التهنئة وتتشرف بلقياه والسلام عليه ويصطف فيه الناس للمباركة بالعيد على الراعي أو الحاكم لكن العز بن عبد السلام لم يكن من أولئك المداهنين والنفعيين وعبيد الدينار والدرهم وهواة القصور والكراسي المفتونين بالقرب من السلطان؛ ففي يوم عيد المسلمين والسلطان الحاكم في أبهته وزينته وعسكر السلطان وحشمه مصطفون بين يديه يباغته العز بن عبد السلام بكلام هز كيانه كما يقال: رُبَّ قولٍ أعظم من صول أي: أشد وقعاً وأثراً من السيف ليصدع بكلمة الحق فيقول لهذا الحاكم الفاسد:ما حجتك عند الله إذا قال لك: ألم أبوئ لك ملك مصر ثم تبيح الخمور؟ فقال: هل جرى هذا؟ فقال الشيخ: نعم. الحانة الفلانية تباع فيها الخمور. فقال: يا شيخنا هذا من أيام أبي. فقال الشيخ: أنت من الذين يقولون: ?إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ? . وقد أمر السلطان بإقفال الحانة على الفور، ثم يسأل الشيخ أحد تلاميذه: أما خفته؟ قال الشيخ: والله يا بني استحضرت هيبة الله تعالى، فصار السلطان أمامي كالقط.
هكذا هم العلماء الربانيون والدعاة الواعون يقومون بتقويم السياسة ويسعون لتربية الحكام ولا يتركونهم وشأنهم يمارسون الفساد بلا رقابة ولا نهي يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ولا يقبلون عذراً للحاكم في ذلك بل يرون الوالي الفاسد قطاً حقيراً أمام أعينهم وما أكثر الأمراء والحكام والولاة الذين يجب أن ننزلهم منزلة الفئران لا القطط بل ننزلهم منزلة الفواسق الخمس التي لا حرمة لها في حل أو حرم ويا لفظاعة ما نراه من أمراء اليوم وحكامه وما يمارسونه من خيانة كبرى لله ولرسوله ولدينه، فقد أباحوا المحرمات واستباحوا وهتكوا حرمات وتعاطوا في ناديهم المنكرات وشرعنوا للباطل والمنكر والإثم والعدوان.
إذا كان العلامة العز بن عبد السلام نغص على الوالي سروره وفرحته في يوم عيد بسبب حانة خمر فكيف بعلماء الأمة ودعاتها اليوم بعاصمة الإمارات دبي التي تباع فيها الخمور جهاراً نهاراً وتستقبل فيها العاهرات والعاريات والراقصات ويحتفي بهن الحاكم والسلطان المحسوب على الإسلام والمسمى زوراً وبهتاناً ولي أمر وشرعية؟
كيف بعلماء ودعاة اليوم وهم يشاهدون مطار ما يسمى بعاصمة الدولة والخلافة الإسلامية إسطنبول الذي تباع فيه الخمور علنا وتفتح في هذه الدولة المحسوبة على الإسلام أماكن الدعارة والمجون وحانات الخمور والرقص ويفاخرون ويتغنون علناً بعلمانيتها والعياذ بالله؟
كيف بعلماء ودعاة وخطباء اليوم وهم يشاهدون أمراء الخليج بأم أعينهم على مرأى ومسمع يمارسون الفساد والإفساد ويمولون قنوات وفنادق المجون والدعارة ويغرون شباب وشابات المسلمين بالفواحش ما ظهر منها وما بطن؟
إن صمت العلماء وسكوت الدعاة والخطباء عن منكرات ومفاسد ومظالم الحكام تواطؤ وإقرار لهم على سوء صنيعهم وقبح فعالهم ومشاركة لهم في ظلمهم للأمة وإفسادها هذا الإفساد المدروس والممنهج من قبل الصهيونية وصهاينة العرب الموالين للغرب.
لقد تحولت كثير من عواصم الدول العربية والإسلامية إلى محاضن للفساد والإفساد والإغواء والرذيلة والقرب من الفواحش الظاهرة والباطنة على مرأى ومسمع من كثير من العلماء والدعاة والخطباء لاسيما دول الخليج ومن تحالف معها ودار معها حيثما دارت وجعلها نداً لله يحبها كحب الله بل أشد ويقدم أوامرها على أوامر الله ورضاها على رضاء الله وصدق الله القائل: ?وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ?. والقائل سبحانه عن علماء الضلال عبيد الحكام الفاسدين وخدمة ولاة الأمر المضلين قال عنهم: «اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ» وحين سئل النبي عن معنى الآية وتفسيرها قال: رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم: ((أما أنَّهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا يحلُّون لهم ما حرم اللّه عليهم، فيستحلونه، ويحرمون عليهم ما أحل اللّه لهم، فيحرمونه)).

قد يعجبك ايضا