شواهد شامخة في ترويض الطبيعة

*الإنسان و البيئة في اليمن
المقالح عبد الكريم

بخلاف بشر الحضارات الأخرى.. ما إن أخذ الإنسان اليمني كفايته من تأمل الجبال حتى كان قد وصل بتفكيره إلى أنجح السبل وأكفأ الطرق لمواجهة الجبال.. وعلى نحو يضمن تحقيق أهداف متعددة كان في مقدمتها هدفان على وجه التحديد.. وهما:
منطقيا: عدم مواجهة الجبال كخصم يجب إلحاق الضرر الأقصى بها.. لأن الجبال أكبر حجماً من محاولة نقلها وأكبر مساحة من تقطيعها لأوصال وقطع صغيرة أو متوسطة الحجم بحيث يسهل محوها تدريجياً والاستفادة من الأرض المستوية في سكن أو زراعة.
عملياً: ثمة استفادة عظمى من الجبال بحالتها الراهنة.. وبغض النظر عن ارتفاعها أو طولها أو حتى حجمها.. وذلك بالتكيف معها وتطويعها للاحتياجات اليومية سواء الدائمة أو المؤقتة.. وبما يخدم الإنسان ويساعده في أداء مهامه العملية خاصة الزراعية منها.
وهكذا وعلى نحو استثنائي وللمرة الأولى- ربما في التاريخ الإنساني- ساهمت الجبال في نشوء وازدهار حضارة عريقة في جنوب الجزيرة العربية عرفت باسم: العربية السعيدة.
مأوى بين الغيوم..!
عرف الإنسان اليمني أنماطاً عدة من المساكن.. ولعل آخرها هو الطين والحجر.. مساكن الطوب أو (الِلبْن).. أو مساكن تُعَلّى جدرانها من قطع الأحجار.. إما متشابهة أو مختلفة الأحجام.. والتي يتم تثبيتها ببعضها البعض عن طريق الطين المخلوط بالقش اليابس وروث الحيوانات.
وإذا كان الإنسان اليمني قد استوطن الجبال أيضاً.. وذلك على مستويين اثنين كالتالي:
المستوى الأول: (المغارات). وهي فكرة ربما تم استلهامها من الحيوانات.. ولعل السكن البدائي تم داخلها إلى أن بدأت المجموعات البشرية بصنع مغاراتها الخاصة بها.. وذلك كما هو موجود إلى اليوم في مناطق مختلفة من اليمن.. حيث تنتشر الكثير من المغارات والكهوف ما بين طبيعية ومنحوتة.. مثل مغارات جبال (حيطوم) بالمهرة.. والكهوف الموجودة في جبال جزيرة سقطرة ومقبنة في مدينة تعز.-المستوى الثاني: (تشييد المباني). لعل شهرة كثير من القرى اليمنية مستمدة من كونها متربعة على قمم الجبال.. مثل قرية القرن بالمحويت والهَجرة في حراز وصبر على جبل صبر.. إضافة إلى قرى كثيرة أغلبها ما تزال مغمورة مثل القرى الموجودة على جبال: أسبيل في ذمار- رداع في البيضاء وضبضب في مديرية الشحر بحضرموت.
ولا يتوقف الأمر عند حد مساكن الدنيا.. بل يتعداه إلى مساكن الآخرة.. وهو ما نجده في نموذج «القبور الصخرية» والتي نجد أكبر الأمثلة عليها في جبل شعيب بمديرية قطابر في محافظة صعدة.
تقنيات هندسية مبتكرة..!
(وفي البقعة الخضراء من أرض يحصب.. ثمانون سداً يقذف الماء سائلاً)
بيت شعري قديم.. يمكن اعتباره «شاهد عصر» وذلك بتوثيقه واحداً من مظاهر التدخلات البشرية في الطبيعة وهي صناعة السدود.. التي انتشرت- وتنتشر- في شتى أرجاء اليمن.. أما أشهرها تاريخياً فهو سد مأرب.. الذي قد يصل عمره إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام.
ورغم أن ثمة حضارات مثل الفرعونية والفارسية وحضارات ما بين النهرين عرفت السدود.. إلا إن الحضارة اليمنية تفوقت على غيرها في مجال بناء السدود وذلك من نقطة مميزة وعلامة فارقة.. عَدّها كثير من التاريخيين وعلماء الآثار والهندسة المعمارية على أن في ذلك دليل عبقرية خاصة.
إذ وبعيداً عن الوظيفة التقليدية للسدود- والتي عرفتها غالبية الحضارات- من حيث كونها مجرد خزانات مياه تحجز وتحفظ المياه يتم الاستفادة منها في مواسم الجفاف وانقطاع الأمطار.برعت الحضارة اليمنية- من خلال نموذجها الفريد: سد مأرب- في استحداث وظيفة مغايرة للسدود.. تمثلت بشبكة وقنوات الري الملحقة بالسدود.. الأمر الذين ساعد على نشوء وازدهار حضارة في قلب الصحراء.. وعلى غرار حضارات أخرى مثل الفرعونية التي قامت على ضفاف النيل العظيم.. وحضارات بلاد ما بين النهرين والتي استمدت استمراريتها التاريخية من نهري: دجلة والفرات.
وهكذا تحولت الصحراء إلى جنة شهد لها وتحدث عنها القرآن الكريم في قوله تعالى:( لقد كان لسبأ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم واشكرو اله بلدة طيبة ورب غفور ) سورة سبأ الآية (15)
وما كان هذا التحول ليحدث لولا التقنية المبتكرة التي نفذها اليمنيون الأوائل والمتمثلة بسد مأرب وقنوات الري.. وكل ذلك يعود فضله إلى تطويع المكان بما فيه وكل ما فيه بأسلوب ذكي وعلمي.. فوجود الجبلين المتقابلين: «بلق الأيمن» و»بلق الأيسر» أوحى للخبرة اليمنية ببناء حاجز/ سد بينهما.. لكن لم يكن ذلك كافياً.. فخزان عملاق يحفظ المياه فيه لا يفيد إلا بأقل القليل بسبب المسافة الشاسعة بينه وبين الأراضي التي يراد زراعتها واستصلاحها والعيش فيها وحولها.. وهكذا كان سد مأرب وبكل قنواته التي أشهرت الحضارة اليمنية.
وإذا ما اتجهنا جنوباً.. وتحديداً إلى عدن «ثغر اليمن».. فسنقع على تقنية هندسية أخرى في مجال حفظ الماء.. والمتمثلة بالصهاريج.. والتي تم بناؤها في موقع متميز وسط جبال الطويلة بعدن.
وثمة تقنية أخرى قام بها الإنسان الأول على الجبال.. وهي تقنية «الأنفاق».. كما هو الحال في نفق «بينون» في محافظة ذمار.. وقد ذكره الهمداني في «الإكليل» الجزء الثامن.. إضافة إلى «البغدتان»/ النفق الكبير والصغير في محافظة عدن.
وإذا شئنا ختم الحديث عن التقنيات الهندسية والتي برع بها أهل اليمن ونفذوها على الجبال فسنحط رحالنا- بالتأكيد- عند المدرجات الزراعية التي تنتشر في أغلب أرجاء اليمن.. إلا أن أشهرها موجود في محافظة: إب- تعز وصنعاء.

قد يعجبك ايضا