مرونة البيروقراطية

 

أحمد ماجد الجمال

دائماً ما تظهر نقطة صادمة لأي مصطلح وحالة قد تبدو عكس مضمونها أو المتعارف عليها وهي حقيقة، ويمكننا أن نشير هنا إلى مفهوم صادم عن البيروقراطية مخالف لما كنا نعرفه جميعاً، والدلالة على ذلك أن اهتماماتها تتركز أولا وأخيرا على التنظيم الرسمي وإصرارها على الاسترشاد بالقواعد والطرق الرسمية ومجموعة النواحي الإجرائية البحتة لأنها تتضمن تخصيص عمل وتسلسلاً هرمياً للسلطة وتفاعلاً موضوعياً، نظراً لعدم قدرة المسؤول الأول في الدوائر الحكومية على الإشراف على عدد كبير من المرؤوسين الذين يقومون بأعمال متنوعة، من هنا ظهرت الحاجة إلى تحديد المستويات الإدارية المختلفة بحيث يتم الاتصال إدارياً كمستويات هرمية من أعلى إلى أسفل السلم الوظيفي، وهذا يسمى بالبنية الطولية، وقد تكون محدودة وتسمى بالبنية السطحية، وقد تكون مركزية وتتركز معظم الخدمات الإدارية والإشرافية في مكتب مركزي، أما اللامركزية فإن مهامها تتوزع على مكاتب الهيكل التنظيمي المختلفة.
كان من المفترض أن تؤدي البيروقراطية إلى زيادة الكفاءة والفاعلية التي تعني توفير الوقت والجهد والمال والإنجاز إلا إذا أسيء تطبيقها وهذا هو الحال ,فقد تزايدت الاجتهادات والتعقيدات البيروقراطية التي غالباً ما أدت  إلى إعاقة الأداء بالسرعة والدقة المهنية المطلوبة، ونتيجة لذلك دوماً ما نقرأ وصفاً سلبياً للبيروقراطية حتى أصبحت مرادفة للتخلف والتراجع والجمود والتبلد وسوء الإدارة وضعف التدبير, وأصبح مفهوم البيروقراطية شماعة تعلق عليها جميع مشكلات الأجهزة والدوائر الحكومية من ضعف الإنتاجية وهدر الموارد، وهناك مثال قوي للدلالة على مسألتين:
الأولى أن المفهوم النظري ربما خالف الواقع التطبيقي حتى أصبحت البيروقراطية الشيء وعكسه فهي مثال للانضباط واللامسؤولية في آن واحد وهي معنى للقوة والضعف في الوقت نفسه.
فالبيروقراطية بالمعنى النظري منهج إداري يعتمد على قواعد وإجراءات صارمة يفعله هيكل تنظيمي ولوائح تنفيذية غالبا ما تكون ثابتة.
أما الواقع التطبيقي فهو منهج إداري يعتمد قواعد وإجراءات قد تصل إلى أن تكون غير مجدية ينفذه هيكل إداري جامد وأنظمة تنظم المسؤوليات والصلاحيات ولا يحق لأحد أن يتجاوز حدودها.
المسألة الأخرى أن اعتماد منهج دون آخر يفرضه عمل الدائرة أو الوحدة الإدارية وثقافتها، فقد تكون البيروقراطية المنهج المناسب للمؤسسات العسكرية أو مؤسسات الرقابة والمحاسبة وغير صالحة إلى حد كبير لإدارة المنشآت الناشئة والمؤسسات المالية والاقتصادية والاستثمارية والمدنية والاجتماعية، فلا يوجد منهج صالح لكل الأحوال والحالات وعلى كل مؤسسة أو وحدة إدارية أن تختار ما يناسبها حسب ما تقتضيه رسالتها وهدفها وخدماتها ومصلحتها.
وهناك أمثلة عديدة عن مؤسسات ووحدات إدارية اتبعت المنهج البيروقراطي بصرامة وحققت نجاحات كبيرة من توحيد الإجراءات والحد من الاجتهادات الخاطئة التي ربما قد تسيء إلى أدائها، وهذا المنهج الصارم تم بناؤه لتخفيف عبء اتخاذ القرار على الموظف المختص، فليس أمامه سوى اتباع التعليمات بحذافيرها دون اعتبار الواقع أو الموقف الذي يواجهه مهما كان.
هذا المنهج الصارم نفسه هو موضوع انتقاد عند تطبيقه من وحدة إدارية ومؤسسة إلى أخرى يتطلب عملها الاستجابة للمتغيرات الطارئة أو المتسارعة وتحقيق الاستباقية وبذلك تبدو كأنها تتآكل ولا تحقق إنجازاً كونها تسلب الفرد إرادته وتجعل منه ترساً في آلة كبيرة صماء تعمل بانتظام ونسق وميكانيكية دقيقة في تنفيذ الإجراءات فبدأت مهملة النواحي الإنسانية وتفتقد الواقعية لأنها مجردة من استيعاب المتغيرات المستمرة والتطورات العلمية وتقنية المعلومات والاتصالات وعلم الإدارة الحديثة وتعاني من التكلس والروتين، وتمر السنين دون إثبات وتوضيح الإنتاجية الحقيقية أو نتائج إيجابية، وفي الحقيقة ربما تؤدي إلي نتائج سلبية وهنا يكمن صراع الأضداد وضبط المسافة بين الإيجابي والسلبي كالإخلال بالمسؤولية الذي يؤدي إلى الإفراط وتجاوز الحد وحمل صلاحيات لا علاقة لها بأصل المهام  أو التفريط بالاسترخاء في أداء المهام على حساب العمل وإنجازه والضعف في القيام بالمسؤولية، وللوصول إلى مكمن الاكتشاف كفعل من الأفعال يكشف الجوانب المختلفة تسمى نقطة التكشف كي تضعها على مسار مستقيم.
لذا فالبيروقراطية في حالة تفعيل وتطويع أدوات المرونة في مضمونها ستكشف وتقترب أو تبتعد من تلك المتغيرات والمسافات حسب الحاجة والمنفعة.
هكذا تكون وسيلة لتغليب الإرادة الإدارية وإرادة الفرد وتصبح ضد ومع التطور ومتباينة سلباً وإيجاباً حسب مجال التطبيق وهدف المؤسسة والوحدة الإدارية وبيئة عملها ومتغيراتها.
واعتماداً على ما سبق فإن مؤسسات ومصالح ودوائر حكومية في بلادنا تحتاج إلى الأخذ بما هو إيجابي ونافع من النظرية البيروقراطية ووضعها على محك الاختبار التجريبي بأهداف محددة كنموذج لإدارة المهام والاختصاصات، على أن تتصف بالمهنية العالية والمبادرات المبتكرة الفاعلة المحفزة للعمل والإنتاج وتعزيز قدرات الموارد البشرية وتحسين الأداء في شتى مجالات ومستويات الإدارة لزيادة الفاعلية.

باحث في وزارة المالية

قد يعجبك ايضا