العمالة العرضية.. عطاء بثمن بخس


بخيوط عنكبوت تتشبث أيدي أغلبية ساحقة من فئات العمالة العرضية ممن يعملون في معظم المطاعم والبوفيات والبقالات والحمالة وغيرها من المحلات هذه التي وهنت فيها متانة العلاقة بين العامل والمالك “إلا من رحم ربي” حتى أصبحت مبنية على أساس بذل وعطاء من الأول يقابله في أغلب الأحيان إقتار ونكران من الثاني فيرى العامل جهده يذهب أدراج الرياح وأحلامه بالوصول لحال أفضل مجرد طيف خيال.
يعتصرهم الألم وهم يتحدثون لـ”الثورة” عن معاملات قاسية وأجور يومية أو شهرية لا تسمن ولا تغني من جوع أجور ربما يراها أرباب العمل وثيقة العْرى بمقدورها الصعود بمن يتقاضاها إلى شرفات الاكتفاء الذاتي وتحقيق الآمال فيما هي عند العاملين الكادحين واهنة العْرى وئيدة الخطى أجبرتهم ظروفهم المعيشية على القبول بها برغم جهودهم المبذولة وأوقاتهم المهدورة التي لم تجد إلا من يدفع مهرها أثماناٍ بخسة.

منذ الساعات الأولى من الفجر تبدأ رحلة عمل الشاب بشير حميد في أحد المطاعم الشعبية ولا تنتهي هذه الرحلة إلا عند الحادية عشرة ليلاٍ.. شدتني حاله التي يْرثى لها لسؤاله عن ما يتقاضاه مقابل عمله هذا قال لي والصحون التي يجب أن يذهب بها إلى مغسلة المطعم لا تزال بين يديه: “أنا أحصل سبعمائة ريال في اليوم” كانت عيناه تتنقلان بيني وبين صاحب المطعم خوفاٍ من أن يراه واقفاٍ فيرفع صوته نحوه بغضب آمراٍ إياه بالاستمرار في العمل وعلى عجالة من أمره قال لي بأنه يعمل في المطعم لمدة “15” ساعة في اليوم تتخلل ذلك ساعات قليلة للراحة “أنا أعمل هنا منذ الساعات الأولى من الفجر ولا أعود إلى مسكني إلا عند الحادية عشرة ليلاٍ وهذا المطعم يشتغل ثلاث وجبات يومياٍ وكما ترى عملي هنا “مباشر” وأساعد في حمل الأواني إلى المغسلة ومع زحمة العمل فإني لا أجد أدنى قدر من الوقت للراحة ولو رآني صاحب المحل جالساٍ على أحد الكراسي فإنه يطلب مني القيام بأي عمل داخل المحل أو يطلب مني شراء بعض المقاضي من المحلات المجاورة” كان مظهره والإعياء الواضح عليه ينبئان بمجهود كبير مبذول منه دون أدنى راحة أوضح لي قائلاٍ: “صحيح أن لدي ساعتين للراحة من الثالثة عصراٍ حتى الخامسة وذلك لا يكفي للاهتمام بمظهرك وراحة بدنك”.
عمل دؤوب
وجدتني بعدما سمعته من الشاب بشير أمام أمر واقع حتم علي الاستمرار في استكمال هذا التحقيق حول هذه القضية التي طالما لم تجد أي اهتمام إعلامياٍ برغم معايشتنا لها يومياٍ وهناك أمام باب ذلك المطعم كان “عبدالولي مسعد -50 عاماٍ” واقفاٍ أمام شواية الدجاج مهتماٍ بتلبية طلبات الزبائن انتظرت حتى سنحت لي الفرصة لاستفساره عن أوضاعه في العمل.. بادرني بالقول: “نحن نعمل لمدة أشهر متواصلة من أجل توفير مصروف السفر إلى البلاد مع أنه لا يكفي وبذلك نضطر للعودة إلى العمل بشكل أسرع لأن مكوثنا خارج العمل يحرمنا ما نتقاضاه من أجور حتى ولو كانت قليلة” سألته هل هناك ظروف أخرى تحرمكم من الأجور غير السفر إلى البلاد¿ استرسل في الحديث وكأنه وجد ضالته كضمآن وجد الماء البارد وقال: “عندما أتعرض لأي مرض يقعدني عن العمل لأيام فإني أتقاضى أي شيء وبذلك أصبح مثقلاٍ بآلام المرض وهموم المعيشة”.. استكمل عباس علي – 17 عاماٍ- ما بدأه عمه عبدالولي بالقول: “لا يوجد تأمين صحي وعندما يتعرض أحدنا للمرض فإن صاحب العمل لا يهتم بذلك ومدة المرض ومصاريف العلاج تأكل ما جمعناه من أجور زهيدة خلال الأيام السابقة”.
حتى لا تصبح عاطلاٍ
غادرت المطعم دون أن أتبادل الحديث مع صاحبه حول هذه الأمور فالازدحام وانشغاله بإدارة عمله حال دون ذلك.
في مطعم آخر في إحدى حارات مدينة الحديدة قال الطباخ مفيد علوان -في الخمسين من العمر-: “أعمل في هذا المحل منذ أكثر من 20 عاماٍ الآن أحصل على ألف وخمسمائة ريال في اليوم مقابل عمل من الفجر حتى منتصف الليل وهذا المبلغ يتم صرفه لإعالة أسرة كبيرة وإيجاد بيت وهو لا يكفي إلا بالترشيد القاسي وإذا ما تعرض أحد أفراد الأسرة لعارض صحي فإن الحال تصبح أسوأ” استفسرت منه عن إمكانية البحث عن عمل بمردود أفضل فانطلقت منه ضحكة استغراب قبل أن يوضح قائلاٍ: “الظروف المعيشية الصعبة وقلة الأعمال جعلتني متخوفاٍ ألا أجد عملاٍ آخر مناسباٍ في حال خروجي من عملي هذا فهناك الكثير من الشباب يبحثون عن أي عمل وبأي أجر يومي وسوف يتسابقون للحصول على عملي هذا” أنهى حديثه وأشار بيده إلى شاب يجلس إلى أحد الكراسي يتناول غداءه وقال: “هذا قريبي الآن متعطل عن العمل وهو جالس عندي حتى نوجد له عمل في أي محل وبأي أجر” شاركنا قريبه الحديث فقال: “لأتفه الأسباب يطلب منك صاحب العمل المغادرة تعطلت الآن عن العمل بعد استغناء رب العمل عني لأني طلبت تحسين أجري بزيادة طفيفة من تسعمائة ريال إلى ألف في اليوم. كنت أعمل في إحدى البوفيات مسؤول عصائر وقد تنقلت في السابق مرات عديدة من بوفية لأخرى بحسب رغبتي بحثاٍ عن وضع أفضل حتى اكتسبت خبرة وأصبحت معلم عصائر ولكن صاحب المحل لم يثمن هذه الخبرة”.
القناعة كنز
في مطعم آخر اقتنع عبدالسلاح صلاح بما يحصل عليه من عمله وعلى الرغم من قوله: “أمشي مسافة طويلة ما بين سكني ومحل عملي ذهاباٍ وإياباٍ من أجل أن أوفر حق المواصلات وقد طالبت صاحب المحل بزيادة ما أصرفه على المواصلات وإضافته على أجري اليومي الذي يبلغ ثمانمائة ريال فرفض” إلا أن عبدالسلام كان مدركا لقسوة الوضع إن هو غادر عمله قال: أنا لا أستطيع الاستغناء عن هذا العمل ولو خرجت منه فلن أجد غيره ومع أن هذا الأجر الضئيل لا يتناسب مع جهدي وتعبي إلا أن الحاجة الماسة لهذا القليل أجبرتني على القبول به ودائماٍ أتقوى على هذه المعاناة بالقول القناعة كنز لا يفنى.
مجهودات إضافية
عبداللطيف حسن –25 عاماٍ- قال: سمعت أن صاحب سوبر ماركت جملة وتجزئة يعطي للعامل ألفا ومائتي ريال يومياٍ ولكني لم أتأكد من ذلك فذهبت وعملت معه وكان يعطيني كل يوم مائتي ريال من حال أجري على أن أستلم مجموع ما يتبقى لي في نهاية الشهر إلا أنه فاجأني في نهاية الشهر باحتساب ثمانمائة ريال فقط يومياٍ فهل هذا معقول ومناسب لعمل منذ السادسة صباحاٍ وحتى العاشرة ليلاٍ في البيع والرص والتعبئة والتغليف¿!.
الطرف الآخر
أرباب العمل من جهتهم برروا تدني الأجور وزيادة ساعات العمل إذ لم يغفلهم هذا التحقيق قال عبدالغني -صاحب أحد المطاعم-: هناك مصروفات كثيرة على المطعم من إيجار وماء وكهرباء وضرائب ومشتريات وغير ذلك ولذلك فإننا لا نستطيع دفع مبالغ أعلى مما يستلمها العمال وهذا تجده في مطاعم كثيرة فنحن لدينا هنا أكثر من 25 عاملاٍ وأي زيادة ستكلف المطعم مبالغ فوق طاقته. وقال علي عبدالرقيب -صاحب محل آخر-: إذا كان العامل يتناول هنا الوجبات الثلاث مع توفير السكن له فمن المؤكد أن ما يستلمه من أجر كاف له ونحن لا نستطيع أن نتحمل أكثر من ذلك ولا نتحمل زيادة في عدد العمال إذا أردنا تقسيم العمل إلى فترات ولساعات معينة.
ضرورة المعالجة
قضية أصحاب الأعمال العرضية كما يطلق عليهم لم تكن تشغل هذه الفئة فقط بل كانت أيضا في ضمير الكثيرين فحين اقترح سلطان محمد –مواطن- أن تتدخل الجهات المعنية في وضع لائحة تنظم العلاقة بين هؤلاء العمال وأرباب عملهم بما يراعي مصلحة الطرفين رأى أحمد عبدالرحمن –موظف- تحديد الأجور لهؤلاء بحسب ما يتناسب مع مدة العمل اليومية ونوع العمل وإلزام أصحاب العمل بتكاليف العلاج للعاملين إن كانت مبالغ معقولة أو مساعدتهم في حال التكاليف الكبيرة مع إعطاء العامل جزءاٍ ولو بسيطاٍ من الأجر اليومي في حال المرض المقعد عن العمل حتى تعود إليه صحته ويستطيع مزاولة عمله.
وقال المواطن سعيد محمد: الوضع الذي يمر به عمال المطاعم والبوفيات والبقالات والحمالة مأساوي يتحمله هؤلاء العمال من أجل قليل دائم خير من كثير منقطع ومعظم هؤلاء العمال لم يدخل المدرسة مطلقا أو دخلها لسنوات معدودة فقط. وأضاف: هناك من طلاب الجامعات من يعمل في هذه المحلات ولكن بدون أجر بل مقابل المأكل والمسكن والمواصلات فهؤلاء يعملون مثلا في المطاعم بشكل مؤقت في أوقات فراغهم في تقديم الطعام للزبائن أو مساعدة الطباخ أو غسل الأواني وتنظيف المحل.
ثمار التغيير
يعتبر هؤلاء العاملون من جملة الموارد البشرية والاهتمام بهم واجب اجتماعي وإنساني هكذا قال صادق المنذر مستطردا: نتمنى أن لا تغفل عجلة التغيير التي تدور عجلتها اليوم بوتيرة عالية في شتى المجالات في بلادنا هذه الشريحة العريضة من المجتمع ونحن نتوقع منها أن ترتقي بهم إلى وضع أفضل يلبي طموحاتهم وينهض بواقعهم وأسرهم نحو الأفضل. مردفاٍ: كل عامل من هؤلاء يعيل أسرة بأكملها وزيادة الاهتمام بهم إنما هو اهتمام بفئة عريضة من المجتمع لتعيش حياة هانئة.
استثناهم قانون العمل
كان لا بد لهذا التحقيق من معرفة وجهة نظر الجهات المختصة حول هذه القضية توجهنا إلى مكتب الشؤون الاجتماعية والعمل بالحديدة وهناك أفادنا شائف عبده الحاج الحكيمي -مدير إدارة علاقات العمل بالمكتب- وقال: بطبيعة الحال قانون العمل نظم العلاقة بين العامل ورب العمل وحدد الالتزامات المترتبة على كل طرف من الطرفين ووضع الضوابط الرابطة بين الطرفين وأي اختلاف سيكون مرجعه إلى قانون العمل. وقال بشأن مدة العمل: حدد القانون ساعات العمل بثماني ساعات لكن الأعمال العرضية استثناها القانون وتجد بعض العمال في بعض المطاعم والمقاصف والمخابز والأرصفة يعملون أكثر من ثماني ساعات وهؤلاء لا تستطيع إلزامهم بالقانون.
وأضاف بالقول: القانون يطبق على القطاع الخاص الملتزم بقانون العمل كالمصانع والمنشآت والشركات فهذه ملتزمة بأحكام القانون من حيث مدة العمل وهي 8 ساعات يوميا كذلك تعطي للعامل أجراٍ إضافياٍ وهناك عقود عمل تنظم العلاقة بين العامل ورب العمل شريطة أن تكون هذه العقود منسجمة مع هذا القانون وخلاف ذلك فإن هذه العقود تعتبر ملغية من حيث المبدأ.
تعريفة الحمالة
أوضاع العاملين في الأعمال العرضية -وهم من استثناهم قانون العمل- تطرق لها مدير علاقات العمل بمكتب الشؤون الاجتماعية بالحديدة قائلا: قانون العمل بحاجة إلى أن يعيد النظر في وضع هؤلاء الناس فهو عبارة عن خطوط عريضة لا تزال بحاجة إلى لائحة تنفيذية تفسر هذا القانون وهي لم تصدر بعد ولو أخذنا مثالا تلك الشريحة الواسعة من هؤلاء العمال وهم من يعملون في مجال الشيالة وهي الحمالة هناك حوالي 6 آلاف عامل ولديهم مشاكل كبيرة جدا إما أن تكون بينهم وبين أرباب العمل كالاختلاف على تعريفة حمولة الكيس أو الكرتون صعودا من المخازن إلى الشاحنات أو العكس وإما أن تكون بينهم فالضعيف لا يستطيع العمل مع القوي والصغير لا يستطيع العمل مع الكبير ولا تستطيع إيجاد فرصة عمل لأي عامل جديد وعليه فنحن نتحمل مشاكلهم فوق طاقاتنا وأعبائنا لكي نوجد لهم مخرجا وذلك بالتوفيق بين العامل ورب العمل على أساس العرف السائد الموجود داخل المدينة حاولنا بشتى الوسائل أن نوجد لهم تعريفة خاصة تنظم أجورهم وأجور الحمالة لكن لم نستطع إيجادها لأنها كانت موجودة من سابق وانتهت من قبل حوالي عشرات السنين وأصبحت غير ملزمة للطرفين.
المسؤولية جماعية
من خلال تركيزه على فئة الحمالين فقط من قائمة أصحاب الأعمال التي قال عنها عرضية ومستثناة من قانون العمل قال مدير إدارة علاقات العمل بمكتب الشؤون الاجتماعية بالحديدة شائف الحكيمي: هؤلاء العمال ليسوا فئة سائبة بحيث إذا لم يعمل معك أحدهم تستبدله بآخر هذا لن يحدث نحن قسمنا المدينة إلى دوائر لتلافي المشاكل سابقة الذكر ووضعنا كل مجموعة في دائرة وحددنا لكل دائرة امتدادها من الجهات الأربع ويرأس كل مجموعة مندوب وعليه فكل عامل من هؤلاء يعمل في إطار دائرته.
واختتم حديثه بالقول: كلنا مسؤولون تجاه هؤلاء العمال ولا أحد يتنصل من هذه المسؤولية.

قد يعجبك ايضا