الفقر الأمني‮ ‬وأشياء أخرى

جمال الظاهري –
(‬لو كان الفقر رجلاٍ‮ ‬لقتلته‮)‬‮ ‬بهذه الأربع الكلمات لخص الإمام علي‮ ‬بن أبي‮ ‬طالب كرم الله وجهه ثقل وخطورة الفقر وتبعاته الجسيمة على الإنسان وما‮ ‬يمكن أن‮ ‬يجلبه عليه من الهموم والمحن‮.‬
الفقر عدو‮ ‬غاشم مقترن بالهم الإنساني‮ ‬يْذلك نهاراٍ‮ ‬ويؤرق منامك ليلاٍ‮ ‬‮ ‬ويقودك الإنسان إلى ارتكاب ما تنكره الأخلاق والقيم‮ ‬ولأن الفقر آفة خطيرة على المجتمعات ناهيك عن الأفراد‮ ‬فإنه مع تزايد الإدراك بخطورة هذه المشكلة من قبل الدول والمجتمعات فإنها توليها حيزاٍ‮ ‬كبيراٍ‮ ‬من الاهتمام في‮ ‬خططها واستراتيجياتها المرحلية بهدف الحد أو ازالة هذه الصفة عن أفراد مجتمعها إن أمكن
ومكافحة ظاهرة الفقر أو محاربته نالت نصيباٍ‮ ‬كبيراٍ‮ ‬في‮ ‬التشريعات السماوية المتعددة وحتى المعتقدات‮ ‬غير السماوية أولتها اهتماماٍ‮ ‬كبيراٍ‮ ‬في‮ ‬أدبياتها ونصوصها المكتوبة وغير المكتوبة‮.‬
قد‮ ‬يظن البعض أن موضوع الفقر‮ ‬يرتبط فقط بالموضوع المالي‮ ‬وبصورة أوضح بالشأن الاقتصادي‮ ‬الذي‮ ‬حدده علماء الاقتصاد بقدرة الفرد الشرائية‮ ‬التي‮ ‬تحدد من هو الفقير ومن لا‮ ‬ينطبق عليه هذا الوصف‮ ‬وهذه نظرة قاصرة لأن الفقر مفهوم أوسع وأشمل من هذا التحديد‮ ‬فهناك فقر أخلاقي‮ ‬وقيمي‮ ‬وفقر في‮ ‬الفضيلة وفقر في‮ ‬الإحساس بالآخر‮ ‬يعرفها من‮ ‬يدقق في‮ ‬المشاهدات اليومية لسلوك الآخرين‮.‬
وفي‮ ‬هذا المقال المقتضب سأعرض على النوع المستتر من الفقر الذي‮ ‬لا نوليه اهتماماٍ‮ ‬في‮ ‬المعالجة سواءٍ‮ ‬كأفراد أو حكومات ومجتمعات‮ ‬فهو أوسع وأكثر خطورة من الفقر المعروف بالحاجة الشخصية لتلبية بعض متطلبات العيش‮ ‬وكي‮ ‬تكون الصورة أكثر وضوحاٍ‮ ‬ودقة فإني‮ ‬سأستعين بتجربة شخصية حدثت لي‮ ‬قبل أيام أرجو من خلالها أن تتجلى هذه الأنواع من الفقر الذي‮ ‬استشرى خلال السنوات الأخيرة في‮ ‬بلادنا‮ ‬مع التعريض البسيط على بواعث مثل هذه الانواع من الفقر‮.‬
المدينة صنعاء وأحداث القصة بدأت في‮ ‬منطقة دارس‮ – ‬خط المطار‮- ‬الساعة الحادية عشرة والربع‮ ‬كنت عائداٍ‮ ‬من عملي‮ ‬إلى البيت توقفت في‮ ‬سوق دارس لشراء بعض الأغراض المنزلية وبعد أن ابتعت ما تحتاجه أسرتي‮ ‬كانت هناك سيارة أجرة‮ – ‬تاكسي‮ – ‬متوقفة أمام البقالة التي‮ ‬تبضعت منها نزل منها شاب عشريني‮ ‬وسيم وممتلئ تظهر عليه ملامح النعمة أنيق في‮ ‬ملبسه ونظيف في‮ ‬مظهره استوقفته وطلبت منه أن‮ ‬يوصلني‮ ‬إلى المنزل‮ ‬وافق وفتح خانة التاكسي‮ ‬كي‮ ‬أحمل الأغراض التي‮ ‬ابتعتها وهو‮ ‬يبتسم‮ .. ‬ركبنا التاكسي‮ ‬وانطلقنا باتجاه الحي‮ ‬الذي‮ ‬أقطنه وفي‮ ‬الطريق تذكرت أني‮ ‬بحاجة لشراء بعض الخضار وطلبت منه التوقف أمام إحدى البسطات فوافق وأوقف السيارة على جانب الطريق بالقرب من‮ (‬بسطة‮) ‬تبيع الخضار والفواكه‮ ‬نزلت من السيارة لشراء ما أحتاجه وماهي‮ ‬إلا خطوات لا تتعدى العشر وإذا بي‮ ‬أسمع صوت محرك التاكسي‮ ‬التفت صوبها لأراها وهي‮ ‬تغادر المكان مسرعة باتجاه المطار مع أغراضي‮ ‬ولكم أن تتخيلوا المفاجأة التي‮ ‬صدمتني‮ ‬حينها‮.‬
تنتهي‮ ‬حكايتي‮ ‬مع صاحب التاكسي‮ ‬الهارب‮ ‬وتبدأ حكاية أخرى مع من كان حاضراٍ‮ ‬ساعتها وشاهد الحادث‮ ‬طلبت من أصحاب السيارات المتواجدة في‮ ‬المكان مساعدتي‮ ‬وعرضت عليهم إيجارات مغرية مقابل اللحاق باللص الشاب‮ (‬الجنتل‮)‬‮ ‬فلم‮ ‬يلتفت ولم‮ ‬يقدر الموقف أحد‮ ‬فتركت المكان وتوجهت إلى إحدى النقاط الأمنية القريبة كي‮ ‬يساعدوني‮ ‬فبدأوا بمساءلتي‮ ‬بأمور كثيرة‮ – ‬من أنت وماذا حدث ومن صاحب التاكسي‮ ‬وهل أخذت رقمه ومتى حدث الأمر وأسئلة كثيرة أخرى‮.‬
تجمع حولي‮ ‬أفراد الشرطة بعضهم أظهر بعض التعاطف والبعض الآخر بدت على وجهه السخرية‮ ‬المهم كانت النتيجة مخيبة‮ ‬لملمت الشتات الذي‮ ‬أصاب تفكيري‮ ‬وفوضت أمري‮ ‬لله وعدت إلى منزلي‮ ‬خالي‮ ‬الوفاض‮ ‬إلا‮ ‬من الكثير من اللوم لنفسي‮ ‬والحسرة على الحال الذي‮ ‬وصلت إليه قيم وأخلاقيات الناس وأسف شديد على النخوة والحمية التي‮ ‬لطالما تحلى بها مجتمعنا اليمني‮.‬
عقدت العزم على أن أكون إيجابياٍ‮ ‬رغم كل الإحباطات‮ ‬بأن أتوجه إلى مركز الشرطة في‮ ‬منطقة بني‮ ‬حوات لتقديم بلاغ‮ ‬في‮ ‬الحادثة رغم عدم اقتناعي‮ ‬بالمعلومات التي‮ ‬سأقدمها لهم عن التاكسي‮ ‬خاصة أني‮ ‬لم أستطع تسجيل رقم لوحة السيارة‮ ‬فقط مواصفات صاحبها التي‮ ‬ستظل منطبعة في‮ ‬ذاكرتي‮ ‬إلى ما شاء الله‮.‬
وصلت إلى الحي‮ ‬الذي‮ ‬يوجد فيه مركز الشرطة لأبدأ رحلة جديدة من التعاسة‮ ‬لأني‮ ‬بقيت حوالي‮ ‬الساعة والنصف أبحث عن هذا المركز في‮ ‬الحارات الداخلية للحي‮ ‬وحين وصلت وشاهدت حالة المركز والعاملين فيه وما‮ ‬يعمه من فوضى وافتقار لأدنى مقومات المراكز الأمنية ازددت‮ ‬يقيناٍ‮ ‬بأني‮ ‬أشبه ما أكون بغريق في‮ ‬بئر عميق ومظلم‮ ‬يصرخ طالباٍ‮ ‬من الريح نجدته‮ ‬ومع ذلك آثرت‮ ‬أن أكمل ما عزمت عليه‮ ‬وبعد أن شرحت قصتي‮ ‬لضباط وأفراد الشرطة الذين التقيتهم في‮ ‬حوش المركز‮ ‬طلب مني‮ ‬المختص بتدوين البلاغات قلماٍ‮ ‬وبياضاٍ‮ ‬لتدوين المحضر‮ ‬خرجت الى أقرب دكان واشتريت ما طلب مني‮ ‬ومن ثم عدت‮ ‬سألتهم عن مكتب المختص الذي‮ ‬سيباشر في‮ ‬تدوين بلاغي‮ ‬فأشاروا إلى إحدى الغرف توجهت الى تلك الحجرة‮ ‬ليزداد‮ ‬يقيني‮ ‬بالنتيجة المخيبة وتسيطر علي‮ ‬حسرة كبيرة على الحال الذي‮ ‬تعيش فيه مرافقنا الحكومية‮ ‬لأن تلك الغرفة لا تحوي‮ ‬أكثر من بقايا مكتب وكرسي‮ ‬مهلهل‮ ‬ويحيط بالمكتب بعض حبات البلك‮ ‬يجلس عليها المراجعون أثناء أخذ إفاداتهم‮.‬
كتبت بلاغي‮ ‬وما تيسر لي‮ ‬من مواصفات اللص الهارب باغراضي‮ ‬وسلمتها للمختص الذي‮ ‬لم‮ ‬يكلف نفسه الرؤية لوجهي‮ ‬أخذ الإفادة وهو منكس رأسه ورماها في‮ ‬أحد أدراج مكتبه‮ ‬وأشار إلي‮ ‬أن‮ (‬خلاص‮) ‬غادر المركز‮ ‬تركته مغادراٍ‮ ‬وعيني‮ ‬تتفحص المكان ومن فيه وأذني‮ ‬تستمع الشكاوى والتذمر من قبل المراجعين ومن قبل أفراد المركز‮.‬
ربما‮ ‬يكون الفقر‮ (‬الحاجة‮) ‬هي‮ ‬ما تدفع البعض للسرقة والقتل والتقطع‮ ‬ولكن الفقر الأكبر‮ ‬غير ذلك‮ ‬فقر المسئولية وفقر القيم وفقر السلطة‮ (‬الدولة‮)‬‮ ‬فصاحبنا‮ (‬الحرامي‮) ‬صاحب التاكسي‮ ‬لم‮ ‬يكن مضطراٍ‮ ‬للسرقة ومظهره‮ ‬يدل على ذلك ولأنه‮ ‬يمتلك وسيلة دخل‮ ‬ومبنى مركز الشرطة وأفراد الأمن ليسوا ترفاٍ‮ ‬حتى‮ ‬يكون هذا وضعهم‮ ‬كما أن الجريمة والمجرم ليس بحاجة الى أن‮ ‬يكون معوزاٍ‮ ‬لأخذ ما هو لغيره بقدر ما هو بحاجة إلى بيئة تشجعه على ارتكاب جرائمه‮ ‬ومجتمع مفكك بعيد عن هويته وحضارته وتاريخه وقيمه‮ ‬هذه تجربتي‮ ‬وهذا ما خلصت إليه‮ ‬وتغيب الدولة عن واقع المجتمع وبالأخص في‮ ‬الشق الأمني‮ ‬محفز قوي‮ ‬للعبث وانتشار الجريمة فهل من مجيب¿‮.‬

قد يعجبك ايضا