الاستعمار الثقافي والفكري وخطره على الشعوب

 

أ.عمار محيي الدين

الاستعمار وصوره:
ارتبط مفهوم الاستعمار باحتلال أرض الغير والسيطرة التي تمارسها دولة من الدول على شعب من الشعوب والتحكم بمصيره من خلال استغلال خيراته وثرواته والحط من كرامته وتدمير تراثه الحضاري والثقافي.
ولكن لم يعد مفهومه ينحصر في هذه الصورة بل قد استخدمت الدول المستعمِرة صوراً أخرى من خلال سفاراتها وقنصلياتها ومخابراتها أو عبر الوسائل الدبلوماسية والثقافية والإعلامية المختلفة، وهو ما تقوم به الجماعات والمنظمات والأحزاب بطبيعة الحال في نطاق التأثير السياسي، أو من خلال ما تمارسه الشركات في النطاق الاقتصادي والتجاري، أو عبر الوظيفة الطبيعية للوسائل الإعلامية في المجال العام، وصولاً إلى ما يقوم به الأفراد في العلاقات الشخصية والاجتماعية، والجميع دولاً وأحزاباً وشركات وأفراداً لتحقيق غايات ثقافية وسياسية واقتصادية وعسكرية لحسابهم.
وقد ارتبطت ظاهرة الاستعمار بالنهضة الأوروبية في القرن السادس عشر حين اندفعت بعض الدول الأوروبية لغزو واستعمار كثير من الدول في آسيا وأفريقيا والأمريكيتين وأستراليا، وبلغت ذروتها بعد قيام الثورة الصناعية في أوروبا في القرن التاسع عشر، ولا يزال الاستعمار نشطاً حتى اليوم، فالاستعمار جاء من رحم الحضارة الغربية ولن تفرّط الأم في ولدها ما عاشت.
الاستعمار الفكري والثقافي
كثير من الأبحاث والدراسات وجهت حديثها عن الاستعمار من جانب سياسي وعسكري واقتصادي، وقليل منها عالجت المشكلة الثقافية والفكرية بالرغم من أن هذا الجانب هو أشد وأنكى من غيره، وربما أن شحة الأبحاث والدراسات في هذا المجال هو لونٌ من ألوان الاستعمار والتحكم في مجال الأبحاث والدراسات وهذا ما يوضح خطورة استعمار الشعوب فكرياً وخطورة تغيير هويتها وثقافتها وعاداتها وتقاليدها، ولم يخلُ استعمار إلا وقد مارس هذا النوع من الاستعمار كونه الأداة الوحيدة التي ستبقى إذا خرج من البلاد المستعمَرة فيضمن بقاء أفكاره وثقافته التي ستعمل على نخر هيكل الدولة المستقلة من حيث لا تشعر ، ويسبب المشاكل ويخلق العراقيل للحكومات المستقلة والباحثة عن سيادتها.
ولهذا ما إن تضع الدولة المستعمِرة قدميها على دولة إلا وتأتي معها البعثات الدينية التي تقوم بنشر الأفكار التي تتبناها السلطة الحاكمة فهي من ستثبت حكمها وتوطد مكانها وتقنع العامّة بشرعيتها وكما قيل: إن التبشير في الدول الاستعمارية يسير مع الكنيسة ووزارة الخارجية جنباً إلى جنب ، ويلقى منها كل تأييد”.
وهذا ما حصل فعلاً عندما خضعت فلسطين من عام 1831م إلى عام 1840م لمحمد علي باشا حصلت طائفة اللاتين على امتيازات كبيرة بسبب موقف فرنسا المؤيد لباشا ، وتضاعف عدد الكنائس والأديرة ومنازل استقبال الحجاج، كما زاد عدد المدارس والمستشفيات والمؤسسات الخيرية التابعة للبعثات التبشيرية، وفي عام 1847م وصل أول بطريرك لاتيني إلى المدينة المقدسة، ومنذ ذلك الحين نشأ تنافس بين المبشرين اللاتين والبروتستانت.
من صور الاستعمار الفكري
للاستعمار الفكري صور عديدة يمارس المستعمر منها ما يناسب ظروف حكمه ويبسط نفوذه فيعمل على نشرها وتثبيتها وجعلها عقيدة يحرم مخالفتها ونذكر هنا بعضاً من هذه الصور :
– “ألوهية الحاكم”: تعتبر أخطر فكرة ناقشها القرآن الكريم هي ادّعاء الحاكم ألوهيته وربوبيته، وأنه هو الذي يدبّر شؤون الناس ويرعاهم، وتأتي خطورة هذه الفكرة من أثرها الناتج في واقع الناس حيث تصبح شرعاً ، يمارس الحاكم جبروته وطغيانه ، ويقف الناس أمامه أذلاء صاغرين خاضعين لكل أوامره؛ ولهذا ناقشت الآيات القرآنية هذا الموضوع بشكل مستفيض واضعة فرعون مثالاً للحكام والأنظمة الظالمة التي لا تريد أن تعلو كلمة على كلمتها ، وتريد أن تكون الآمر الناهي { مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ، وتعتبر كل مقاوم لها ومناهض؛ خارجاً عن النظام والقانون يستحق العقاب وكل أصناف العذاب، وأحسب أن صورة دول النظام العالمي اليوم لا تقل شبهاً عن صورة فرعون عندما قسمت العالم أحزاباً وشيعاً، وخلقت الصراعات والحروب في ما بينها، وتخال كل خير وثروة في العالم ماهو إلا لها ، ومن خالفها توعدته متمثلة بقول شبيهها : { قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ}.
وجوب طاعة ولي الأمر الظالم: لم يكن خلفاء المسلمين بمنأى عن استعمار عقول العامّة من الناس فقد عمل خلفاء بني أمية على تطويع الناس وإعطاء قداسة مطلقة للحاكم ؛ لأن الله هو من آتاه الملك وأوجب طاعته وإن قصم ظهرك وجدع أنفك وبقر بطنك مالم يعلن كفراً بواحاً، فثبتوا هذه الفكرة وعلموها كعقيدة وأصل من أصول الدين ، مضللين كل مَن حمل فكرة الخروج على الظلمة ومن أوجب جهادهم، معتبرين كل مخالف لهم خارجاً عن الجماعة مهدور الدم يجب قتاله ونفيه ، ولا تزال هذه الفكرة هي الرائجة في المجتمع الإسلامي تُدّرس كعقيدة في الجامعات الإسلامية، ولا يزال حاملو فكرة الخروج على الحاكم الظالم محاربين مضطهدين إلى الزمن الحاضر.
فكرة فصل الدين عن الدولة: رُوجّت قديماً وحتى العصر الحديث فكرة فصل الدين عن الدولة وأن مشكلة الدول هو تمسكها بالدين في المجالات السياسية والاقتصادية و..إلخ، فالدين – كما يزعمون- صلة ما بين العبد وربه، أما صلات الناس وعلاقات المجتمع ومشاكل الحياة وسياسة المال فلا دخل للدين فيها ولا دخل لها بالدين، ووصلوا إلى هذه الفكرة من خلال إقناع المسلمين بأن تقدمهم والتطور الناشئ في دولهم لم يكن إلا عندما جعلوا الدين طقوساً وجعلوا السياسة لأهلها من غير المتدينين، ومن هنا أرادوا استعمار العقول والتشكيك في قيمة تراثنا الروحي الذي تقوم عليه أسس كياننا ووجودنا، حتى إذا تزعزع إيماننا بصلاحية الدين ولم تعد نفحاته الروحانية تستولي على مشاعرنا وأنظمته غُزينا بفكرة أخرى من نوع جديد أخطر من سابقتها وهكذا..
وقد نجحت دول النظام العالمي في غزو الدول لاسيما الإسلامية وفصلت الدين عن الدولة فصلاً عملياً وسارت الدولة من الناحية العملية تسير وفق أنظمة وقوانين وبرامج مستمدة من هذه الدول فصبغت صبغتها وأصبح الدين اسماً والقرآن رسماً في أكثر جوانب الحياة.
الحرية بيد الاستعمار: نلاحظ أثناء الحروب -التي تشنها الدول الحاكمة للعالم أو الحكام على مناهضي الظلم – العمل الإعلامي المكثف على تزييف الواقع وقلب الحقائق ومحاولة إقناع الرأي العام بأن الحرب التي يخوضونها هي من أجل الدولة المعتدى عليها ومن أجل تحريرها وأن قضيتهم عادلة ونبيلة وأنهم يسعون دائماً لإنقاذ العالم من خطر يهدده، معتبرين كل مناهض لظلمهم وحامل الفكرة التي تبيّن زيف ادعائهم عدواً يريد دمار الشعوب وانحطاطها وأنه كهنوت يريد تخلف الأمم ورجعيتها، ويمارسون كل أنواع الظلم لإزاحة حاملي الوعي عن طريقهم فإن كانوا أفرادا اتجهوا إلى الاغتيالات وإن كانت جماعات أدخلوها في حروب وصراعات داخلية وخارجية، وألهوها عن عملها في بناء الأفكار ونشر الوعي والحقائق.
ولن تجد صورة أقرب وضوحاً من اليمن عندما ترى طائرات ودبابات وبوارج العدوان تقتل الأطفال والنساء والشيوخ لتحررهم، وتحاصرهم وتميتهم جوعاً من أجل إخراج خيراتهم وثرواتهم، وتدخل مؤسسات الأعداء إلى الجزر والموانئ فترفع علمها ليعتز أهل اليمن بيمنيتهم..
فأصبح المشهد مضحكاً مبكياً فالداعي إلى الحرية هو نفس الذي يمارس الاستعمار ، متغافلاً بأن الحرية التي يدعو إليها هي التي استعبدت أمماً بكاملها، والحقيقة أن الاستعمار يجري في شرايين هذه الدول، ولا تقوم إلا على أساسها، ويُظهر حقيقة ذلك ما صرح به “بلير” دونما خجل: ” كانت بريطانيا قوة عظمى في شؤون العالم لعدة قرون” و” لا يوجد مخلص يرغب في التنازل عن هذه المنزلة” .
إعادة تشكيل المنظومة الثقافية
ومن أخطر وسائل المستعمرين قديماً وحديثاً هو إعادة تشكيل المنظومة الثقافية من خلال وسائل كثيرة ومن هذه الوسائل:
اللغة: هي إحدى الأسس الفكرية والروحية وأهم الروابط التاريخية والأدبية التي لجأ المستعمرون قديماً والدول المهيمنة حاضراً إلى نشر ثقافتها من خلال نشر لغتها على الدول المراد السيطرة عليها ، بحيث تصبح هذه اللغة في مقرراتها الدراسية وتستعمل في وسائل الاتصال والإعلام والتخاطب اليوم، وتفتح مئات المعاهد لتدريسها وإعطاء المنح المجانية للمتفوقين فيها..
وعند إلقاء نظرة على الخريطة اللغوية للعالم ، تجد أن لغة المستعمر تصبح هي اللغة الرئيسة في البلدان المستعمرة وتحل مكان اللغة الأم لها؛ فأغلب المستعمرات الأسبانية في أمريكا اللاتينية تستخدم اللغة الأسبانية لغة رسمية، وتعد الإنجليزية اللغة الرسمية لعدد من المستعمرات البريطانية كالهند ونيجيريا وجنوب أفريقيا، كما تعد اللغة الفرنسية اللغة الرسمية في المستعمرات الفرنسية مثل تشاد ومالي والسنغال، وتعد اللغة البرتغالية لغة موزمبيق الرسمية بوصفها مستعمرة برتغالية سابقة، كما تجد أن اللغة الثانية في عدد من الدول المستعمرة هي لغة المستعمر؛ كما هو حال الإنجليزية في العراق ومصر والأردن وغيرها ، والفرنسية في دول المغرب العربي، وهو أمر ينسجم مع ما قاله العالم تريتشكا من أن اللغة هي أساس التجارة المزدهرة إذ أن الأمة لا تفقد مستعمراتها المرتبطة بها باللغة والثقافة حتى لو انقطعت الرابطة السياسية.
بالإضافة إلى أن انتشار هذه اللغات والاهتمام بها يأتي مع عدم الاعتناء باللغة العربية وتدريسها وهذا ما نتج عنه ضعفُ العرب والمسلمين في فهم أساليبها ومعانيها فجعل بينهم وبين القرآن الكريم -الذي هو كتاب هدايتهم ودستور عزتهم وكرامتهم – فجوة كبيرة وغموضاً عميقاً فجعلوه وراءهم ظهرياً وأصبح كتاباً مهجوراً..
العادات والتقاليد: عمدت الدول المستعمرة قديماً ودول النظام العالمي حديثاً لاسيما مع التقدم التكنولوجي إلى التأثير في عادات وتقاليد دول العالم وقد وصل الأمر إلى أن أثرت عليها حتى في أدق تفاصيل حياتهم ملبساً ومأكلاً ومشرباً بل وحتى في المشية والحركة، وقد نجحت هذه الدول من خلال دراساتها العميقة في كيفية التأثير على فكر الإنسان ووعيه والتحكم بتصرفاته وسلوكياته ومواقفه ، وتوجيهه نحو أفكار ونماذج وسلوكيات جديدة تتبناها ،
وقد أشارت بعض الدراسات إلى أنه من أجل التأثير على الأفراد من اللازم إحداث نوع من الاضطراب النفسي والسلوكي، وخلق بيئة فكرية ونفسية مضطربة للأفراد والجماهير كونه شرطاً لازماً لتحضير الأرضية الضرورية لتقبل النماذج والسلوكيات المصممة مسبقاً ؛ وكي تحدث هذه البرمجة يتم تعريض الجمهور لمواد ومعطيات ومواضيع ومعلومات مركزة على جمهور محدد، أصبح يعتمد بشكل شبه كلي في تواصله وتلقيه المعرفي والثقافي والترفيهي وحتى الاجتماعي على وسائل الاتصال والإعلام خاصة التلفزيون والإنترنت، ولإيضاح ذلك بشكل أكثر يكفي أن نشير إلى إحصاء علمي كشف أن الجمهور يتعرض لوسائل الإعلام بمعدل 3-4 ساعات يومياً، أي ما يوازي 1000 ساعة سنوياً ، مقابل 800 ساعة تعليم يتعرض لها التلامذة والطلاب في المدارس والجامعات، ويؤدي هذا التعرض (المشاهدة ، الاستماع أو التصفح أو القراءة) إلى حدوث آثار ومضاعفات هائلة في تشويش الأذهان وتوجيه ميولها النفسية والجمالية والاستهلاكية.
وحسب دراسات وأبحاث علمية تشير إلى أن العقل والدماغ البشري يستقبل المعطيات والمواد والوسائل الإعلامية عن طريق وسائل الاتصال والإعلام المختلفة تلفزيون، إذاعة، فضائيات، صحف ومطبوعات ومجلات، مواقع انترنت، إعلانات، أجهزة الاتصال الخليوية) بمعدل يصل لمليوني جزئية في الثانية الواحدة، يدخل منها إلى الوعي نسبة قليلة جداً قد تقل عن 10% في حين يذهب القسم الباقي 90% إلى اللاوعي محدثاً آثارا بطيئة عبر عمليات التأثير وآليات الاتصال والتفاعل بين اللاوعي والوعي في أروقة وعوالم العقل الباطن.”
من خلال ما سبق ذكره يتضح لنا سبب تدهور القيم الأخلاقية في المجتمعات وانسلاخها عن كثير من عاداتها وتقاليدها.
والمتأمل في واقع الوطن العربي والإسلامي في العصر الراهن يجد أن هناك أزمة فكرية وثقافية استفحلت في جسد الأمة وأن بذور الاستعمار الغربي تنامت وتغلغلت في المجتمعات العربية والإسلامية حتى وإن استقلت عسكرياً وأن ما تعانيه من انقسامات واقتتال تحت مسميات الطائفية والمناطقية والمذهبية ماهي إلا نتيجة استعمار العقول والأفكار .
ومن هنا نقيم الحجة على الشخصيات العلمائية والنخب الثقافية والفكرية بأن تضغط على الجهات السياسية الحاكمة بالاتجاه إلى إقامة مشاريع وطنية نابعة من البيئة العربية والإسلامية ابتداء من المناهج التعليمية مروراً بالتجارة والمعاملات وحتى الفنون وانتهاء بالفكر العام ، والاتجاه إلى إنشاء مراكز دراسات وأبحاث في كل المجالات فندرس الماضي ونقيّم الحاضر ونخطط للمستقبل من خلال ديننا وفكرنا وثقافتنا ونتميز عن غيرنا من خلال إظهار ذات الإسلام وجوهره وبيان جمال أحكامه وروعة مبادئه.

قد يعجبك ايضا