الرؤية بعيون الذاكرة 

الدكتورة رؤوفة حسن


الدكتورة/ رؤوفة حسن

د/ رؤوفة حسن  
مررت من أمام المبنى الجديد لمدرسة جمال عبدالناصر الثانوية في تقاطع شارع القصر مع شارع عبدالمغني وعيوني ترى بعيون الذاكرة المبنى القديم المزال الذي درست فيه الأول ثانوي وشاركت فيه في المظاهرات الوطنية ودخلت فيه بسجالات سياسية مع زملائي وزميلاتي في وقت مبكر من زمن النمو والنضوج على المستوى الشخصي وعلى مستوى الأمة.
وزارني الأستاذ عبدالولي الطوقي محدثا إياي عن فيلم يعد لإخراجه حول صنعاء ومواكبتها للعصر يبدأ بصنعاء القديمة وينتهي بجوانب متميزة من البناء المعماري الجديد المهيمن على مناطق صنعاء الجديدة.
فبدأت أتأمل الطرقات والمباني في الشوارع التي أمر بها لاكتشف الثابت والمتغير منها. فزحف العمران قد نفذ إلى أعالي الجبال المحيطة بالمدينة والكثير منها ذو علاقة بفكر خاص به. فالبيوت الحجرية تميل إلى البياض والبيوت الإسمنتية تحمل ألوانا تعبر عن أفكار أصحابها ورؤيتهم الجمالية الرمادية للأشياء.
فالانسجام ووحدة الرؤية والسلام مع الذات والجار والآخر هي السمة الغالبة للقديم في صنعاء القديمة. أما التنافر والتناقض والتمايز بين الفقراء والأغنياء فهي السمة الغالبة على نظام البناء خارج الجزء القديم من صنعاء.
التحرك في إرجاء المدينة يكشف حدة التمايز خاصة في موسم المطر. فالمرور يختلف في شوارع يهطل فيها المطر الغزير وتختفي آثاره بعد ساعات قليلة عنه في شوارع تبقى فيها المياه الموحلة داخل الحفر المزمنة حتى تنشر الملاريا وغيرها من الأمراض المصاحبة.
والمنظر يختلف بين انسجام يشعرك بالجمال وتنافر يشعرك بالحيرة فهذا الجزء الجديد من المدينة وهو ما يمثل ثلاثة أرباع المساحة المأهولة من الأمانة يبدو في حالة بحث قلقة عن هوية.
العلاقات المكشوفة:
كل المباني لها تصور عن علاقاتها في داخلها وعلاقاتها مع خارجها. والتحديق في المنازل وحده يكشف بعض هذه العلاقات. فالسكان الأغنياء لا يرغبون ان يراهم أحد لذا لا يكتفون بالستائر على النوافذ بل يضعون زجاجا مانعا للرؤية الخارجية وبالتالي مانعا تلقائيا لدخول أشعة الشمس كما هي خالصة بل مفلترة.
ويرغبون في استخدام حدائقهم بحرية فيرفعون الأسوار المحيطة بالمنزل بحيث يصبح شكلها حالة متوسطة من سجن أو قلعة.  وهذه الأسوار أصلا لا تحجب مستخدمي الحديقة بل تضع أيضا الحدود مع أي محاولة من الغرباء في الاقتراب أو تلمس علاقة جوار أو صداقة مكان.
والبيوت الصغيرة التي استطاع أصحابها الحصول على قطعة أرض محشورة بين مجموعة مباني غنية تقبع بيوتهم في الغالب في الظلال فالشمس محجوبة عنها ومداخلها شبه محاصرة. لأن البيوت الكبيرة في أحياء صنعاء الجديدة رغم أسوارها العالية تعاني من حالة فقدان للأمان فتمتد سيطرتها على الشارع وتضع لحمايتها الحواجز وأحيانا العسس والحديد الشائك وغرف شبه مؤقتة للحراسة.
عندما أمر في شوارع صنعاء القديمة تنتعش ذاكرتي بكل التفاصيل لا أرى بعيون الذاكرة حاجزا ولا استرجع مشهدا للخوف والحماية. ألم تكن هذه المدينة أيضا حينها تمتلئ بالأثرياء والبيوتات الكبيرة وذوي النفوذ والسيطرة¿
الحرية بدون عرف أو قانون:
البناء في صنعاء الجديدة محدود فقط بالمخطط المتعلق بالبناء وعلاقته مع الشوارع وبعد ذلك ليس للناس معرفة بأي ضوابط قانونية أخرى. وبالرغم من ان فهمهم للحريات الشخصية في اللبس والظهور والرأي والتعبير مليء بالقيود أكثر من كل تشديدات القوانين فإن فهمهم للقانون في الاعتداء على حق الآخرين في الضوء والمرور والامتلاك والانسجام مع المحيط العام شبه غائب.
لذا تترعرع المباني الأسمنتية مغلفة بالحجارة أو ملونة بألوان غير جميلة وبارزة بفن معماري منقول من حضارات مختلفة بحيث يصبح المشهد العام خلطة غير متجانسة من مواد وأحجام هي كلها مع بعضها النتاج العام للشكل الحالي للمدينة الجديدة اليمنية. فالحال نفسه في الامتدادات التي سيطرت على توسعات الحديدة أو تعز أو عدن أو المكلا أو حتى مارب وحزم الجوف.
ضياع الهوية في المباني هو انعكاس لضياع الهوية في النفوس وفي الأفكار وفي الرؤية للذات والعالم. وهي مسألة تستحق من المخططين ان وجدوا إعادة النظر وتسليط البصر على الأشياء لمعرفة العلاقات المرجوة في نمو التحضر والمدنية.
raufah@hotmail.com

قد يعجبك ايضا