أبو هاشم .. الشهيد الذي جعل من أخلاقه سبيلا لانضمام ابناء نجران مع أبطال الجيش واللجان

د. أسماء الشهاري

*الشهداء.. نبع من القيم والأخلاق، يعطون ولا يأخذون، يترفعون عن سفاسف الأمور، يضحون براحتهم وأرواحهم وحياتهم لأجل حياةِ الآخرين حتى وإن كانوا يخالفونهم في الرأي أو يسيئون إليهم..
ومن صفات المؤمنين والصالحين الإحسان.. وهذا ما ذكره الله كثيراً في كتابه وأثنى على أهله ومن يتحلون بهذه القيمة الإنسانية العظيمة.. حتى جعلهم الله ممن يحبهم..
وماذا بعد الحب إلا الإصطفاء.؟
“إنَّ الله يحب المحسنين ”
وقد بدأنا قصتنا بالحديث عن الإحسان.. لأنه أهم بل وأجمل ما كان يميز بطل قصتنا.. الشهيد- محمـد أحمد أحمد الحملي(أبو هاشم) الأمانة- السبعين-حدين.
امتلك الشهيد محمد شخصية مميزة منذ صغره وكان يمارس رياضة التايمواندو وحصل على حزامين فيها..
وكان شديد التمسك بقناعاته فكان أول طفل يؤدي الصرخة في المدرسة مما أدى إلى استدعاء والده وحضور طقم إلى المدرسة آنذاك..
كما بدأ المشاركة في حضور الفعاليات والمسيرات وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره..
تحمل محمد المسؤولية مبكراً وكانت أسرته تعتمد عليه في كل شيء فقد كان خدوماً وشجاعاً ويُعتمد عليه وهذا ما أهله لأن يكون رئيسا للكشافة في المدرسة وكان محبوباً لدى مدرساته ومعلميه..
كما اتصف محمد بكثير من الصفات الجميلة منذ نعومة أظافره.. فقد كان مؤدباً مهذبا وخجولاً ومرهف الأحاسيس وكان طيباً وحنونا..
وعندما وصل عمره خمسة عشر عاما التحق بالمكتب السياسي لأنصار الله وكان محبوباً لدى كل من يعرفه لما فيه من صفات نبيلة.. بمن فيهم وفي مقدمتهم أفراد أسرته والذين يشيدون ويفتخرون بأخلاقه العالية..
كان محمد مهتماً جداً بالصلاة ومستحيل أن يفرط فيها ولا يقدم أي عمل عليها مهما كان..
وعلى الرغم من مرضه، فقد كان مصاباً بروماتيزم حاد في القلب وروماتيزم في المفاصل أيضا وكان يتعب بشكل كبير وقد وصف له الطبيب إبرة كل 21 يوماً لمدة ثمان سنوات..
إلا أنه كان أحياناً يزحف زحفاً إلى الحمام من أجل تأدية الصلاة فقد كان المرض قوياً عليه ولا يسمح حتى لوالده بمساعدته.. وهذا المرض على شدته لم يمنعه من الجهاد والإلتحاق بجبهات الشرف في سبيل الله والوطن..
وكان كثير التوصيات لأهله وبارا جداً بوالديه..
كان محمد يتواصل مع أفراد عائلته حتى البعيدين ويعمل على خدمتهم.. وكان قلبه الكبير معلقا بالأطفال فكان يحبهم كما يحبونه كثيرا.. والسفر معه متعة كبيرة فقد كان كريما وحنوناً.. ويجمع بين الابتسامة والمرح والوقار..
ولقيام الليل معه قصة وحكاية فقد كان يوقظ أفراد أسرته لقيام الليل ويستقبل الصلاة والمناجاة بين يدي الله سبحانه كأنه عريس وقد تجمّل وسرح شعره ورائحة العطر تفوح منه.. وهكذا كان يحيي الليل..
والصيام قصة حب أخرى فكان كثير الصوم دون أن يعرف أهله بذلك أو حتى يطلب منهم أن يجهزوا له طعام الإفطار ،فهو من كان يخدم نفسه بنفسه ولا يكلِّف عليهم شيئا.. فيغسل ملابسه ويجهز طعامه بنفسه..
ومما كان يردده دائماً- “تلك الجنَّة التي نُورِّثُ من عبادنا من كان تقيّا”
وله في الإحسان أروع القصص وأجمل المعاني التي لا يتسع المجال لذكرها..
وقد كان كثير الإنفاق ودائماً ما يحث أهله على ذلك، ويقول:” وانفقوا مما تحبون”
ويقول: الإنفاق يزيل النفاق..
أما الجهاد فقد كان فيه فارساً من أشجع الفرسان وله فيه صولات وجولات يعجز عن وصفها البيان..
فقد شارك في الكثير من الميادين ورابط في الكثير من المواقع والجبهات وحتى من قبل العدوان فكان له شرف المشاركة في اقتحام الفرقة وغيرها الكثير..
وقد جاب مجاهداً الكثير من المحافظات مثل تعز ونهم والجوف ومارب وفي أراضينا المحتلة مثل جيزان ونجران والتي كان لها شرف احتضان دمائه الزكية الطاهرة..
كان محمد المشرف اللوجيستي على نجران.. لكن أهله لم يكونوا يعرفون ذلك، وكان من أقواله:الله يثبتنا.. الله يثبتنا.. عملنا لله وليس لأشخاص..
تحمّل الشهيد مسؤوليات كبيرة وهو لم يكن قد أكمل العشرين من عمره حينها..
وكان أهلاً وكفؤاً لها لحكمته وشجاعته ووعيه وإيمانه.. فكما كان بطلاً في ميادين القتال فقد كان أميناً شديد الحرص لدرجة أنه كان يقوم بتدوين كل ريال يتم صرفه ولو حتى على مستوى أبسط الأشياء..
إنَّ أكثر ما يميز الشهيد محمد هو أخلاقه التي كانت تأسر الألباب وتجعل كل من يعرفه يقف محتاراً لهذه الروح الطاهرة التي كأنها أتت من الجنة في زيارة قصيرة وسرعان ما عادت إليها فهناك.. ولا غير هناك مكانها..
لدرجة أنه كان بين جيزان ونجران عدد من البيوت للبدو والذين أحبوا محمداً وتعلقوا به وأعجبوا بأخلاقه العظيمة إعجاباً شديداً.. لم يكونوا يعرفون حينها أنه أحد المجاهدين الحوثيين الذين تم تشويه صورتهم في مخيلاتهم.!
كل ما يعرفونه أنه فتىً في غاية الإحترام وعلى درجة عالية من الأدب والأخلاق، لديه سيارة.. يقوم بزيارتهم باستمرار والإنفاق عليهم وتزويدهم بكل ما يستطيع..
حتى أنهم دعوه للغداء ذات مرة فاستجاب لهم على الرغم من تحذير بعض المجاهدين له ومحاولة ثنيه عن ذلك..
لكنه في الأخير حاول أن يبين لهم وأن يغير قناعاتهم..فذات مرة كان يمشي من جوارهم فوق الطقم ومعهم عرس فنزل وهو يرتدي اللباس العسكري ودخل وسلم عليهم وعلى العريس وهم في حالة من الذهول الشديد.!
فقد اكتشفوا أن ذلك الشاب العظيم هو أحد المقاتلين الحوثيين.!
لكن هذه الحقيقة التي صدمتهم كانت سبباً في انطلاقهم بعد ذلك وانخراطهم في صفوف المجاهدين، فقد انضم منهم خمسة أو أكثر من ذلك مع المجاهدين الصادقين ضد الظلم والطواغيت بعد استشهاده، وقالوا:والله أننا عرفنا الحق من وجهه..
فكانت أخلاقه وقيمه كافية لأن تهديهم وتدلهم على أن من هو مثل محمد لا يمكن إلا أن يكون مع الحق وفي صفه..
وكما كانت له مع المجد قصص فقد كان له مع الشهادة موَعدٌ..
ها هو محمد الذي شارك في الكثير من الاقتحامات والبطولات يقترب من تحقيق حلمه.. وهو من كان يقول لوالدته :ماذا قد قدمنا لدين الله.. الله المستعان يا أماه..
إذا حصل وأكرمني الله بالشهادة.. استقبلوني كأنكم تستقبلون خبراً طيباً من الله.. وكونوا من المستغفرين الحامدين الشاكرين.. الله يتقبلنا.. الله يثبتنا..
*عاش محسناً وارتقى إلى العلياء محسناً..
كان محمد يشارك في الاقتحامات والمواجهات في نجران وخلال ذلك يقوم بتفقد أولئك البدو في الصحراء كل يومين ويعطيهم كل ما يستطيع من الطعام والغذاء وما يقدر عليه..
لكنه هذه المرة كان مقبلا على عملية كبيرة وكان يخشى أن يتأخر عليهم، فأوصى بعضاً من أصدقائه بتفقدهم وتزويدهم بالطعام.. وظل أسبوعاً وقد كانت المواجهات على أشدها..
عاد محمد بعد الاسبوع من الفزعة ليكتشف أن من أوصاهم.. لم يقوموا بتفقدهم طيلة ذلك الاسبوع ولم يعطوهم شيئاً فشعر بقهر وألم كبير.. وتوجه من فوره إليهم وقد جلب لهم كل ما يستطيع من طعام وحاجيات ..
وتوجه مسرعاً إليهم وحال وصوله كان يدعو أحد أولئك البدو وهو لا يزال فوق الطقم.. تعال يا فلان وهو يضحك من كل قلبه.. تعال خذ حاجتك( وقد جلب له أيضاً شيئاً يحبه وهو يلوح له به )قبل أن يستشهد..
وما إن نطق بها.. حتى أقبلت الطائرة وقامت بالضرب عليه في نفس الوقت وافتدى محمد أحد أصدقائه بنفسه حيث قام بتغطيته بجسده فارتقت روحه الطاهرة إلى بارئها واستشهد معه ذلك البدوي وطفل وجرح أحد أصدقائه..
وكان استشهاده بتاريخ :8/10/2016م
وقد وجدوا في جيبه بعد استشهاده بطاقته وبعض الأوراق مع صورة الشعار وأربعين ريالاً  وهو من كان المشرف على منطقة نجران حينها..
وكما كان استشهاده استثنائياً فقد كان تشييعه مهيباً حضره كثيرون ممن يعرفونه.. والكثير من الشخصيات البارزة والدبلوماسية والضباط والكثير من الناس حتى أناس كانوا يعرفون بفكرهم الداعشي لكنهم كانوا يحبونه لأخلاقه ويتمنون أن يلتحق بهم بل ويدعون بأن يهتدي ليكون معهم، على حسب فهمهم للهداية.!
وتم قطع شارع السبعين بالطقومات ليحظى بشرف زفة ذلك الجثمان الطاهر وكان احتفالاً عظيماً زينه البرع والأهازيج الجميلة.. لينتقل جثمانه الطاهر أخيراً إلى جوار أصدقائه الذين كان يزورهم في روضة الشهداء ويفتقدهم كثيراً..
حزنت الأم لفراق ولدها الحبيب لكنها قالت :لأجل دين الله يرخص كل غالٍ وأشكر الله الذي وفقني بدفع ابني إلى ساحات الشرف والعزة بعد الرغبة والإصرار منه..
وأنّ هذه الدماء الطاهرة تعتبر وقود حرية ونصر، وأننا لا نربي أبناءنا على القيم والفضيلة إلا لإحياء وإعلاء كلمة الله وهذه هي المواقف التي تثبت إيمان المرء من عدمه.. والجهاد هو أحب الأعمال إلى الله وتنصح كل أم بأن تكون رافدا كبيرا لدفع ابنها لساحات الكرامة وصدق الله القائل :”أحياء عند ربهم يرزقون”
لن أكون أرحم بإبني من الله.. الرحمة للشهداء والشفاء للجرحى..
وتقول :ابني فاز.. وأعاهده بالمضي على دربه..
أما والده فيعاهد الله بدم الشهيد أنه سيمضي على دربه ولن يستكين وأنه سوف يلحق به..

قد يعجبك ايضا