العدوان على اليمن .. الأبعاد والتداعيات (1)

عبدالله عبدالرحمن الكبسي

قبل ما يربو على 300 يوم حُفَّل غير معسولة الحلب خلافاً لـ(حبيب رحمه الله) ونعته الخالد ليوم وقعة .. عمورية (1)، تعرضت اليمن – أرضاً وإنساناً ومقدرات – فجأة وبلا سابق إنذار فضلاً عن مبرر – أي مبرر – من (دين أو عقل أو منطق) لواحد من أعنف وأشرس وأفجر الاعتداءات التي عرفتها البشرية في تاريخها المعاصر.
ونقول: البشرية نظراً إلى حقيقة الظروف المحيطة بهذا العدوان والباعث عليه من مقاصد المعتدين ونوازعهم الشريرة في إذلال الشعب اليمني والتحكم العنجهي بمصيره ومقدراته في زمن يتشدق فيه – عالم الاستبكار – اللئيم والمنافق بحرصه على إرساء مبادئ الحرية والعدالة والانتصار لقيم الديمقراطية وحق الشعوب في تقرير مصائرها بذواتها.
وحيث الإشارة هنا كافية لإلهام طبيعة الفوارق الجوهرية بين هذا العدوان الهمجي، وما يمكن أن تخطره الفكرة من الحروب المدمرة التي شهدها العالم على مدى – قرن كامل – أو يزيد قليلاً وعلى النحو الذي يصح معه التوصيف الآنف لواقع الحرب العدوانية القائمة على اليمن وانطباقه عليها دون مبالغة أو تهويل، ولا سيما إذا ما أخذنا في الحسبان عند المقارنة الشواهد المعززة لوجهة النظر هنا واستقراءها بدقة من خلال العناصر المادية المعبرة عن تعادل موازين القوة لدى طرفي الصراع كما في الحربين العالميتين، أو تقاربها النسبي على الأقل لجهة التأثير المادي والمعنوي بالنتائج المباشرة وغير المباشرة في ظل المعطيات الساخنة لما أسمي آنذاك بالحرب الباردة بين المعسكرين المتنافسين الشرقي والغربي كما في الحرب الأمريكية الفيتنامية.
لقد مر على هذا العدوان الهمجي – السعوصهيوأمريكي- حتى لحظة كتابة هذه الأحرف ما يقارب العشرة الأشهر تباعا، استخدمت فيه دول حلف الردة والنفاق الأعرابي العالمي، جل مقدورها من وسائل القتل والتدمير الأشد فتكاً والأكثر حداثة وفعالية جواً وبراً وبحراً، وعلى مدار الساعة وباستغراقية عدائية حاقدة ولئيمة لعناصر ذلك المقدور الجهنمي بما اشتمل عليه من الأسلحة المحرمة دولياً كالعنقودية، وما هو أشد فتكاً وضرراً من العنقودية مما لم يعلم نوعه وكنهه حتى الآن من مثل ما ألقي على جبلي نقم وعطان، من تلكم القنابل الرهيبة التي رجت الأنحاء المختلفة رجاً عنيفاً فظيعاً، وأتت على الأحياء المجاورة – محواً واقتلاعاً وتحريقاً – في مشهد ربما لا سابقة له في الحروب الحديثة المعروفة، اللهم إلا ما كان من الهجوم الأمريكي بالقنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين في نهاية الحرب العالمية الثانية كما هو معروف.
وإذ يمكن اعتبار هذا البسط الجزئي لمجريات هذا العدوان الهمجي على اليمن وإلماح بعض آفاق تلكم المجريات المادية النوعية ومن الأطراف دون العمق بمثابة دليل إضافي على كون هذا العدوان من أخطر وأشرس ما عرفته البشرية كما سلفت الإشارة.
إلا أن الأدهى والأخطر من كل ما وشى وَشَى به هذا العدوان وعبر ويعبر عنه لجهة المظاهر المادية الموغلة في العنف الفظيع والمفرط وكمية الحقد الرهيب والمذهل المعبَر عنه في تفاصيل المجريات المهولة – هو بلا شك – ما تنطوي عليه من أبعاد وتداعيات دراماتيكية تتجاوز حدود المساحة الملتهبة بتفجراته المباشرة وكذا ما أسفر ويسفر عنه من بروز التناقض والمفارقات الخارقة لسقف المعقول على صعيد المواقف والتحالفات التي أفرزها هذا العدوان على المستويات جميعها محلياً وإقليميا ودولياً، وفقاً لما يأتي تفصيله لاحقاً، مشيرين هنا.. مراعاة لاتساق نسق البيان وتسلسل دلالاته على الغرض المقصود.. إلى حقيقة مهمة جداً لما نحن بصدده من رصد تلكم الأبعاد والتداعيات المنعكسة عن العدوان والتعرف عليها في شتى المناحي والمستويات، وذلك بأن نتتبعها من خلال المقدمات التي أرهصت بالعدوان وأفضت إليه كنتيجة مؤكدة لتفاعلاتها.
وغني عن القول: إن ثورة – الحادي عشر من فبراير 2011م – قد شكلت البداية العريضة المتعدية إلى الخواتم المعاشة والحدث الأهم الذي تداعى منه الأجد والأخطر من الأحداث التالية، وابتعث ما كان منسياً أو مسكوتاً عنه قبله من أحداث ما لبثت أن عادت لتتوهج مجدداً على خلفية هذه المستجدات ولتمض معها في مجرى سيرورتها الظافرة إلى الغاية المنشودة بعون الله.
ثورة الحادي عشر من فبراير 2011م
لا مراء بأن حادثة الشاب التونسي – البوعزيزي – التي مثلت ذروة إنسانية ومأساوية بالغة الإيحاء والدلالة على مظلومية الإنساني العربي وانسحاقه المريع في ظل تمادي أنظمة القهر والتسلط والارتهان في إذلال شعوب الأمة والاستهانة بحقوقها وتطلعاتها الآدمية، وعلى النحو الذي جعل من تكلم الحادثة بتداعياتها السريعة والفورية على الشارع التونسي بمثابة الشرارة التي فجرت براكين الغضب الهادرة في العديد من العواصم العربية ومنها بطبيعة الحال – صنعاء – التي شهدت ثورة شعبية عارمة، ابتدأت بمجموعة من شباب الجامعة، ثم ما لبثت أن تعاظمت شيئاً فشيئاً لتنتظم في إطارها العديد من الأحزاب والمكونات السياسية والاجتماعية بمختلف عناوينها ومسمياتها الحقوقية والمهنية وعلى امتداد الساحة اليمنية طولاً وعرضاً.
بيد أن التطور الأكثر خطورة وأهمية نوعية الذي شهده مسار الثورة الجماهيرية هو إعلان الفرقة الأولى مدرع بقيادة اللواء علي محسن الأحمر انضمامها إلى جانب الثورة وتبني مطالبها، محققة بذلك بل قائدها محسن انقسام الجيش اليمني ومعادلة عناصر القوة بإزاء ألوية الحرس الجمهوري الموالية لنظام صالح.
الأمر الذي ضاعف مأزقه قبالة هذا التطور المثير، بالقدر الذي عقَّد مسار الثورة ورهن مآلاتها في الحقيقة، وإلى حد بعيد بانحسام الأمر أولاً بين قطبي الصراع وإن شئت قلت: قطبي النظام نفسه، إن بالحسم العسكري وإن بالإتفاق والتفاوض.
ومن هنا ومع ملاحظة أن دخول محسن على خط الثورة وتحالفه مع أولاد الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر المصطفين بدورهم مع الثورة، والذين يمكن القول: إن أداءهم آنذاك قد تميز بالطابع – الثأري – من صالح-، قد أضاف بعداً آخر أشد تعقيداً وأدى بطبيعة الحال إلى تصلب موقف الرئيس صالح ومن معه من القيادات العسكرية والأمنية وعلى النحو الذي أخذت معه الأزمة منحى تصعيدياً خطيراً عبر عن نفسه ضمن حوادث عديدة متصلة بواقعتي استهداف منزل الشيخ صادق الأحمر بالصواريخ وكذا جامع دار الرئاسة بنتائجه الخطيرة المعروفة، وآليته الغامضة والدقيقة إلى حد كبير.
الأمر الذي اتسعت معه فرصة اللاعبين على خط الأزمة من الخارج المتربص للتدخل القوي والحثيث بغية احتواء الثورة وحرف مسارها، وافراغها من مضامينها الحقيقية، تحت ذريعة ما بدا أنه حاجة ملحة لحلحلة الأزمة المتفاقمة وتجنيب البلاد مخاطر الانزلاق إلى الاحتراب البيني والدخول في المجهول.
وهكذا جاءت المبادرة المسماة – بالخليجية – (2) لتلقي بتعويذتها السحرية الماكرة – كرَّة واحدة – من فوق رؤوس الجميع، بل وفوق مطمح ابصارا لكثير المنبهر إلى حد الإعشاء عن ملحوظها المدلس الذي ازاح البعض من رموز النظام عن واجهة المشهد، فيما أبقى على النظام نفسه – فلسفة ومواصفات – ومؤكداً في الوقت عينه عبر تفاصيل المبادرة ومرتكزاتها الأساسية هيمنة الخارج عموماً والسعودي منه بصفة خاصة من خلال التأكيد على مرجعية المبادرة واختصاصه الحصري المفروض برعاية مراحلها المختلفة وكل ذلك تحت يافطة – الأمم المتحدة – وباسمها أيضا في المغزى الكبير لإحكام السيطرة على المؤديات والمخارج ضماناً للوصول بها إلى المبتغى المرسوم والمخطط سلفاً وبعناية اتقنها المتآمرون وبرعوا في هندسة تفاصيلها واستثمارها جيداً في ظل الصخب السياسي والإعلامي والتحفزات الذهنية الحزبية والمذهبية التي استغرقت المكونات السياسية عبر ملهاة الحوار الوطني المريح والمتمادي إلى حد بعيد. (3)
لقد اطمأن الجميع تقريباً في الساحة اليمنية إلى اختيار عبدربه منصور هادي خلفاً مؤقتاً للرئيس الأسبق علي عبدالله صالح لفترة انتقالية مدتها عامان حسب رؤية المبادرة، باعتباره الخيار الأكثر صواباً ومقبولية في ظل اختلاف الفرقاء حول البديل وتحيرهم بين تلكؤ صالح وتشديده على أنه لن يخلي مكانه إلا لمن وصفه – باليد الأمينة – من جهة، وتلهف الطرف الآخر على سرعة تخلٍّيه ومغادرته المشهد كضمان أساسي لتقليم أظافر الرجل الحادة وتجريده من عناصر قوته من جهة ثانية.
على أن المفارقة العجيبة المتمخضة عن هذا الترتيب والجديرة في الوقت نفسه بالتأمل والاعتبار هو أن تلكم اليد التي توخاها صالح آمنة سرعان ما كشفت الأحداث المتلاحقة عن كونها لا أقول: غير أمينة ولا آمنة وحسب،ولكنها أخطر وأقذر وأشأم يد عرفتها اليمن في تاريخها على الإطلاق.
ثم هي كذلك آلام وأنجس وأخبث يد تسلمت أمانة ضخمة بحجم قيادة البلاد، وتولت أزمَّة أمورها في ظرف استثنائي بالغ الدقة والحساسية فغدرت وفرطت وخانت، وعلى النحو الذي تجاوز كل ملحوظ – للأمن والأمان – لتغدو اليمن الإنسان بكل ألوانه وأطيافه، والوطن بكل إرثه ومقدراته في معرض الاحتلال والإبادة والتدمير الشامل.
الهوامش
1-  الجملة هنا تشير إلى بيت أبي تمام حبيب بن أوس الطائي من قصيدته الخالدة في فتح عمورية الذي يقول: “يا يوم وقعة عمورية أنصرفت عنك لمنى حُفَّلاً معسولة الحلب”.
2- من يلاحظ المخاض العسير الذي سبق ولادة المبادرة وما صاحبها وتلاها من نشاط بارز وتحرك مثير لسفراء الدول الغربية الكبرى وعلى رأسهم السفير الأمريكي آنذاك سيدرك بسهولة أن هؤلاء الخبثاء قد عمدوا إلى إخفاء أياديهم المجرمة وراء عقالات الخليجيين الذين سرهم بالتأكيد أن يتعنونوا المبادرة ويتقلدوا الدور نيابة عن أسيادهم اللئام.
3- لا شك أن الحوار الوطني قد مثل نقطة مضيئة في المسار وقيمة حقيقية جامعة لكافة القوى والمكونات المنخرطة فيه باعتباره خيارا وطنيا حكيما وصائبا للخروج من متاهات الاختلاف والتناحر بيد أن ظهور مسألة الأقلمة على جدول فعالياته في اللحظات الأخيرة قد جعل من ذلك الحوار برمته مجرد ملهاة مدلسة لاستهلاك الوقت والجهد ريثما أنضجت الطبخة ليس إلا.

قد يعجبك ايضا