فرنسا والاحتلال الاسرائيلي “زواج سري”

الثورة نت|وكالات..

 

لولا «ثرثرة» ضابط إسرائيلي أمام مراسل لوكالة الصحافة الفرنسية، ما كان لأحد أن يدري بما فعله بحارة إسرائيليون وفرنسيون بينما كان حزيران يطوي آخر أيامه، وذلك فوق مياه الأبيض المتوسط. الفرنسيون لا يميلون بالسليقة إلى الحديث عن التعاون العسكري، خصوصاً عندما يتعلق الأمر “مايسمى” بإسرائيل التي لم يعد العسكر الفرنسي، علناً ورسمياً، إلى التعاون مع عسكرها منذ نصف قرن

يعمد الإسرائيليون إلى تولي الأمر بأنفسهم في ما يخص إفشاء ما يحرص الفرنسيون على إخفائه، ولا سيما أنها ليست المرة الأولى التي يلعب فيها الإسرائيلي والفرنسي لعبة المناورات والتعاون العسكري، من خلف ظهر أساطير «التمرد» الفرنسي على “مايسمى” إسرائيل منذ حرب حزيران ١٩٦٧، التي لم تعمر طويلاً، على ما يقوله لـ«الأخبار»باتريس بوفريه، وهو رئيس مرصد التسلح في فرنسا.

المناورة البحرية فتحت لطرادين إسرائيليين مراسي قاعدة «تولون» الفرنسية لمدة أسبوع. إيلي شافيت، وهو قائد البحرية الإسرائيلية، شارك في يومي المناورات مع فرقاطة «لافاييت» الفرنسية وطراديه في تدريبات كانت تحاكي هجوماً غيرَ متوازٍ، كانت تنفذه زوارق سريعة ضد سفينة كبيرة في عرض البحر. وجرى اختبار الاتصالات بين البحريتين، كجزء من التدريبات لشنّ هجمات مشتركة في المستقبل. وتقول مصادر فرنسية إن التقارب العسكري مع “مايسمى” إسرائيل أمر يدفع به وزير الخارجية (وزير الدفاع السابق) جان ايف لودريان، ومستشاره جان-كلود ماليه.
لا يجد التعاون العسكري الإسرائيلي – الفرنسي الكثير من يتبرع في الكلام رسمياً عنه في باريس، لأنه يتقدم في الظل في كل المجالات العسكرية والتكنولوجية والأمنية. التقليد خرقه لودريان عندما تحدث قبل عامين، لما كان وزيراً للدفاع، عن مناورات جوية إسرائيلية -فرنسية مشتركة في كورسيكا عام ٢٠١٦، خلال مساءلة أمام مجلس النواب. ولولا فضول مجموعة منهم، لشيعت هي الأخرى إلى مدفن أسرار الجمهورية الفرنسية.
باتريس بوفريه خصّ هذا التعاون بتقرير اعتبره كاسراً للصمت الذي يحاط به كل حدث عسكري إسرائيلي – فرنسي. «الكلام الفرنسي في التعاون العسكري مع “مايسمى” إسرائيل قليل جداً، لأن الأمر لا يمر بسهولة لدى الرأي العام الفرنسي، هناك مخاوف حقيقية من ردود فعل سلبية. وكلما ارتفعت وتيرة هذا التعاون، ندرت الكلمات والأبحاث عنه. ومن المفارقات أن”مايسمى” إسرائيل هي من يتحدث عنه، لحاجتها إلى إبراز وجود تعاون قوي مع الدول الغربية».
لا ينبغي البحث عن أرقام أو اتفاقات كبيرة يمكن أن تجعل من هذا التعاون اليوم استعادة لعلاقات استراتيجية إسرائيلية – فرنسية في المشرق العربي، وفي مواجهة المشروع الناصري، عندما طوّر الفرنسيون قنبلتهم النووية الأولى بمساعدة علماء إسرائيليين شاركوا في مشروع «مانهاتن» الأميركي. طوّرت الولايات المتحدة معهم خلال الحرب العالمية الثانية، بمشاركة علماء نازيين ألمان، النار الذرية التي أحرقت بها للمرة الأولى في تاريخ البشرية هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين. وهو تعاون عميق واستراتيجي جعل فرنسا و”مايسمى” إسرائيل تحصلان في وقت متقارب على قنبلتهما الذرية الأولى، «وجعل فرنسا حليفاً يزود “مايسمى” إسرائيل بمفاعل ديمونا النووي، أو يتنازل لها عن منظومة صواريخ أريحا مجاناً، أو ينقل علماءها ومهندسيها، الذين لم تتوافر لهم المساحة الكافية لاختبار قنبلتهم الذرية الأولى في فلسطين المحتلة إلى منشأته في الصحراء الجزائرية، ويتقاسم معهم تجاربه في قلب الصحراء فوق الأرض، لمساعدة “مايسمى” إسرائيل على تطوير صواريخها النووية».
بوفريه يرى أيضاً أن «التعاون الحالي يعمل في الاتجاهين، يستفيد منه البلدان، خصوصاً في ميادين التكنولوجيا العسكرية والفضاء ورصد الأرض، وتوجيه وقيادة الأسلحة النووية والصواريخ من الفضاء، والطائرات من دون طيار، والذكاء الاصطناعي، ومراقبة المدن وحمايتها… هذا التعاون لم يعد يدور في ميادين الصفقات، بل يقتصر على تطوير تكنولوجيات مشتركة في الميدان العسكري».

الاهتمام الفرنسي بالنموذج الإسرائيلي انتابته نزعة إعجاب وهيام

لا يمكن الركون إلى الأرقام لتقييم حجم التعاون بين “مايسمى” إسرائيل وفرنسا؛ «٢٠ مليون يورو سنوياً منذ عشرة أعوام، وهو رقم شديد التواضع ولا يعني شيئاً، ولا يعكس حجم العلاقات بين البلدين، لأنه يقتصر على الصفقات التي ترد على لائحة مبيعات الأسلحة الفرنسية ومن ينشر عنها سنوياً. ولكن الارقام الفعلية تتعلق بالتعاون التكنولوجي، وهي أرقام لا يمكن العثور عليها ولا تنشر عادة. نحن نتحدث عن مكونات أساسية تدخل في تركيب الصواريخ وليس الترانزستور. ففي العدوان الأخير على غزة، وجدت مكونات في بقايا الصواريخ صنعتها شركة EXXELIA الفرنسية. الشركة لا تصدر هذه المكونات إلا بموافقة مسبقة من الدولة التي تعرف تماماً وجهة استخدامها، وهذا يجعلنا شركاء في الجرائم التي ترتكبها إسرائيل».
الحيّز السري الآخر للتعاون هو صناعات الطيران، فـالشركات الفرنسية لا تنشر شيئاً محدداً عمّا تبيعه إلى إسرائيل، بل تتكتّم على نشاطاتها. استطعنا رصد التعاون بين “مايسمى” إسرائيل وEADS، الشركة الأوروبية لصناعات الفضاء والدفاع الجوي، وبين شركة SAFRAN SAGEM لصناعات الدفاع والإلكترونيات، وهي أضخم الشركات في ميدان الإلكترونيات العسكرية في أوروبا».
المنعطف في التعاون مع “مايسمى” إسرائيل بدأ مع وصول الرئيس نيكولا ساركوزي إلى الإليزيه عام ٢٠٠٧. ومعه خرج إلى العلن الحديث عن «أسرلة مكافحة الإرهاب»، ومديح الإنجازات التي حققتها الأجهزة الإسرائيلية في مواجهة الفلسطينيين. تحول المفهوم إلى دعوة فرنسية في أوساط الأمن أولاً، والدولة، والإدارات في المدن، إلى اتخاذ “مايسمى” إسرائيل نموذجاً في مكافحة الإرهاب، خصوصاً بعد صدمة الهجمات الدامية التي نفذها «داعش» في باريس ٢٠١٥، ونيس ٢٠١٦.
ذهب بعض البلديات إلى إسرائيل، وطلب خدمات استشارية من شركات أمنية إسرائيلية. مدينة كان قد تبنّت خطة لحماية مهرجانها السينمائي السنوي، وضعها الجنرال الإسرائيلي نيتزان نورييل الذي أدار مكتب مكافحة الارهاب في رئاسة الوزراء الإسرائيلية من ٢٠٠٧ إلى ٢٠١٠. وتولت مجموعة «لوتان» الإسرائيلية تقديم خطة أمنية لمدينة نيس لمواجهة التهديدات الإرهابية، ودربت عشرات عناصر الشرطة البلدية على ذلك.
من بين التصريحات النادرة التي تبين وجود تعاون جدي ما قاله ديدييه لوبريه، وهو المنسق الوطني السابق للاستخبارات الفرنسية عن الأجهزة الإسرائيلية، عن أنها «جهاز صديق». ما قاله دافيد سكولي، المدير المركزي لشرطة الحدود في فرنسا، يذهب في الاتجاه نفسه، وهو أن مدرسة الأمن الإسرائيلي تحولت إلى سلعة يجري تصديرها من دون حدود إلى فرنسا وازدهر سوقها: «لقد استعنا بخبرات إسرائيلية لتطوير تدريب خبرائنا في السلوكيات». وفي معرض المديح، لم يكن برنار باجوليه، وهو مدير المخابرات الخارجية، أقل دقة من سابقيه في الحديث عن التعاون مع إسرائيل، ولو جاء مقتضباً. قال باجوليه: «تعاوننا مع “مايسمى” إسرائيل مهني جداً خصوصاً في مجالات شديدة الحساسية».
الاهتمام الفرنسي بالنموذج الأمني الإسرائيلي انتابته نزعة إعجاب وهيام تتجاوز السياسي والأمني. وقد كلفت لجنة الدفاع الوطني في مجلس النواب الفرنسي مجموعة منه بالذهاب إلى إسرائيل، ودراسة استخدام القوات المسلحة في الأمن الداخلي. حرّر العائدان من الجولة الدراسية، اوليفييه اوديبر تراون وكريستوف ليونار، تقريراً عن الإجراءات الإسرائيلية لحماية أمنها، يلحظ استناداً نسبياً إلى وحدات الجيش، لكنه يستند أكثر إلى وحدات من الشرطة فائقة العسكرة، وعلى انتشار واسع للسلاح في أوساط المدنيين. ورغم عدم تبنّيهما بالكامل الاستراتيجية الإسرائيلية في الأمن الداخلي، فمن الواضح أنها تركت تأثيراً كبيراً في نظرتهما إلى الموضوع، جراء مطالبتهما بعسكرة متزايدة لمكافحة الإرهاب في فرنسا.
التعاون الاستخباري هو الآخر بطيبعته ميدان الأسرار الكبرى بين البلدين، لأن الدول ليست مجبرة على الكشف عن نشاطات أجهزتها أمام الرأي العام. ورصد باتريس بوفريه «عمليات كثيرة تعاونت فيها الأجهزة الإسرائيلية والفرنسية ضد إيران، وضد سوريا، وفي ميدان انتشار الأسلحة الكيميائية والنووية». وحدها عملية «راتافيا» ضد السوريين خرجت إلى العلن، ليس لأنها توّجت بالفشل، بل لأن الإسرائيليين بعد أن شاركوا الفرنسيين الإيقاع في باريس بتقني سوري يعمل في البرنامج الكيميائي السوري، حاولوا اختراق الأجهزة الفرنسية التي تعاونوا معها، بتجنيد الضباط الفرنسيين الذين عملوا معهم في صفوف «الموساد»!
إذن، هل يمكن الحديث عن محور باريس “مايسمى” ــ تل أبيب؟ «يمكن طبعاً الحديث عن محور باريس ــ “مايسمى” تل أبيب سياسياً بالدرجة الأولى، علماً بأن هذين البلدين يطوران مكانتيهما في العالم بالاستناد أساساً إلى قدرتيهما العسكرية. “مايسمى”إسرائيل وفرنسا تتنافسان وتتعاونان في مجرى العلاقة المزدوجة بينهما؛ فرنسا تحاول تحديث آلتها العسكرية وتكييفها مع أشكال الحرب الجديدة التي أصبحت حرباً غير متوازية، بينما ترى أن”مايسمى” إسرائيل قد تقدمت تكنولوجياً في هذا المجال، وتطمح فرنسا إلى الاستفادة من التقدم الإسرائيلي، وهذه هي الدوافع الفرنسية للتقارب. وبالنسبة إلى “مايسمى” إسرائيل، التعاون مع فرنسا هو دليل على حاجة الغرب إليها لمواجهة التحديات المشتركة».

قد يعجبك ايضا