مجنون الحي.. والصراع الاجتماعي

الغربي عمران
دوما غلاف العمل الإبداعي ما يشعرنا بنوع من التآلف أو التنافر مع أول نظرة إليه.. فهل الأغلفة تسكنها أرواح نابضة بالحياة ..أم أن مصمموها يضعون شيئاً من أرواحهم في جزيئاتها؟
“مجنون الحي” مجموعة قصصية للساردة المصرية عزة دياب.. صادرة عن دار غراب, القاهرة 2015. وغلاف المجموعة يجذب العين من أول وهلة.. وقد بدى باب سحاب لأحد المتاجر بلونه الداكن والعشوائي يمثل خلفية منسية.. لصورة نصف وجه رجل يظهر متصدرا .. وقد أنشطر إلى غائب وحاضر.. نظرة عينه الصامتة وكأنها تدين ما تنظر إليه .. أصابع كفه ظهرت شاحبة نافرة العروق .. فنلته المقلمة تغطي عظام كتفه الناتئ .. شعر رأسه ووجهه العشوائي وقد خطه الشيب.. أشياء منسجمة مع كآبة بعضها.. لكنها نظرته تدين المجتمع. وتتجاوز إلى أرواحنا.
مجنون الحي. عنوان يدلل على معان سلبية كثيرة هو الأخر يحمل الكثير: كما لو كان على كل حي أن يكون له مجنونه.. ولماذا مجنون وليس متسولاً؟ هل لفقدان العقل دلالات أعمق. وبعيدا عما يحمله النص المأخوذ منه هذا العنوان .. نقف ونحلل العنوان كنص إبداعي قائم بحد ذاته. فهاهي ثورات الربيع العربي وقد جاءتنا بمزيد من المجانين المجني عليهم نتيجة لطوفان الفقر والبطالة والفساد وضيق العيش.. وعدم الرعاية .. والحاجة للأمان .. كل مجنون وراء فقد عقله حكاية.. فهو مؤشر لسقوط القيم المجتمعية ومصداقية الأنظمة المتسلطة. أن ينكسر أحدنا .. ويخرج عن مجرى الحياة التقليدي فذلك مؤشر خطير . ولكن هل كل من نراهم مجانين.. هم مجانين ؟ أم من نحن من نظن أننا أصحاء .. نحن المجانين.. حين تطبعنا لنعيش البلادة والفساد وقيم العنف والإقصاء.. نحن حين أضحينا نتواطأ مع التطرف والقتل والسلب. من نراه مجنون حدد موقفه.. معلناً بأنه لا يتواطأ مع كل أمراض المجتمع الدينية والقيقمية والسياسية.. سافراً تمرده وخروجه عن مجرى العفن. بينما نحن نستمرئ كل ذلك ولا نحرك ساكناً. فمن المجنون في الحي هو أم نحن؟
وإذا تجاوزنا عنوان الغلاف إلى العناوين الداخلية..سنجدها “23” عنوان..منها ” 17″ عنواناً من مفردة واحدة.. 10 عناوين منها بألف ولام التعريف.. ثم 6 عناوين تكونت بأكثر من مفردة.
أكملت قراءة نصوص المجموعة.. لأجالس ما تبطن من دلالات ومعان. وعما تحمله من آهات وعذابات خاصة ما هو نتاج ذلك الصراع المجتمعي .. تلك النصوص التي تشير إلى مواطن الخلل في العلاقة بين الرجل والمرأة.. وبقدرة المبدعة الموهوبة على الإشارة بأصابع السؤال.. ليس بشكل مباشر.. وإنما بترك القارئ يتابع ويكتشف من نص إلى آخر ذلك الصراع الذي يديره الرجل مع من سواه وقد تسلح بالدين والتقاليد والعادات وبضعف القوانين كي يمتهن ما سواه.. ويخضع مستعبدا ما سواه. هذا ما تعلنه سير أحداث تلك النصوص.. وما تنضح به طرائق التعامل بين الزوج وزوجته والأب وابنته.. وبين الأخ وأخته.. والحبيب وحبيبته.. كل ما يعتمل بتلك النصوص يدين الرجل ..عتوه وتجبره.. وتسلطه.
لكني هنا لن أتحدث عن مضامين تلك النصوص.. ولا عن أساليب وتقنيات الكاتبة.. ولا على ما لمسته من تطور بين إصدراتها السابقة والاشتغال المغاير في نصوص هذه المجموعة. بل سأكتفي بالحديث حول عناوين نصوص هذه المجموعة بعد أن لفتت انتباهي لتميزها. وككتاب نعرف مقدار ما يعانيه الكاتب حتى يستقر على عنوان محدد لكل نص.. محاولا الوصول إلى ما يعبر عن محتواه.. وإذا كانت الكاتبة قد نجحت في اختيار عنوان الغلاف.. ما يدعونا إلى التساؤل حول نجاحها في بقية العناوين؟
وبداية بـ17 عنواناً المكونات من مفردة واحدة منها 7 عناوين بدون ألف ولام التعريف: روضة, رؤية, خروج, لقاء, هذيان, عثرة, كابوس .
تلك العناوين البسيطة في ظاهرة الملغزة في باطنها, فأي روضة تعني الكاتبة بأول عنوان؟ هل روضة أطفال.. روضة غناء.. هل هو أسم فتاة كما درجت العادة في بعض المجتمعات تسمية الفتيات كما في اليمن.
وهكذا عنوان رؤية .. وإن كانت رؤية تذهب بنا بعيدا كونها عنوان يتجاذبه المعنى والفعل. وكذلك عناوين خروج.. وهذيان. وعثرة وكابوس. تلك العناوين التي تصب في نسق واحد لتشد القارئ إلى اكتشاف ما بعد العناوين في مضامين النصوص والبحث عما يشير إليه.. وعدم اكتشاف خيبة ما يتوقع القارئ في متون النصوص.. بعد إجادة الكاتب العنوان الذي يمثل ويعبَّر عن محتوى النص ورسالته. فلكل نص رسالة .. ولكل رسالة قالب أو شكل قد ينجح الكاتب في رسمه وقد يفشل.. والكاتبة نجحت في اقتناص أفكار أو مضامين نصوصها كما أجادت بناء نصوصها فنيا وبشكل مشوق.
العناوين المعرفة بالألف واللام 10: السجينة, الأريكة, السترة, الصخرة, العرس, البعاد, الكرسي, الإشارة, العاشق, الشرك.
فعنوان السجينة .. يتبادر إلى الذهن وقبل الولوج في النص أنها المرأة المعنية بالسجينة.. وأن سجنها لا يرى فلا قضبان حديد ولا حوائط.. بل نصوص دينية وعادات وأعراف يستخدمها المجتمع لتكبيلها وسجنها . وقد يعني إلى سجن بقضبان وسلالسل.
الأريكة.. وما توحي من صور شتى.. أريكة وحيطان ولذة مسروقة. أريكة وعاشقان.. أريكة وجريمة .. أريكة ضمن أثاث بيت عادي .. وهكذا يتشعب معنى المدلول ليدعونا العنوان لاكتشاف ما يرمي إليه.
السترة .. العرس.. البعاد.. الكرسي.. الإشارة .. العاشق. كل تلك العناوين تثير القارئ متخيلا محتوى النص. لكن عنوان”الشرك” يذهب بنا بعيدا لنتشعب في أكثر من حكاية متخيلة لما يدلل عليه. وهنا قد يدهش القارئ لبراعة الكاتبة في شد انتباهه واستفزاز مخيلته.. وقد يخيب ظنه إن كان العنوان من القوة بمكان بيناً مضمون النص وبنيانه الفني هش وبسيط وغير مشوق.
العناوين ذات الألف واللام عناوين تحد من أفق الاستنتاج .. وتلك الغير معرَّفة تضع القارئ في العادة أمام أكثر من مسرب استنتاجي متخيل لمضامين النصوص .
العناوين التي زاد كل منها على مفردة.. مثل : السير بمحاذاة الساحل, الوقوف على الجانب الآخر, عشب يتألم, صباح شتوي, طريق المقبرة, مجنون الحي.
تتهاطل صور حين تستدعي الذاكرة سواحل وشطئآن متعددة .. يشاطرها نخيل وأخرى جبال علية وثالثة قاحلة إلا من نوارس وعاشقين.. وما تحمله من حكايات . هي العناوين الطويلة دوما ما تشكل صورا .. وعوالم سحرية . وكما هو السير بمحاذاة الساحل.. يأتي عنوان “الوقوف على الجانب الآخر”. لتبادر الصور تلون جوانب عدة.. فأي جانب آخر تريده الكاتبة من عنوانها.. هل هو جانب مادي أم معنوي؟ ثم عنوان عشب يتألم. وصباح شتوي وأخيرا “طريق المقبرة”.. يالوحشة ذلك الطريق الذي يؤدي إلى مكان أكثر وحشة.. من منا لا يحمل ذكرى مؤلمة لمقبرة وطريق يؤدي إليها.. من منا لم يسكب دموعه في أحد الطرق تلك حين ودع أو أستودع جزء منه في تلك البقاع الصامتة.. فأي نص يكون لهذا العنوان شديد الإثارة.
وأخيرا مجنون الحي.. العنوان الذي يتمدد على غلاف المجموعة ويشير إلى التعبير عن جميع نصوصها.. ثم يأتينا على سطر أحد النصوص.. فأي نص يكون مرآة لانكسارات أرواحنا.. ونواقصنا. عنوان يشوقنا لأن نعرف ما يحتويه نص قد يجد كل منا شيئاً من نفسه فيه.
هي عناوين قد تغوي القارئ ولا تقدم له ما تخيله أو توقعه في أحشاء نصوصها.. وقد يجد بعضها وقد تجاوزت ما توقعه.
أما أنا فقد قرأت تلك النصوص.. ولم أجد ما يخيب ظني في أي من عناوينها.. بل أن بعضها حملني على أجنحة الإدهاش..دهشة لغة الكاتبة وبوح روح تتوق للإنعتاق.. بعوالم ساحرة.. تهيم في توق سخي إلى آفاق الحياة الحقة .. حياة ملؤها الحب والتسامح والعطاء.
وهي بتلك النصوص تشير إلى مواطن الخلل.. ولا تقدم نصائح..بل تثير أسئلة تتوالد دافعة بالقارئ إلى استنتاج أجوبة لأسئلة تتكاثر مع قراءة كل نص بشكل يبعث على الإعجاب والمتعة.

قد يعجبك ايضا