تناقضات العنف المسلح.. العائق الأكبر لليمن الجديد

بين مشهد إزاحة المتارس من شوارع صنعاء2012 ومشهد انتهاء مؤتمر الحوار 2014º تتكشف صورة صادمةº لوضعين في ذروة التناقض ومتناقضات في غاية الغرابةº تخللت الفترة بينهما!
فشتان بين رؤية فرقاء يتمنطقون السلاح ويفترشون المتارس ونقاط الخوف خلال «ثورة سلمية» لحل مشاكل متراكمة أنتجها العنف والتعامل اللا مسؤول وبين مشهد خروجهم من مؤتمر شراكة وهم يتأبطون وثيقة نهائية للحلº أنتجتها لغة الحوار والتعاطي المسؤول.. فثمة مسافة حضارية هائلة بين ماكان عليه اليمنيون قبل الحوار من إدارةُ متخلفة لمشاكلهم وحسم خلافاتهم بالقوة وما وصلوا إليه اليوم من تحاور متحضر أفضى لختامُ ناجز رغم رهانات الفشل ومحاولات الإفشال!
فاصل طويل قضاه اليمنيون بانتظار نهاية حوارهم المقلقº ومشوار شاق قطعوه من أجل لحظة مصيرية كهذه لم يكن الطريق إليها مفروشاٍ بالورود بل بأشياء أخرى.. فالأنفاس ظلت محتبسة والأكف على القلوب إلى أن تنفس الجميع الصعداءº بختام مؤتمرهم الوطني الشامل!
هو عامَ عصيب مرِ من عمر اليمنيين منذ انطلاق حوار18مارس2013 وْضعوا فيه تحت تجربة قاسية لترويض المخالب واختبار قدرتهم على التعايش تحت قبة واحدة شهد اليمن خلالها من المتناقضات وغرائب المفارقات- ايجابية وسلبية- ما لم يشهده بلد!!
متناقضات صارخة لا تحدث إلا في الواقع اليمني ربما لوحظت منذ اللحظة الأولى لفكرة المبادرة الخليجية.. ففي ذروة ربيع ملتهب في المنطقةº تتغلب فيه إرادات ثورية في جهةº ونزيف كارثي في أخرى كان اليمنيون وحدهم يبتكرون نهاية مغايرة كلياٍ حين توافقوا على شراكةُ مؤقتة يتبعها حوار شامل يحقن الدماء ويتولى تصحيح الأخطاء والتغيير المتدرج وتسوية الطريق بإرادةُ جمعيةº لوضع مداميك دولة جديدة كلياٍ!
حتى الموقف الدولي.. فرغم انقسامات كارثية للكبار حول المنطقة كان من حسن حظ اليمن أن يحظى بإجماع إقليمي وأممي غير مسبوق فوحده الحل اليمني لم يختلف حوله أحد بل وْضع تحت العناية الأممية الفائقة!
وفيما كان الآخرون يستهينون بنهاية كهذهº مناقضة للسائد الثوريº تبدت صوابية النموذج اليمني بلا جدال قياساٍ ببؤر دامية حتى اللحظة وانتصارات أخرى لم تسلم من تصدعات قاصمة ومآلات صادمة أنهكت بلدانها!
غير أن المبادرة رغم أنها بدت أفضل خيار للتغيير الباهظ بأقل الخسائر ونجحت في انتشال البلد من انسداد أفق ورغم مْضي الجميع لتطبيقها وجنوحهم للسلم إلا أن العنف ولعلعة الرصاص وتصفية الحساب والحرب الإعلامية ومحاولات الانقضاضº لم تتوقف منذ اللحظة الأولى لتنفيذ آليتها ليبدو البعض كمن يرفس نعمة!
حتى عند الإعداد للحوار ففيما التحضيرات تمضي على قدم وساق لم يكن العقلاء قد انتهوا من رفع المتارس والقطاعات والنقاط والخيام من عاصمتهم المقسمة ولازالوا يكنسون أثر المواجهات وتداعيات الانقسام الكبير بصعوبة بالغة كلما رْفعت من مكان تعاد في آخر وما إن يخمدوا ناراٍ في عاصمة حتى تشتعل في محافظة!
استمر جنون السلاح يطل برأسه من وقتُ لآخر ليخلط الأوراق ويربك مشهداٍ يبحث الجميع فيه عن مخرج آمن رغم أن كل الأطراف المتباينة تدرك أنها مقبلة على حوار العقل ولم تتقاسم مكوناته التحضيرية إلا ليشارك كل طرف في إنجاحه.. وأهم متطلبات نجاحه هو مواجهة تحديات اللحظة على الأقل لتأمين الأجواء لحوار آمن وتمهيد الطريق أمام مكوناتها التي ستلتئم داخله.. فثمة إرهاب وانقسامات واختلالات أمنية وفوضى وإرباكات وخلط أوراق لن يسلم من شظاياها أحد.. وفيما كانت التحديات تبدو أكبر من قدرة البلد على جمع الفرقاء في طاولة واحدة لم تكن بعض الأطراف تبدي نوايا صادقة وفاعلية كافية للتعاون في مواجهتها بقدر ما كانت تبدو مستفيدة مما يجري حتى وإن لم يكن له علاقة بها ربما لهِز الآخر وتصفية حساب!
إذ لم يكن تواجد أنصار الشريعة في أبين آنذاك مجرد نزهة ولا نقل تنظيم «جزيرة العرب» إلى اليمن رحلة سياحية ولا التفجيرات والتقطعات واستهداف الكهرباء والنفط وإسقاط الطائرات دعابة مسلية ولا تصدْع الساحاتº وملامح عنف طائفي وانقسام جيشº واقتحام معسكرات واستهداف دفعات من القادة والجنود º فضلاٍ عن تعنت تيار انفصال وارتباك الدولة أمام كل ذلكº كلها لا تبدو رسائل تطمين.. بل مؤشرات محبطة على فشل مبكر عززت رهانات الكثيرين باستحالة الدخول في حوار وسط أجواء كهذه لا تؤخذ بمحمل الجد!
ومع ذلك فشلت الرهانات.. مضت التحضيرات لحوار العقل دون اكتراث وتواصلت الجهود وسط كل هذا التناقض.. إلى ان جاء موعد المؤتمر.. تم تقاسم قوامه الضخم بالتوازنº وإن على مضض.. ودخل الكل في السلم!
حتى حينها لم تتوقف التناقضات بل دخلت مرحلة جديدة من الفجاجة امتدت منذ اللحظات الأولى لتدشين الحوار حتى نهايته وما بعدها..
جنون التناقضات
ففيما بوصلة العقل متموضعة باتجاه الموفمبيك والعيون على مؤتمر شامل يطبب الجروح ويشخص المشاكل ويصنع الحلول بلغة حوار كان لجماعات «العنف المسلح» لغةَ أخرى: ووجهة نظر تغرد خارج السرب!!
برزت مكونات تتعامل مع بعضها بانفصام لا علاقة له بالشخصية اليمنيةº المتسمة بالحكمة والتعايش والاحتواء ولا يمت لطموحات اللحظة بأية صلة.. ثمة أيادُ تتصافح في طاولة حوار و(تتصافع) خارجه.. وأخرى تحاور تحت قبة فندق وتقاتل تحت قبة «مسجد»!!.. في القاعة تبتسم للكاميرات وتعلم أن الكل متجمعون في «بروفة تعايش مصغرة» أبهرت العالم لكنها بمجرد مغادرتها تقدم أغرب نموذج لأسوأ تعايش!!
سرعان ما وقف العالم مشدوهاٍ أمام تناقضُ صارخ يجمع فيه البعض بين حوار العقل وحوار الدم.. بينما الجميع يتوسلون الخلاص الآمن ومهمومون بصياغة عقدُ جديد لدولة نظامية تعيد ترتيب علاقاتهم وشؤون حياتهمº ورسم خارطة طريق لمستقبل ضائع!
رغم أن الحوار بمثابة هدنة أخلاقية في كل المواثيق والأعراف ورغم أن الدولة مطلب الجميع إلا أن دخان العنف وغبار الجماعات المسلحة تصاعد بلا هوادة طيلة عام المؤتمر.. حتى وقد أصبح الناس على بعد خطوة من الخلاص وفيما القاعة تصوغ مخرجات نهائيةº كان الميدان يصوغ مخرجات أخرى لا علاقة لها ببناء دولة!
ففي صعدة لوحظ أن الصراع يتزحزح تدريجيا باتجاه صبغةُ طائفية وسرعان ما بلغ ذروته حين خرج عن نطاقه التقليدي الضيق ليتنقل من مربع لآخر.. وأرقام الضحايا تتصاعد إلى خانة الآلاف- بين قتلىº وجرحىº وأسرى ونازحين- دون احترام لهدنة حوار ومصير شعب وسيادة دولة ومجتمع أممي مذهول!!
لم يترك العنف فرصة لحوار آمن.. حتى مشهد الاحتفاء بختامهº لم يخلو من لقطةُ دموية صارخة!!
كان العنف قد تمادى أخلاقياٍ حين وصل إلى قبة الحوار غير مرة.. تصفيات ومحاولات اغتيال وتهديدات طالت متحاورين مستأمِنينº يفترض أنهم يمثلون الجانب المضيء في الصراع بينهم عهدَ ويمين على ملأُ من الناس والمتعاهدون محميون- شرعاٍ وعرفاٍ: (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا) وتواجدهم كموفدين يمنحهم صك أمان تماماٍ كمبعوثي السلام وممثلي الجماعات والدول المتناحرة محصنون من الثأر.. جاء في الحديث: (أيما رجلُ أمنِ رجلاٍ على دمه ثم قتلهº فأنا من القاتل بريء وإن كان المقتول كافرا).. ويقول ص: (من قتل مْعاهدا فأنا حجيجه يوم القيامة) فضلاٍ عن شواهد دينية كثيرة حول حرمة الدم بالعموم.. يعرفها المتصارعون جيداٍ!
على ذكر الدين يْلاحِظ أن كل الجماعات المسلحة وإن تباينت هي حركات «إسلامية» (حوثي- سلفي- قاعدة- وحتى قِبِلي) كلها قضيتها دين محمد(ص) فيما حرمة الدم أهم ثوابت محمد بلا جدال!! كلمة لاإله الا الله كافية لعصمة دمُ ومال وعرض.. وقتل مسلم يكفي للإقامة في جهنم خالداٍ.. و»خالداٍ» ليست إقامة «مؤقتة»!
حتى بعد انقضاء الحوار.. ففيما اليمن على مشارف الخروج من المحنة برمتها ومعالجة كافة الملفات لترجمة المخرجات الناجزة ظلت نزعات التسلح تتجه نحو التضخم لتضيف إعاقة جديدة على كاهل بلدُ مْكبلº لا يحتمل المزيد من الإعاقات..
خلاصة التناقضات أن كل ما حدث منذ عاصفة التغيير في المنطقة برمتها كان من أجل مطالب سلمية.. خرج الناس إلى الساحات وانقلبت الدنيا طلباٍ للسلام فحسب لمدنية آمنة بلا سلاح وتجار حروب.. كانت صرخة مدوية للحياة والتعايش والتحضر وطلاقاٍ بائناٍ للعنف والدم والتعصب وثقافة الموت.. ثم رضي الجميع بمبادرة إنقاذية كرهاٍ في السلاح وطريق العنف.. كما دخلوا في حوار سلمي وجدل شاق- من أجل دولة تحمي التعايش والسلم الاجتماعي.. في كل ماجرى كان السلام هو القضية.. ورغم ذلك لم يشهد اليمنيون شهوانية للتسلح وتضخماٍ لجماعات العنف كما حدث منذ جنحوا للحوار!!
ثمة سلاحَ يجر سلاحاٍ واستفزازات غبية تنتهي بدماء ومواجهات ضارية على جبهاتُ عدة وصراعَ مختلفَ ألوانْه: تارة بصبغة مذهبية- وحيناٍ طائفية- وتارة قبلية- وغالباٍ سياسية).. حربَ بكل أدوات الحرب: من إعلام تعبوي فتاوى ومال مشبوه سلاح ثقيل ومتوسط وخفيف إلى الحشد والحشد الآخر!
على ذكر الحشد الآخر يبدو نكتةٍ ظريفة.. أطراف تستخدم مظاهر مدنية ونضال «سلمي» في الساحات وفي الجبهات نضال «مسلح».. التناقض يكمن في مشهد البعض حين يبدو كالراكب على فرسين: قِدِمَ في المدنية والحوارº وأخرى في الدم!! نقيضان لا يجتمعان إلا في اليمن!!
حتى هذا النضال «المسلح» تناقض أظرف فكل طرف يصر على استعراض قوته الذاتية «دفاعاٍ عن النفس» دون اكتراث «بدولة».. واذا نقص المدد استعرض تحالفاته- مذهبية أو قبلية!! حتى إذا مسه الضر استغاث بالدولة وتذكر سيادتها!! وفيما «صميل» الدولة منقسم سرعان ما يطالبها بنزع السلاح وفرض «صميلها»!!
فكرة نزع السلاح أيضاٍ تناقض فج.. ففيما كل طرف يلقي باللائمة على الآخر ويتحدث عن «سيادةُ» خرقها الجميع ويطالب بنزع سلاح الآخر لوحظ طيلة مرحلة الحوارº وحتى ختامهº أن الدولة لم تشهد مبادرةٍ واحدة من أي طرف لتسليم سلاحه مع أن هذا هو وقتها على الأقل لإثبات نواياه المدنية والتأسيس لهيبة دولة من ناحية.. ومن ناحيةُ أهم لإبعاد شبهة ارتباط كل الجماعات المسلحة بأجندات مشبوهة وأطراف خارجية يقال إنها تصفي حساباتها بدماء يمنية.. على الأقل هذا ما بدأ يترسخ في قناعات الناس!
الثابت أن المحرك لكل هذا العنف هو المال!! حتى المال يرسم تناقضاٍ مبكياٍ.. فاليمنيون يهدرون على الحروب والهدم أضعاف ما ينفقونه للبناء.. تلك إذن قسمةَ ضيزى!! مالم يْسخر المال للبناء لن تتوقف ثقافة الهدم!
صحيح أن العنف المسلح لم يعد حكرا على جماعة دون أخرى أو منطقة دون غيرها إذ بات الكثيرون يشهرون السلاح في تصفية حسابات لأي سبب سواء مع الدولة لمطلب او مع طرف مخالف لقناعات الآخر أو لحماية أنصار أو لنصرة تحالف أو لطلب ثأر.. لكن أكثرها وضوحا وخطراٍ يتركز في خمس فئات منظمة: سلاح القاعدة سلاح الحوثي سلاح القبيلة سلاح فصيل إصلاحي قبِلي ومؤخراٍ انضم سلاح فصيل حراكي عنفوي!!
كل هذا التسلح لم يعد ثمة شك في أنه يعيق طريق اليمن الجديد ويمثل تهديداٍ مباشراٍ لكيان الدولة المرتقبة وتناقضاٍ سافراٍ مع أحلام التحول.. سيما وقد أصبح البعض على تماس مباشر مع الآخر وبات الكل بأمس الحاجة لدولة قوية تضع الجميع تحت السيطرة قبل أن يصبح القتل من منزل لمنزل!
مشكلة هذه الجماعات تكمن في اعتقادها بأن السلاح يخدمها لفرض وجودها وأجنداتها واستحواذها بلقمة أكبر في اليمن الجديد.. فيما الثابت أن العنف لم يخدم أحداٍ º بقدر ما هز قضيته وأفقده التعاطف!
خطر القاعدة
لعل جماعات الإرهاب تبدو الخطر الأكثر بروزا على السطح.. لكن القاعدة خسرت الكثير.. لم يخدمها السلاح مطلقاٍ أو يحقق انتصاراٍ سوى أنه أساء للإسلام والرسول وأضعف المسلمين وعمق الكراهية الإنسانية.. حتى ماتبقى من تعاطف مخدوع هنا خسرته القاعدة بسبب حجم الدمار والتخريب الذي خلفته عملياتها لم تستهدف فيه سوى مصالح اقتصادية وخدمات عامة وأمان الناس طيلة الأعوام الماضية نتج عنها أوضاع اقتصادية صعبة وآثار نفسية خطيرة في المجتمع.. ثم تعمقت الكراهية مؤخراٍ لفكرها بسبب انتقالها لتكتيكات جديدة قصمت ظهرها بدءاٍ من نقل فرعها الى بلدُ جريح لا يحتمل المزيد من العنف.. مرورا بتعنتُ أخرق وعدوان عابر للحدودº جعل اليمن أشبه بلاقط مغناطيسي يجذب أي طائرة بدون طيار لتضرب أكثر مما سبقº بحثاٍ عن أسلحة دمار نائمة!
علاوة على أساليب قتل وتنكيل وتصفية لا علاقة لها بالآدمية مستشفى العْرضي نموذجاٍ!! وتفرغها هذه المرة لاستهداف أهم وأعلى مؤسستين سياديتين تتصيد فلذات أكباد الجيش والأمن في كل مكان وتتربص بأخوة في الدين والوطن لا علاقة لهم بعدوها الافتراضي.. بدءاٍ بمذبحة السبعين المروعة.. مرورا بكلية الشرطة ومهاجمة معسكرات محورية في البيضاء وصنعاء ومارب وحضرموت وأبين والضالع وعدن ولحج ذهب ضحيتها المئات وصولاٍ لكارثة العرضي وما قبلها وما بعدها.. لتتصاعد حصيلة القتلى منذ 2011فقط إلى الآلاف قادة وضباط وجنوداٍ- وطيارين ولجاناٍ شعبية مساندة.. وكذا إصرارها على الاستفادة من فوضى الصراع القائم منذ2011 لاحتلال مدن من ناحية وتنفيذ عمليات مجهولة في غيرهاº لتعميق الشقاق بين فرقاء مرحلة يكتفون بتبادل الاتهام عقب كل هجمة.. حتى ترسخت قناعة المتعاطفين بأن القاعدة مفلسة بلا قضية ولا علاقة لها بدين!! بدليل أن الصوت الرافض للضربات بلا طيار كان عالياٍ قبل حقبة الثورة الشبابية لكنه اليوم لا يكاد يْسمع!
مايهون المعضلة أن القاعدة ليست محل انقسام ثمة إجماع على مواجهتها.. تظل هماٍ مشتركاٍ وقضية رأي عام محلي وإقليمي وحرب عالمية شاملة وطالما خطرها على الجميع فإن اللعب بورقتها لن يخدم أي طرف.. لهذا لِفِظها الجميع في الحوار وفشلت وساطات انضمامها للمؤتمر الشامل.. كان التحاور مستحيلاٍ حتى تسلم السلاح وتتخلى عن العنف!! ومثل هذا الشرط كان يفترض أن ينطبق أيضاٍ على أطرافُ أخرى تمتلك السلاح بوفرة!
المعضلة الحقيقية تكمن في جماعات أخرى خلق سلاحها انقساما مجتمعياٍº بين رافض ظاهرياٍ وداعم في الباطن.. مايعقد مهمة نزع سلاحها على المدى القريب!!
سلاح صعدة
فجماعة صعدة والفصيل الحراكي المسلح خسرا الكثير بسبب السلاح.. كلاهما كان قد نجح في إيصال صوته خلال السنوات الماضية وكسب الرأي العام ولفت الأنظار إلى عدالة القضيتين.. حتى وصلت صعدة والقضية الجنوبية إلى ذروة الاهتماماتº رسميا وشعبيا ودوليا وأصبحتا أول وأهم القضايا في طاولة الحوار.. وفرضا وجودهما في كل مفاصل المؤتمر بدءاٍ بتقاسم تشكيلة الرئاسة واللجان بالتوازن وصولاٍ لتفردهما بأوسع نقاش وانتهاءٍ بصيغة اتحادية وفكرة أقاليم لم تكن لتْفرض لولا الاعتراف بعدالة القضيتين!!
غير أن ظهور حلول مسلحة في مرحلة مفصلية وحوارية كهذه كان خطأ استراتيجياٍ فادحاٍ أضر بالفريقين ولم يبعث برسائل تطمين للمجتمع بقدر ما عكس صورة مشوهة وترك انطباعاٍ سلبيا في الوعي العام عن عقلية العنف المتناقضة مع تحولات مجتمع.. ليهبط مؤشر التعاطف إلى أدنى مستوياته!!
فجماعة صعدة لم تحقق انتصارات بالحلول المسلحة مؤخراº بقدر ما يبدو أنها فشلت في تقديم نفسها للرأي العام- المحلي والخارجي.. لأن العنف أنتج كراهية مقلقة لن تتوقف تداعياتها إلا بدولة تسحب سلاح أطرافها لتحقن الدم.. فيما حد الحريات الدولية يتوقف عند أية ممارسات تثير كراهية دينية أو اجتماعية.. وباعتبارها مؤشر قلق فقد أنتجت مخاوف طبيعية على سلم اجتماعي وهيبة دولة قادمة مهددة بالاهتزاز والابتزاز.. ما يعني احتمال مواجهات أوسعº مفتوحة على كل الاحتمالات.. فضلاٍ عن أن الإصرار على حل أي خلاف بأدوات العنفº أو فرض فكر بمنطق السلاح لم يعد يتلاءم مع وعي مجتمعي متحول يصر على أساليب مدنية فحسب..
سلاح الحراك
كذلك فصيل العنف الحراكي فشل في تقديم نفسه.. فما أنتجه من كراهية جهوية يستحيل أن يسمى انتصاراٍ.. لأن الكراهية الاجتماعية مرفوضة في كل الشرائع والمواثيق وسقف الحرية.. وأساءت لقضية جنوبية عادلة كانت بأمس الحاجة لدعم إقليمي ودولي فلم يكد الكل يستوعب خلفياتها ويفرض حلها حتى ارتفع منسوب المخاوف لأعلى درجة وهو ما اتضح في تقسيم الجنوب لإقليمين بدلاٍ عن إقليم تجنباٍ لمآلات عدائية استشعرها الجميع!
إذ يتبنى هذا الفصيل مشروع ما يسمى «الكفاح المسلح» لطرد من يسميه «المحتل اليمني الغاصب» قاصداٍ إخوة الأمن والجيش في محافظاتهم الجنوبية فضلا عن استفزازاته المتواصلة للمعسكرات هناك وارتكابه حوادث خرقاء متفرقة استهدفت قتل عاملين مسترزقين ومستثمرين آمنين لمجرد أنهم شماليون بداية بحادثة الحبيلين وآخرها اغتيال نجل المستثمر «الشرفي» في ذات المنطقة بهدف إثارة هلع الشماليين وتهجير من تبقى في الجنوب.. ما يهدد بسخط شعبي واسع لا يبدو أن هناك حاجة إليه مطلقاٍ بقدر ما تحتاج الدولة لغطاء دولي فقط لتتعامل مع هؤلاء كمعرقلين للتسوية ليس لاستئصالهم بل لإزالة أي خطر يشكلونه على العملية الانتقالية في البلد. باعتبارهم يستخدمون العنف لبلوغ أهداف سياسية ويروجون لكراهيةُ تتناقض مع المواثيق الدولية ويتلقون مالاٍ خارجيا بجانب تمويل متواصل من قيادات فك الارتباط..
يبدو أن لجنة العقوبات الدولية التي أقرها مجلس الأمن مؤخراٍ وْجدت لمثل هذا الغرض. مالم فمشروع الدولة الاتحادية لن يمر بلا ثمن!
السلاح السلفي والقبلي
ولن نعفي فصيلاٍ قبليا مسلحاٍ متمصلحا والسلف لم يخدمهما السلاح بقدر ما عكس صورة متخلفة ربما لأن كليهما لم يتخل عن تحالف تقليدي مسلح فاته القطار وربما لأنه يتخذ من فكرة مواجهة المد «الشيعي» مجرد ذريعة لقمع الآخر.. وبقاء مثل هذا التآزر النفعي المسلحº ربما كان مهماٍ في السابق لحماية مداخل العاصمة لكنه اليوم سيظل يبرر السلاح والتحالف الآخر على المدى الطويل ليهدد استقرار الدولة الجديدة!
القبيلة أيضاٍº تعتقد بأن السلاح يخدمها.. فيما بقاؤه في يدها- بعد عاصفة تغيير مزلزلة- ربما هز مكانتها التقليدية وأفقدها بريق الماضي لأن العنف لم يعد يتلاءم مع وعي مجتمع انتفض من أجل حلول سلمية ودولة بلا سلاح وهيلمان وفوارق مقيتة.. لذا لم يخدمها سلاحها مطلقاٍ في مواجهاتها الأخيرة بل أفقدها التعاطف!
الواضح أن كل طرف يتحاشى تسليم السلاح ويصر على الاحتفاظ به ربما خشية من الآخر .. وطالما ظلت التعبئة الخاطئة واستفزاز الآخر والعزف على وتر المذهبية التي اشتعلت في المنطقة برمتهاº سيظل السلاح في حالة تحفز دائم مالم تتشكل قوة ضغط شعبية ونخبوية تعين الدولة على انتزاع السلاح لحماية الجميع.
فكرة العزف على نغمة الإقصاء والتهميش وذريعة حماية أنصار هذا الطرف أو ذاك باستخدام القوة أو فكرة مواجهة تمدد شيعيº أو مد سْني أو تكفيري أو محتل دحباشي بلغة العنفº لم تعد مجدية ولا مقنعة للرأي العام مطلقاٍ.. وأية حلول مسلحة لن تْجدي!! ربما بدت تلك الذرائع شبه مقبولة عندما ظل الصراع محصوراٍ في صعدة ومظالم الحراك عادلة أما بعد أن اقتربت نار صعدة من تخوم العاصمة وبات الجنوب رهن الكراهية والقتل وانتقال بْقِع الدم لأكثر من محافظة وتكرار الاستفزازات بشعارات معادية لطرف أو لرعاة مبادرة دون اكتراث لما يسببه ذلك من حرج للدولة فقد بات القرار مهيأ لنزع مخالب الكل بأية وسيلة تنفيذا للمخرجات!
مفارقات
لا يتعايش الموت والحياة مطلقاٍ.. والمجتمعات لا تتقبل العقليات المتناقضة.. الحلول المؤقتة لن تجدي.. والحوار المسلح يهدم التعايش.. والعنف لا يوصل إلى طريق حتى وإن أوصل لا يصل إلا إلى أرضُ خِربة ومجتمعُ مْنِهك!! ثمة تجارب كثيرة من حولنا انتزعت بالنضال السلمي والولاء الوطني مالم تحققه القوة حتى الآن..
يؤكد علماء العمران أن أعمال العنف تستدرج المجتمع إلى متاهة الفوضى وتنشر الفزع في كل مكان تهتك النسيج الاجتماعي وتذكي العصبيات والتعصب الأعمى والثأر المتبادل ووجودها اليوم يسعى إلى إعاقة مسار التحول الديمقراطي وعملية بناء الدولة القادمة وإضعاف هيبة الدولة القائمة وتهتك مفهوم دولة النظام والقانون والمواطنة وتعطل الدستور وتفرغ الديمقراطية والحرية من مضامينها!!
اليوم بات كل طرف مخيراٍ بين السير في موكب دولة اتحادية عصرية تنتزع السلاح وتحمي الجميع أو الدخول مع الدولة وغالبية المجتمع في مواجهة قد لا يكون لأحد قبِلَ بها إذا استجمعت قواها.. وكل جماعة مطالبة قبل غيرهاº ليس بانتظار نزع سلاح الآخرº بل بمبادرة استباقية وتقديم نموذج سلمي يطمئن الجميع ويؤكد على صدق نواياها في بناء الدولة الجديدة واحترام سيادتها وممارسة العمل السياسي بمعايير المدنية والنظام الديمقراطي والمشاركة البناءة في بناء يمن مدني و ديمقراطي يحترم الإنسان وحقوقه ويكفل الحريات والمواطنة المتساوية دون تمييز . والجميع مطالب بالالتفاف حول الدولة ورئاستها التوافقية لتطبيق مخرجات الحوار الملزمة وبناء اليمن الجديد وأول خطوة لتنفذها كما يراها الجميع تبدأ بحصر السلاح وتفكيك جماعات العنف المسلح ودمجها في العمل السياسي. ونبذ العنف والتطرف ورفض انتشار السلاح بحيث تقتصر حيازته على رجال الأمن والجيش فقط ورفض وتجريم المليشيات المسلحة التي تتشكل خارج القانون كونها تتهدد الأمن والاستقرار الوطني وتستهدف إضعاف هيبة الدولة واستقرارها.
ولن تْعفى الدولة من المبادرة أيضا.. إذ يبدو الرئيس هادي اليوم مطالباٍ أكثر من ذي قبل بسرعة تشكيل لجنة عليا محايدة تفتح الباب لاستلام السلاح على غرار التجربة العراقية سابقا بل على غرار لجنته الأمنية والعسكرية التي تولت رفع المتارس وتثبيت الأمن مستنداٍ على قاعدة شعبية عريضة ودعم لجنة العقوبات الدولية وحينها ستكتشف المعرقل..
على أن تضمن الحماية الفورية لكل طرف واحترام حقوق الإنسان وكرامته وحرياته التي لا تضر ولا تمس حريات الآخرين وحق الناس في التعبير عن آرائهم وأفكارهم وطموحاتهم المشروعة. وحق الجميع في المشاركة في صنع القرارات التي تتعلق بحياتهم ومستقبل الأجيال القادمة وحماية السلم الاجتماعي..
ستكون هناك عثرات في طريق تسليم السلاح.. لكن المؤكد أن العجلة ستدور.. مثلما دارت عجلة التغيير والحوار في وضع أكثر سوءاٍ!!

قد يعجبك ايضا