الحديدة.. مدينة تعشق البحر والتراث والفل..


.. ببساطة تجذبك نحو بساطها فعروس البحر الأحمر ومع بساطة مقوماتها الخدمية ترتكز على دعائم عملاقة تمنح ساكنها وزائرها على حد سواء ملازمة وثيقة الروابط ومغادرة مرهونة بسرعة الإياب إلى حناياها المترعة بدغدغات البحر ونبضات أسواقها الشعبية الرابضة في مركزها ومديرياتها المختلفة وحين تمتزج ثنائية روعة البحر وعراقة الأسواق الشعبية بالمساحات الخضراء في المدينة تتشكل ثلاثية عنوانها الترحيب بكل زائر ومضمونها طيب الإقامة للجميع.

الثورة/ استطلاع / يونس الشميري
> لؤلؤة لا تزال في محارها شامخة بين حنايا بحر ينبض خيراٍ وسلاماٍ وشرايين أربعة تمتد من خلالها جسور التواصل والعطاء في شتى الاتجاهات.. فمن طريق يربطها بالحالمة إلى آخر يوصلها بالعاصمة وثالث متين الصلة بالأشقاء يتنفس الخط الساحلي نسيم البحر حتى يعانق ثغر اليمن الباسم.
حين تحط رحالك في مدينة الحديدة يستقبلك شارع صنعاء قلبها النابض والذي تتفرع منه أغلبية شوارع المدينة يمنة ويسرة لينتهي بك المطاف في نهايته إلى حديقة الشعب بوابة شارع الميناء ومنه شوارع فرعية تصلك بكورنيش المدينة على البحر الأحمر ومن هناك يمكن التوجه إلى منطقة رأس كتيب السياحية.

أسواق عريقة
ما بين شارع صنعاء في وسط المدينة والشارع المجاور للكورنيش يمتد سوقا المطراق وباب مشرف المتجاوران قلبان نابضان بنشاط تجاري موغل في القدم بكل ما يحتويانه من حرفيات ومصنوعات يدوية تتفنن بإنتاجها منطقة تهامة بل ومناطق يمننا الحبيب بأكمله ومشرئبا الأعناق نحو الحداثة والمعاصرة بكل ما هو جديد.
يبدأ المشوار باتجاه المطراق من مداخل متعددة من شاعر صنعاء وإذا ما كان التحرك داخل السوق سهلاٍ في سائر الأيام فإن الوافد إلى السوق في موسم العيد لا يجد لقدميه موطئا لكثرة الأزدحام.. هنا البضائع والسلع في متناول الجميع لكثرة أماكن العرص من محلات تجارية وأخرى للتخفيضات وهي محلات تحدد سعر كل سلعة من خلال ورقة صغيرة تلصق عليها إلى جانب بسطات مرتفعة وأخرى على الأرض وفي كل هذه الأماكن ما عليك سوى الدفع دون تردد حتى ولو كانت الأسعار محلقة بأجنحة الخيال وإلا ستخرج من السوق خالياٍ وكما يقول المثل الشعبي «الحاذق يخرج من السوق عطل» إذن «أدفع ما في الجيب يأتيك ما في الغيب».
تبهرك المحلات في سوق باب مشرف لا سيما عندما ترى محلاٍ متخصصاٍ ببيع منتوجات متنوعة يجمعها مصدر واحد كان هناك (الحصير سفر الأكل الزنابيل “القفف” مناخل الدقيق القبعات التهامية والحبال “الطفي” التي تستخدم للمجالس والسرر التهامية.) وكلها مصنوعة من مصدر واحد هو النخيل ما يلفت انتباهك ويجذبك للتعرف على منتوجات أخرى.

منتجات يدوية
الحاج ياسين الزريقي (صاحب المحل) بدأ مندفعا للتحدث عن هذه الصناعات الحرفية المصنوعة غالبيتها في ريف محافظة الحديدة وكأنه يريد الترويج لها كطابع يميز معظم محافظات بلادنا وإلى جانب العرض الجميل لمنتجات حرفية كثيرة داخل وخارج المحل استعداداٍ لموسم العيد واستقبالاٍ للزائرين من معظم المحافظات كان الزريقي يتحدث وهو يشير إلى كل سلعة: «إنها تستهوي الكثير من المواطنين والوافدين إلى هنا وخاصة من محافظة صنعاء غير أن السياح الأجانب يقبلون عليها بشكل كبير» ويقول: «السياح عندما يرون هنا مثلاٍ (شيشة) مصنوعة من الطين يلتقطون لها صورة ويأخذون الفكرة ويقلدونها في بلادهم بشكل حديث إلى جانب منتوجات النخيل كانت هناك منتوجات من الطين مثل مجامر البخور بواري الشيشة زير الماء «كوز الماء» المبارد جمنة القهوة المقالي تنور الخبز وغيرهم ومنتوجات من الحجر قال عنها الحاج الزريقي: “هذه أواني حجرية «صعداوي وهذه لها مناجم يستخرج منها الحجر اللين ويتم تقطيعه بمناشير ومن ثم نحته» نجارة الحجر” ويكون الأكل فيه لذيذاٍ وهي للسلتة والفسحة والفاصوليا وغيرها وهناك أيضا المسحقة لإعداد السحاوق وتصنع في مديريتي القناوص والزيدية ويكون السحاوق فيها ألذ من سحاوق العصارة الكهربائية” ومن الزنج وعلب المانجو والسمن وغيرها كانت هناك منتوجات مثل ولاعة الفحم لتحضير اللحم المشوي والغلاف الخارجي لتنور الخبز ومشاجب الثياب وما إلى ذلك وبالمناسبة فإن الدبية وهي أداة تحضير الحقين والتي تنتجها شجرة الدباء لم تكن غائبة عن المكان.
إصرار ومثابرة
مع رنين وتر الفنان الكبير أيوب طارش وهو يصدح … « بامخبت وانابته امدبعة محمل جمالي من الخميس لا جبل راس» وكانت رحلة قافلة الشاعر الكبير علي عبدالرحمن حجاف تسير في الخبت وهو بدبعته «رأسه المكشوف» يهمس الأرض هماس بين منطقتين تابعتين لمحافظة الحديدة حينئذ قبل عقود من الزمن تحركت القافلة من منطقة الخميس نحو جبل راس غير أن الجبن البلدي لا يزال يتجه من سوق الخميس ذاته نحو مدينة الحديدة وهذه المرة في سوق باب مشرف.
كان الحاج محمد قائد يجلس في السوق خلف طاولة وضعت عليها دوائر الجبن البلدي يتطلع من خلالها ما سيقسمه له الرزاق في ذلك اليوم اختصر الحديث قال لي: “هذا البجن يأتي من سوق الخميس بالقرب من جبل راس وهو مصنوع من حليب البقر والغنم وهناك في الحلقة سوق الجملة الكثير منه سألته مستغربا لماذا يتم جلب الجبن من هذا المكان الواقع في أبعد نقطة لمحافظة الحديدة من جهة الجنوب الشرقي¿! لم يكن يهتم بالحديث معي بقدر اهتمامه بالزبون الراغب في الشراء وكانت عجالة إجابته «أنا لا يوجد عندي لا بقر ولا غنم والذين عندهم يصلحوا هنا ويبيعوا» قد أعطت السؤال حقه من الإجابة لاسيما والحاج محمد قايد منشغل بطلب رزقه فانصرفت في ظهيرة ذلك اليوم باتجاه رائحة الفل وباقات المشاقر.
حالفني الحظ حين أقبلت ناحية الكاذي والمشاقر والفل ظهرا وإلا لكان الفل منذوق «للشياطين» إن أتيت مساءٍ كانت عقود الفل تملأ المكان تواجداٍ ورائحة فواحة جعلتنا ننسى حرارة الجو هذا العقد به ما بين 180- 200 حبة فل” قال ذلك البائع محمد إبراهيم وحينها أصبح الحديث مشتركا بينه وبائع آخر «علي محمد» كان على دراية بأن الفل يفتش بعد المغرب «يتفتح» مستطردا ألم تسمع الفنان المرشدي حين قال عن الفل بعد المغرب «أنذقوه للشياطين» ويبدو أن الفل بعد أن يفتش تبدأ رائحته بالزوال.
يا فل من يشتريك
المكان عابق برائحة الفل زنابيل كثيرة مصنوعة من النخيل مملوءة بالفل وأكوام من العقود مغمضة العينين لم تفتش بعد مع أن البائعين «محمد وعلي» أوضحا أنه قليل بسبب الأمطار التي تتلفه «الفل يأتي إلى الحديدة من ثلاثة مصادر الأول منطقة العباسي بمفرق ماوية بتعز والثاني مديرية الزيدية بالحديدة أما الثالث فمنطقة المغرس بمديرية زبيد وهذه الأيام الفل معدوم بسبب الأمطار التي تتلفه كذلك يكون الفل معدوم في فصل الشتاء وإن تواجد فإنه يكون قليلا وصغيرا جدا وسعره يكون مرتفعاٍ سألته أليست محافظة لحج مشهورة بالفل لماذا لا يتم جلبه إلى هنا¿ «الفل حق لحج يروح عدن أجابني أحدهما وأضاف «هذا الفل للأعراس والمناسبات وأسعاره تختلف بحسب الجو فأيام البرد يكون معدوماٍ ويرتفع السعر وفي الصيف عندما يكون الجو حاراٍ فإنه يتواجد بكثرة ويصبح سعره رخيص هذا العقد أيام البرد يكون سعره 250 ريالاٍ ولكن في الصيف يكون ما بين 50-100 ريال والطري من الفل يجلس يوماٍ إذا تعرض للهواء ولو كان مثلجاٍ يجلس ثلاثة أيام.
إلى جوارهما كان الحاج إبراهيم سيف محاطا بالكاذي والريحان والخوعة والأزاب والكثير من المشاقر. وهناك بالقرب من كورنيش المدينة كان الحاج «أحمد معلم» محاطا ببضاعته المتواضعة التي يحملها في عربية يدفعها أمامه منذ 30 سنة على حد قوله يبيع فيها بعض لعب الأطفال والمشط والأساور والإكسسوارات الفالصو وغيرها متنقلا بعربيته من مكان إلى آخر في مديرية الميناء كان صوت الراديو الصغير الموضوع أمامه مسموعا لمن يقترب منه أشار إليه قائلا: “أنا رجل صحافة ورجل إعلام وإنسان مثقف أتابع الصحف وأقرأ المجلات وهذا الراديو معي باستمرار فهو مفكرة عالمية” وأضاف بأنه يحب سماع الأغاني الوطنية والعاطفية والأخبار المحلية والعالمية والبرامج المسلية وخاصة واحة الظهيرة وبريد المستمعين وعن العيد قال «العمل ينتعش في العيد ولكن ليس معي ضمار وما حصلت تجي مصاريف».
آنستنا يا عيد
للعيد سلطانه وهيلمانه في انبعاث البهجة في النفوس وجلب السعادة إليها وهنا يقول كل من تحدث إلينا بأن العيد يضاعف حركة عمله مهما كان هذا العمل بسيطا الشاب وليد الذي قال بأنه اكتسب مهنة صناعة كعك اللوز عن المرحوم والده يثابر في إنجاز عمله بإتقان بمراحله المتعددة قبل أن يصبح جاهزا للبيع فهذا النوع من الحلويات «يسمى «كعك اللوز» وهو مصنوع من اللوز والزبيب والفستق والقشطة والزبدة والعسل» هكذا قال مضيفا في المناسبات وخاصة الأعياد يزيد الإقبال على ما أصنعه من هذا النوع من الحلويات تراه بعد أن يقوم بإعداد حلوياته في منزله ووضعها في صحون مخصصة لذلك يتوجه بها إلى أحد المخابز من أجل إنضاجها ومن ثم التوجه بها يوميا ما عدا الجمعة إلى مكانه المخصص لبيعها.
ولمحافظة الحديدة حلتها الزاهية التي تكتسيها في العيد لتستقبل بها زائريها من جميع محافظات بلادنا لقضاء إجازة العيد والاستمتاع بأوقات سعيدة مع حدائقها وكورنيشها ومعالمها التاريخية سواء تلك التي في مركزها أو التي في مختلف مديرياتها.
ويشهد الطريق الذي يربط مدينة الحديدة بالعاصمة صنعاء حضروا منقطع النظير في أيام العيد نظرا لتدفق المواطنين إليها عبر رحلات شبه متواصلة من منطقة «عصر» بالعاصمة صنعاء ينطلق طريق «صنعاء الحديدة» غربا بطول 254 كيلو متراٍ تقريبا مرورا بمناطق صعفان وحراز والحيمة ومناخة بجبالها الشاهقة في محافظة صنعاء ومناطق باجل وهناك مصنع الاسمنت والمراوعة والقطيع وكيلو 16 في محافظة الحديدة يتخلل هذا الطريق وادي سهام وروافد وادي «سردد» المنسابة مياهها بغزارة في موسم الأمطار وتقل هذه المياه بعد هذا الموسم.
حسن الاستقبال
يقول أحمد سلطان «صاحب بقالة»: «في العيد ينتعش العمل بسبب زوار المدينة الذين يجدون مناكل ترحيب ونقوم بتوفير جميع متطلباتهم وهذا هو شعور الجميع» ويقول علي حسام في العيد تزدحم المدينة بالزائرين وتنتعش أسواقها وهذا دليل على أن محافظة الحديدة تمتلك مقومات سياحية متينة يجب تطويرها والرقي بها إلى جانب الاهتمام والتوسع في مجال المنشآت الإيوائية للزائرين والمعالم السياحية وغيرها” ويشاركه الرأي منير أحمد في مواسم الأعياد الماضية ارتفعت أسعار الغرف في الفنادق وكان الازدحام قد بلغ ذروته نتمنى التوسع في هذه الخدمات الأساسية لنجاح السياحة وخاصة السياحة الداخلية وإظهار مدينة الحديدة والمديريات الأخرى بمظهر يعبر بإيجابية عن مكانتها وأهميتها السياحية كرافد مهم من روافد الاقتصاد الوطني هموم هؤلاء من المواطنين ومشاعرهم الطيبة حملناها إلى مكتب السياحة بالحديدة وهناك التقينا الأخ سمير عبدالخالق عبدالرب نائب المدير العام للمكتب والذي قال:«الطاقة الاستيعابية خلال إجازة العيد ما يقارب 200-220 ألف وافد إلى محافظة الحديدة وهناك 65 منشأة إيوائية من فنادق وشقق مفروشة ومنتجعين سياحيين» وعن أسباب ارتفاع أسعار هذه الأماكن خلال موسم العيد قال: «العيد يعتبر موسما سياحيا ولذلك فإن طلبات الإيواء تكون كثيرة وهناك يحدث تنافس من أجله يضطر أصحاب المنشآت الإيوائية إلى رفع الأسعار وتعويض فترات الركود السابقة».
بداية الرحلة
حين تتجه نحو مدينة الحديدة من مدينة تعز الواقعة جنوبها يجب أن تقطع 290 كيلو متراٍ تقريبا عبر طريق يربط بين عدد من المدن الصغيرة والكبيرة التابعة لكلتا المحافظتين المتجاورتين فهناك الرمادة وهجدة والبرح حيث مصنع الأسمنت كمدن رئيسية تتبع محافظة تعز تربض على ذلك الطريق قبل أن تصل إلى مفرق المخا الذي منه طريق فرعي يتجه يسارا نحو مدينة المخا ومينائها الشهير المتربع على البحر الأحمر والذي به أطلق على البن اليمني في أنحاء العالم اسم «موكا» في حين يأخذك الطريق الرئيسي المتجه نحو الحديدة يمينا من مفرق المخا نحو مدن ثانوية تعد أسواقا لتجمعات سكانية لا غنى لها عن زيارة تلك الأماكن لشراء احتياجاتها اليومية والأسبوعية فالنجيبة والجمعة التابعتان لمحافظة تعز تعد مدنا صغيرة إلا أنها محطات مهمة للمسافرين والمجاورين لها لما لأهميتهما في توفير المتطلبات الضرورية لقرى تندر أو تنعدم فيها المحلات التجارية أو حتى الدكاكين الصغيرة.
باتجاهك شمالا مودعا النصف الأول من طريق تعز – الحديدة خلفك تكون المسافة الواقعة في محافظة تعز في مراحلها الأخيرة قبل الولوج في النصف الثاني من ذلك الطريق والواقع في محافظة الحديدة وحينها يكون مفرق الطريق المتجه شرقا نحو القرى الشمالية من منطقة شمير آخر المودعين لك من جهة اليمين مودعا محافظة تعز موليا وجهك شطر محافظة الحديدة لتبدو أمامك مدينة حيس ببنيانها وعراقتها وسوقها الشعبي الشهير بالمنتوجات الفخارية ومن منا لم يسمع بالمطايب والفناجين الحيسي التي تعطي البن اليمني الأصيل نكهة متميزة وفريدة لا تزال عابقة في ذاكرة الكثيرين وهناك في سوق مدينة حيس نقطة الوصل بين محافظتي تعز والحديدة تجد ازدحاماٍ منطقع النظير وخاصة في يوم الأربعاء الموعد الأسبوعي لهذا السوق الذي يرتاده الكثير سواء من قرى تهامية أو أخرى تابعة لمنطقتي شمير وشرعب.

اختصار
قال يوماٍ ذلك الرجل الثمانيني “بحسب تقديري” ونحن على مشارف مدينة حيس وهو يشير بيده يميناٍ نحو ذلك الطريق الفرعي: “هذا الطريق يصل من هنا إلى مدينة هجدة فالرمادة فتعز ماراٍ بقرى عديدة من منطقة شمير وهو أقصر بكثير من الطريق المتجة من تعز إلى هنا عبر مفرق المخا” كان الرجل يشاركنا الركوب في البيجو المتجه بنا من مدينة تعز نحو مدينة الحديدة هو لا يعرف بأني قد مررت به مرات عديدة سواء عندما كان ترابياٍ أو بعد أعمال السفلتة التي لم تكتمل بعد أو حتى الآن بعد أن طالته أيادي الإهمال فأصبح ضحية الأمطار وسقوط بعض الحصى المعرقل لحركة السير من بعض المرتفعات الصغيرة المجاورة له.
ذاكرة الرجل وهو يتحدث بلهجة تهامية جاذبة للانتباه عادت بنا والبيجو يئن تحت وطأة السائق الذي لم يأبه لذلك الأنين مشدوهاٍ. بحديث الرجل وموجهاٍ البيجو ببراعة فائقة في مساره الصحيح والأسلفت يعود إلى الخلف بسرعة البرق تلك الذاكرة عادت بنا إلى عقود ماضية من السنين حين كان طرق “حيس – الرمادة” ومن ثم إلى تعز حلقة وصل بين بعض مدن الحديدة وتعز بحسب الرجل و”كانت التنقلات التجارية المكونة حينها من عدد من الحمير أو الجمال تجد في هذا الطريق مسلكاٍ سريعا إلى الأسواق المنتشرة في تلك المدن ماراٍ بحصب الطويل والمضروبة وسقم وهناك يقام سوق أسبوعي كل يوم سبت تعرض فيه منتجات تهامية متنوعة مع أن هذه الأماكن تتبع محافظة تعز بالإضافة إلى مرورها بمناطق قباعة وسوق الخميس بالكرابدة الذي كان يقام كل خميس قبل أن ينتقل إلى منطقة مفهاية أنعم وتستمر الرحلة مروراٍ بمنطقة الحيضان ووادي رسيان متفرعة بعد ذلك إلى اتجاهين أحدهما يصل إلى مدينة هجدة والآخر إلى مدينة الرمادة ووصولاٍ منهما إلى مدينة تعز.
قبل ما يقارب العشر سنوات اعتمدت الدولة سفلتة هذا الطريق ليختصر المسافة بين مدينتي تعز والحديدة إذ يربط بين مدينتي الرمادة وحيس ويأمل المواطنون أن لا يظل هذا المشروع طي النسيان.

محطات على خط السير
باتجاهك شمالاٍ من مدينة حيس نحو مدينة الحديدة تستقبلك بعد عدة كيلو مترات مدينة الجراحى وهناك يختفي أي أثر لممرتفعات الجبلية وبالمناسبة إذا كنت لم تتناول وجبة الإفطار أو الغداء أو العشاء فهناك ستجد ضالتك حيث المطاعم تجذبك برائحة شهية يسيل لها اللعاب من مشويات ومسلوقات ومقليات والخبز الملوح والرشوش وسحاوق الجبن البلدي مع الطماطم والثوم والبسباس سترى أيضا الذبائح من غنمي وبقري معلقة طازجة برؤوسها على أبواب المطاعم وما عليك سوى التقدم بطلبك سواء “لحم صغار دقة كبدة مندي حنيذ برمة كبسة وغيرها” حتى إذا كنت لم تعلن رغبتك بعد في التوقف لتناول الطعام فإن سائق المنشأة التي تقلك سيقف كعادته في الجراحي لأجل ذلك دون سابق إنذار.
الطريق نحو مدينة الحديدة سهل منبسط عديم المرتفعات ما عليك سوى الحذر من وجود رمال تخفي معالم الطريق هدئ السرعة إذا كنت قد أدركت خطورة الأمر من بعيد وإن كنت قد تفاجأت بالرمال مباشرة فما عليك سوى التوقف المفاجئ الذي يقذف بالركاب نحو الأمام كل على انفراد إلا ركاب البيجو وخاصة الخانة الوسطية فإنهم يندفعون كتلة واحدة وقد لا يندفعون نظراٍ لتلاحقهم الوثيق الكاتم للأنفاس في كرسي صنعه الأجانب من أجل ثلاثة أشخاص فقط فأقل فاستغليناه نحن لأربعة أشخاص فأكثر.
وفي مدينة العلم والعلماء “زبيد” بجوامعها الأثرية ومتحفها وتاريخها العابق نوراٍ وحكمة تكون قد حططت رحالك في المحطة الثالثة بعد مدينتي حيس والجراحي غير أن محطتك الرابعة ستدركها بمجرد رؤيتك جمالاٍ معصوبة العينين تدور حول آلة خشبية إنك حتماٍ في مدينة الحسينية حيث تنتشر معاصر صليط السمسم “الجلجلان” البلدي تلك المعاصر التقليدية القديمة التي لا تزال تجابه الآلات الحديثة.
في محله لبيع صليط الجلجل قدم لنا أحمد فتيني كما ينادونه قارورة فيمتو مليئة بالصليط تلبية لطلبنا نحن لم نتوجه نحوه إلا لتأكدنا أن منتجه أصلي ومعصور بآلة قديمة قال لنا: “الجودة والطعم يختلفان عن صليط المعاصر الحديثة” الشخص الذي كان أمام المحل ويبدو أنه مساعده في المعصرة أضاف: “هذا الصليط يستخدم للأكل وخاصة مع فتة أمدخن ويستخدم كزيت للشعر وللتداوي” كان هذا قبل عدة أشهر لم أكن بصدد كتابة هذا الاستطلاع وإلا لطال حديثي معه حينها كناباتجاه قريتنا وتوقفنا للشراء كانت المعصرة قريبة من الشارع الرئىس وجمل معصوب العينين يدور حول المعصرة وهناك جمل آخر واقف بالقرب منها ينتظر دوره وبالرغم من أنه يرى زميله يدور حول دائرة صغيرة مئات بل آلاف المرات في اليوم إلا أنه حين تْعصب عيناه ويبدأ بالدوران ينسى كيف كان زميله يدور «معتقداٍ أنه يسير في طريق طويل» بحسب إفادة الحاج أبو إسماعيل الذي أضاف أن فائدة تعصيب العينين ألا يرى الجمل أنه يسير في المكان نفسه وحينها سيغضب ولن يقبل السير بعد ذلك أو سيتحول ذلك الغضب إلى بركان يحطم المعصرة بمن فيها وهنا ظهر رأي آخر بأن الفائدة عدم دوخان الجمل.

إهدار
خط واحد لكل مسار سواء الذاهب أو القادم في طريق (الحديدة ـ تعز) ما عدا بعض التوسيعات بعض المناطقوتتخلل هذا الطريق العديد من الجسور المائية (العبارات) من أجل عبور مياه الوديان أثناء مواسم الأمطار ومن أبرز هذه الوديان وادي رسيان ووادي زبيد ووادي رماع وكل هذه المياه المتدفقة بغزارة تذهب هباء إلى البحر بعد أن تجرف في بعض الأحيان عدداٍ من الأشخاص والبيوت والمساكن والسيارات والمواشي والمحلات التجارية وهذا ما حصل قبل أقل من شهرين في وقت تشكو فيه أغلب الأراضي الزراعية في سهل تهامة شحة المياه وربما الجفاف بعد مواسم المطر.
وللوصول إلى مدينة الحديدة لابد من المرور بمدينة بيت الفقية ومن ثم مدينة المنصورية وكيلو (16) ذلك المثلث الذي منه اتجاهات السير نحو المدن الثلاث صنعاء تعز الحديدة.

غياب المنافسة
في موسم الصيف الممتد من شهر أبريل وحتى منتصف أكتوبر يخيل إليك في مدينة الحديدة بأن الشمس اقتربت كثيراٍ من هامة رأسك وترغب حينها بارتداء تلك القبعة التهامية المصنوعة من سعف النخيل لتدرأ عنك حرارة الشمس اللاهبة تتوجه كالملهوف نحو أقرب بقالة لتطفئ ظمأك حينها يفاجئك البائع بسعر مضاعف للكيس الماء البارد عن ما كان عليه قبل موسم الحر وتباع هذه الأكياس بكثرة في هذه المدينة ويخبرك صاحب المحل أن أصحاب محطات الكوثر رفعوا سعر خزان الماء الكوثر بمجرد دخول فصل الصيف يقول محمود عبدالجبار (صاحب البقالة): «سعر الخزان كان في أثناء اعتدال الجو بألف ريال فقط ليصبح منذ بداية موسم الحر بألف وخمسمائة ريال ولهذا تضاعف سعر الماء الكوثر سواء المعبأ في أكياس أو دبات صغيرة» غير أن صاحب إحدى المحطات (لم يذكر اسمه) أرجع هذا الارتفاع إلى غياب المنافسة وقال: «من قبل كان سعر الخزان ألف وخمسمائة ريال وحدثت منافسة فنزل السعر إلى ألف ريال وعندما جاء فصل الصيف رجع السعر إلى عادته الأولى ألف وخمسمائة».

خسائر باهظة
بعد أن تطفئ لهيب أحشائك يبقى لديك لهيب الجو المحيط بك ترى الجميع يتذمر من الانقطاعات المتكرر للكهرباء عن البيوت والمحلاتجحيمان اجتمعا في آن واحد وسلبا الكبار والصغار غمضات عيونهم وراحة أبدانهم يترافق ذلك مع التوصيل العشوائي للتيار الكهربائي كلتا الحالتين تكبدان المجتمع بأكمله – وطناٍ ومواطناٍ- خسائر فادحة ومشاقاٍ مغنية هذا ما أكده مواطنون أضافوا:«الانطفاءات للتيار الكهربائي تسلب المواطن حقه في التخفيف من شدة الحر أو تحرمه من إكمال عمله الذي لا غنى له عند الكهرباء».. «عثمان ومحمد وسليمان» أضافوا بأن «الانطقاعات الكهربائية أيضاٍ تتلف الأجهزة الكهربائية وتحرم البلد من زيادة الإنتاج وتسبب ركود السوق وحين يتم التلاعب بأسلاك الكهرباء فإن في ذلك يعتبر خطراٍ إذا ما حدث – لا قدر الله – تماس كهربائي وتشتد فداحة الخطر عند هطول الأمطار».
نعمة كبيرة حين تهطل الأمطار إلا أن الأمر في مدينة الحديدة يختلف تماماٍ فالحديدة «عروس البحر الأحمر» تغدو أسيرة بحيرات من مياه الأمطار المختلفة في بعض المناطق بما تفيض به مياه الصرف الصحي الطافحة في بعض الشوارع والحارات والأسواق الشعبية يقول علي عوض «ذهبت إلى المقوات الجديد بعد الظهر وكان الازدحام شديداٍ بعد هطول المطر وتسبب ذلك ببطء حركة السيارات والمارة» ويقول عبدالقاهر مرعي – صاحب باص – «دخلت إلى سوق المطراق وباب مشرف في يوم المطر وكان السوق في حال يرثى لها بعد تجمع مياه الأمطار ومياه الصرف الصحي في بعض الأماكن هناك.
ختاماٍ
سيبقى للحديدة أريجها العاطر وبريقها المشرق كمنتج سياحي عملاق ورافد اقتصادي لا يستهان به.

قد يعجبك ايضا