المدينة المسورة بين البقاء ومحاولات الشطب

أعد الملف/ محمد الفائق – بلقيس منصور
يد فأس قطع الشجرة مصنوع من جذعها ، وتلك حال آثار الحضارة اليمنية ومدنها الأثرية والتاريخية التي تتعرض بجانب عاديات الزمن واستهداف العدوان الى عبث وتشويه ونهب من الإنسان اليمني نفسه.
من ذلك .. صنعاء القديمة الجوهرة الفريدة والتحفة النفيسة ، يطاولها من جديد تهديدات العبث والتشويه .. تارة بحثا عن آثار أو كنز ! … وتارة توسيعا لسكن أو تجارة من دون الأخذ بعين الاعتبار ماذا تعني هذه المدينة وماذا يعني العبث بها؟!!
في هذا التحقيق نزيح الستار عن هذا العدوان في مواجهة مع المسؤولين لنتبين حدود دائرة الخطر المحدق بمدينة صنعاء القديمة وأسباب اتساعها:
تاريخ بناء المدينة
تصنف مدينة صنعاء القديمة متحفا مفتوحا نادرا ونفيسا للتاريخ والآثار والتراث الإنساني ، وتعد من أقدم المدن العربية والإسلامية وأنفسها قاطبة ، معمارا وجمالا.
عرفت المدينة في الآثار عاصمة مركزية للدولة اليمنية وقصرها ” غمدان” بجانب صرواح عاصمة الدولة السبئيىة وقصر حكمها ” سلحين”، وظفار يريم عاصمة الدولة الحميرية وقصر حكمها ” ريدان”
نفائس المدينة
يرجع تاريخ بناء مدينة صنعاء القديمة الى ما قبل 4500 عام على الأقل وفقا للآثار المكتشفة حتى الآن ، ويحيط بها سور عال جدا له 9 أبواب أبرزها باب اليمن وباب السبح وباب شعوب وباب ستران وباب خزيمة وباب الشقاديف.
تضم المدينة نحو 6 آلاف و800 منزل أقدمها عمر عمارته يتجاوز 500 عام وتتوزع على 70 حارة منها حارة القصر والابهر والباشا والطبري ، ومعمر والفليحي و فيها 45 سوقا تاريخيا متخصصة ابرزها سوق الملح وسوق الزمر وسوق المحدادة والمنجارة والمسباغة وسوق العرج وسوق البقر ونحو 40 بستانا أو مقشامة منها مقشامة موسى ، بروم ، معاذ ، الوشلي، التقوى، و106 مساجد أبرزها الجامع الكبير أول مسجد في اليمن وثالث مساجد الإسلام بعد مسجد قباء والمسجد النبوي بني في السنة السادسة للهجرة بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وجامع الإمام علي عليه السلام وجامع الفليحي وجامع الابهر وجامع البكيرية وقبة المهدي، وجامع المتوكل، و16 سمسرة منها سمسرة وردة، الميزان، النحاس ، الحب، الزبيب.، و18 حماما بخاريا أقدمها حمام سبأ الذي يرجع الى ما قبل الميلاد وحمام السلطان، شكر، الطواشي، ياسر، الميدان.
العبث والتشوهات
طال التشويه طابع مدينة صنعاء القديمة المعماري الفريد بفعل استحداثات يقوم بها المواطنون في عمليات البناء أو الترميم أو الهدم من دون مراعاة النسق الحضاري الموحد الذي تتميز به صنعاء القديمة كتحفة عربية وإسلامية أصيلة ذات مستوى فني رفيع مزج بين الفن والجمال المعماري.
ولأن مدينة صنعاء القديمة تمثل شاهدا أثريا حضاريا وجامعا تراثيا حيا واستمراراً هاماً للقيم الثقافية والتاريخية ورمزاً لبقائها حية كعاصمة تاريخية لليمن الحديث ، فقد صدرت قرارات عديدة تهدف إلى حمايتها وكان منها القرار الصادر عام (1984م ) الخاص بإنشاء لجنة للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة وتحسينها.
كان من أهم مهام هذه اللجنة العمل على وقف مظاهر التدهور والتشوه والانهيارات واستعادة حيويتها وجمالها ثم تطورت اللجنة إلى هيئة عامة للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة ثم إلى هيئة عامة للحفاظ على المدن التاريخية.
تراث عالمي
ونظراً لمكانتها في التراث العالمي الإنساني تبنت المنظمة الدولية للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) حملة دولية لحماية وتحسين مدينة صنعاء القديمة والحفاظ على معالمها وطابعها المعماري الفريد وتطوير الخدمات وإبراز التراث الحضاري فيها ، فقد أتخذ المؤتمر العام لليونسكو في دورته المنعقدة في بلجراد عام ( 1980م )، قراراً يشمل قيام حملة دولية لصيانة مدينة صنعاء القديمة وتم في 1986م إدراجها ضمن قائمة التراث العالمي.
مخالفات مستمرة
غير أن كل ذلك لم يكن كافيا لكبح التهديدات المحدقة بمدينة صنعاء التاريخية وصون طرازها المعماري وطابعها الحضاري من عاديات الزمن وعبث الإنسان، إذ سجلت الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية أكثر من 150 مخالفة واستحداث وأعمال تشويه خلال خمسة أعوام ماضية.
رئيس الهيئة محمد فارس قال لنا: إن هناك مخالفات مخيفة وكثيرة تتنوع مابين الهدم والتشوه والاستحداثات الى جانب الدمار والاضرار الكبيرة الناجمة عن غارات العدوان ، وأضاف ” هناك عوائق عدة تواجه عمل الهيئة في الحفاظ على مدينة صنعاء القديمة والحد من تلك المخالفات أبرزها عدم استجابة الجهات الضبطية لمنع أي مخالفات.
فارس أشار إلى أن هيئة الحفاظ على المدن التاريخية تعد جهة فنية وتعمل على رصد المخالفات ورفعها للجهات المختصة الأمنية والقضائية والمجلس المحلي بصنعاء القديمة في تقرير خطي ومصور حتى يتم اصدار أوامر الضبط للمخالفين أو أوامر الإزالة للاستحداثات ، ومن ثم يتم مخاطبة المديرية لإزالة الحالات التي صدر بها أمر إزالة من النيابة.
إهمال وتجاهل
رئيس الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية محمد فارس أكد وجود العشرات من المخالفات التي تم رصدها منذ العام 2016م ، إلا ان خطاباتنا ومذكراتنا الرسمية لا تلقى أي تجاوب أو تفاعل حسب قوله .
و حمل المسؤولية شركاء أساسيين للهيئة، هم : وزارات الداخلية والثقافة والسياحة والمالية والإدارة المحلية، وأمانة العاصمة ومديرية صنعاء القديمة والمجالس المحلية، لافتا الى انه تم مخاطبتهم جميعهم وبعضهم تم مخاطبتهم أكثر من 7 خطابات ومذكرات رسمية ولكن لا مجيب.
جرائم النبش
ذلك جزء من الضرر الذي لحق بمدينة سام بن نوح، وهناك ما يضاف الى جانب العبث والتشويه من خلال قيام بعض المواطنين بالحفريات داخل منازل ومعالم المدينة بحثا عن الآثار والمقتنيات الحميرية والسبئية، خصوصا بجوار المساجد أو المنازل الكبيرة.
يبدي رئيس الهيئة العامة للآثار والمتاحف مهند السياني استياءه من قيام بعض المواطنين بالحفر والبحث عن الآثار ..ويؤكد انه من الغريب ان يعمد أبناء اليمن على تخريب وهدم مقتنياتهم الثمينة بأيديهم ، معتبرا انها جرائم يندى لها الجبين تضر بصنعاء القديمة وبمنازلها.
السياني كشف لنا عن ضبط اكثر من 15 مخالفة خلال شهر واحد وتم إرسال المتورطين فيها مع وثائق الإدانة الى النيابة.
وأكد السياني وجود خطة أمنية مشتركة مع أمانة العاصمة والسلطة المحلية وأجهزة الأمن لضبط وإيقاف أي عمليات تخريب أو نبش داخل المدينة التاريخية.
إحالات للقضاء
من جانبه يقول مقرر اللجنة العليا للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة الاستاذ مطهر تقي: للأسف الشديد هناك أياد آثمة ارتكبت مخالفات جسيمة وصل عددها خلال عامي 2016، 2017 الى 50 مخالفة ملفاتها القانونية لدى نيابة الآثار ، وهي مخالفات بناء بالاسمنت ، هدم منازل واستبدالها بمبان لا تتوافق مع طابع المدينة وغيرها من المخالفات.
خطورة كبيرة
يؤكد تقي أن صنعاء القديمة تعرضت في العام 2017م لأعمال حفريات في بعض الأماكن الحساسة وخصوصا جوار الجامع الكبير للبحث في باطن الأرض عن كنوز وآثار.
وفي حين يؤكد تقي أن تلك الحفريات تشكل خطورة كبيرة على مساكن صنعاء القديمة ، يشدد على ضرورة اتخاذ إجراءات صارمة لمعاقبة المخالفين ومن قام بتلك الحفريات الى جانب ردم تلك الحفريات بطريقة علمية من قبل مختصين.
ويشير الى وجود مخاطر كبيرة تتمثل في زحف الأسواق التجارية على الأحياء السكنية خصوصا من الناحية الجنوبية للمدينة، وهو ما يؤثر على طابعها الثقافي.
عامان إضافيان
كل ما سلف آثار ويثير حفيظة المهتمين والغيورين على الآثار الحضارية والتراث الإنساني الفريد في اليمن عموما ومدينة صنعاء التاريخية خصوصا، بما فيها منظمة اليونسكو التي لوحت مرارا في سبيل الضغط على الجهات المعنية بشطب مدينتي صنعاء وزبيد من قائمة التراث العالمي في حال استمرت مخالفات طمس طابعها المعماري وهويتها الحضارية.
في هذا الشأن يؤكد مقرر اللجنة العليا للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة مطهر تقي التواصل مع اليونسكو ويقول :”خلال العام الماضي 2017م ، وكذلك في فبراير 2018م قامت وزارة الثقافة ممثلة بالوزير الاستاذ عبدالله الكبسي بالتواصل مع منظمة اليونيسكو والمشاركة بتقرير شامل عن المدن التاريخية صنعاء القديمة وزبيد وشبام حضرموت ، ويضيف تقي :” على ضوء التقرير منحت اليونيسكو اليمن مهلة عامين اضافيين لمنع شطب مدينتي زبيد وصنعاء القديمة من قائمة التراث العالمي” .. مشددا على ” ضرورة دعم الهيئة العامة للحفاظ على المدن التاريخية حتى تقوم بواجباتها وتجاوز وضعها المالي الصعب ، كذلك يجب على كافة الجهات ذات العلاقة القيام بدورها الوطني “.
ندوة وطنية
مطهر تقي الذي يرأس أيضا الهيئة الأهلية للحفاظ على صنعاء القديمة أكد لنا ان المدينة بحاجة الى رعاية وتحرك جاد من جميع الجهات ذات العلاقة.
كاشفا لنا عن استعدادات تجري حاليا لإقامة ندوة وطنية تناقش آلية الحفاظ على المدينة وبجهود دولة رئيس مجلس الوزراء رئيس اللجنة العليا للحفاظ على صنعاء القديمة الدكتور عبدالعزيز بن حبتور ونائب رئيس اللجنة الأستاذ احمد حامد مدير مكتب رئاسة الجمهورية ووزير الثقافة الأستاذ عبدالله الكبسي رئيس اللجنة التنفيذية وأمين العاصمة حمود عباد ، يضيف تقي :” من مهمات اللجنة الوقوف على الوضع الحالي لمدينة صنعاء القديمة والخروج من الندوة المقرر ان تعقد بداية ابريل المقبل بقرارات وتوصيات تشخص الوضع وتطرح الحلول الكفيلة بالحفاظ على المدينة والحد من أي تشوهات تطالها.
تقي في ختام حديثه معنا اعتبر ان الاعتداء على مدننا التاريخية لا يقل جرما عن الاعتداء على سيادة الوطن.
وناشد الجهات ذات العلاقة والرسمية ومنظمات المجتمع المدني ومثقفي اليمن ورأس المال الوطني ان يسهموا في الحفاظ على هذه المدينة.
تفعيل دور الجهات
رئيس اللجنة التنفيذية للجنة العليا للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة الأستاذ عبدالله الكبسي وزير الثقافة أكد وجود إجراءات صارمة لحماية معالم صنعاء القديمة ومعالجة كل التجاوزات والمخالفات التي تشوه معالمها وطابعها التاريخي المميز، والحد منها، إلى جانب تفعيل دور كل جهة ذات العلاقة لتحمل مسؤولياتها تجاه صنعاء القديمة والحفاظ عليها.
حرص القيادة
يتأكد هذا التوجه بمعرفة جدية قيادة البلاد في التعامل مع هذا الملف ، ذلك ما أكده مدير مكتب رئاسة الجمهورية الأستاذ احمد حامد نائب رئيس اللجنة العليا للحفاظ على مدينة صنعاء القديمة .
حامد أكد حرص القيادة السياسية على حماية صنعاء القديمة من كافة أشكال العبث والتشويه لطابعها المعماري الفريد وبقائها في قائمة التراث العالمي.
وشدد خلال ترؤسه اجتماعا ضم نائب رئيس الوزراء وزير المالية الدكتور حسين مقبولي ووزير الداخلية وأمين العاصمة ورئيس هيئة الحفاظ على المدن التاريخية، على ضرورة اتخاذ الإجراءات للحد من المخالفات وأعمال التشويه لأبنية صنعاء القديمة وطابعها المعماري المتميز.
مدير مكتب رئاسة الجمهورية حث في الاجتماع على التنسيق بين أمانة العاصمة والجهات المعنية لرصد المخالفات ومنعها في إطار القانون بهدف حماية مدينة صنعاء القديمة والحفاظ على معالمها وطابعها المعماري، إلى جانب الاستمرار في النزول الميداني ورصد أي مخالفات واتخاذ الإجراءات بما يضمن الحفاظ على المدينة القديمة ونسيج أبنيتها الذي جمع بين الفن والجمال المعماري.
رهان أكبر
يبقى الرهان الأكبر على الوعي المجتمعي بمكانة صنعاء القديمة وتبقى الضوابط والإجراءات القانونية هي كلمة الفصل للحد من هذا العبث اذا ما قامت كل جهة بمسؤولياتها الوطنية بكل تفان وإخلاص ما لم فإن اليمن سيخسر تحفة نفيسة من تحف حضارته وتراثه الفريد وسيكون شطب مدينة صنعاء القديمة من قائمة التراث العالمي لعنة تلاحق الجميع.

قد يعجبك ايضا