“الطب البديل” بين الشعوذة وانفلات الممارسة

مراكزه بلا ضوابط أو رقابة ويغلب على ممارسيه الدجل والنصب:

■ الصحة: لم نرخص لأي مركز لانعدام القانون.. والتداوي بالأعشاب يشترط دراية علمية
الترويج للخرافات في القنوات الفضائية والإذاعات خطر يفتك بالمجتمع
الفقر والجهل والمرض يقود الضحايا لخسارة صحتهم وأرواحهم ولا حماية
مراكز التداوي بالأعشاب ترتكب مخالفات وجرائم.. وقانون للطب البديل حبيس الأدراج
تحقيق / سارة الصعفاني
لا يوجد مجتمع بدون خرافات وفرق شاسع بين أن يؤمن مجتمع ما بالخرافات وبين أن تجد نفسك غريقاً تستنجد بقشة أمل بعد أن طال بحثك عن الشفاء في أروقة المستشفيات والعيادات والصيدليات أو مُعدماً ليس بإمكانك تحمل تكاليف التداوي، وان ترتاد أماكن الخرافات والشعوذة وبيع الأوهام لتتدهور حالتك الصحية وتفارق روحك جسدك.. هي مأساة أن لا نجد قانوناً للطب البديل وأن يصبح الإعلام مروّجاً للخرافات والعاهات ، وأن نرى مراكز التداوي بالأعشاب والقرآن تتكاثر كأرانب دون أن يكون لوزارتي الصحة والأوقاف وحتى وزارة الصناعة والتجارة أي علاقة بها..!
مُعدم بائس يظنُ نفسه أحد ضحايا الحسد، مصاب باضطرابات نفسية يعالجها مشعوذ يشبه السحرة في مسلسلٍ تاريخي بالحرق والضرب والقيود وشرب حساء “دافر العفريت مع قرن الخرتيت” ليخرج الجن منه، وأشعثٌ أغبرٌ وحيد لم يعلم بموته أحد صار صاحب الكرامات.
جدران على امتدادها تغطيها شهادات صياغتها ومضمونها يثير الشكوك أغلبها يحمل التوقيع ذاته، في حين يصعب على البسطاء التأكد من صحتها، سير ذاتية عجيبة طبيب حاصل على “ دكتوراه عليا من الجامعة “ وسرد أمراض لم يصب بها إنسان ولم تُكتشف بعد كميل المعدة وحرارتها وبرودتها تروج لها قنوات إذاعية وتلفزيونية صفراء كأوراق خريف تتساقط أنشئت للتكسب، وإقبال كبير نتيجة الثالوث القاتل: جهل .. فقر.. مرض.
زواج مشعوذ
جنات فتاة لا يتجاوز عمرها الـ 16 عاماً تزوجت من مشعوذ لإنقاذها من الجن والمأساة كما يرويها أحد أطباء مستشفى الثورة بصنعاء – فضّل عدم ذكر اسمه – أن إحدى الفتيات جاءت قبل عامين تعاني من التهاب وتضخم في الغدة الدرقية بشكل ورم في الرقبة وخشونة في الصوت وعصبية وهزال وصحة منهكة لكن الأهل لم يتعاملوا مع حالتها كمرض جسدي ولم يعرضوها على الأطباء بل أخذوها إلى مشعوذ ليعرفوا من يريد إيذاءها بالسحر لعلاجها، وكعادة المشعوذين أخبروهم أن جنيّاً مؤذياً خشن الصوت دخل جسدها بدليل صوتها الخشن وانفعالاتها ويرفض مغادرتها ، وعلاجها الوحيد أن يتزوجها هو ليطرد الجني بنفسه!
هروب الجن
يقول الطبيب إن تغير صوتها كان ناتجاً عن ضغط الغدة الدرقية على الحبال الصوتية بعد تورمها، وأن انفعالاتها غير المعتادة سببها زيادة هرمونات الغدة لكن الجهل والتخلف تسببا في تأزمها نفسياً وتدهور حالتها بدلاً من علاجها.. وبعد اليأس من المشعوذ وتركه لها جاءوا بها للمستشفى فتماثلت للشفاء سريعاً والصدمة أن الأب قال مستنتجاً: إذن الجن يهربون من الأطباء !
تدليك قاتل
الطفلة بثينة هي الأخرى إحدى ضحايا الخرافات فقد أصيبت بشلل نصفي عندما كانت في الخامسة من عمرها بعد العبث بالحبل الشوكي أثناء محاولات أمها إزالته بالتدليك والأعشاب .. بنبرة حزن تخفي وجعاً قالت جدتها : منذ ولادة بثينة كان هناك بروز صغير لكننا لم نكن نعرف شيئاً عن مشكلتها كنا نعتقد أن بإمكاننا إزالته بالطب الشعبي لنكتشف لاحقاً أننا تسببنا بإعاقتها بشلل نصفي حيث كان ما عبثنا به جزءاً من عمودها الفقري لتفارق الحياة بعد عامين، قتلناها دون أن نعي.
عقاقير نصب
فاطمة إحدى ضحايا رغبتها في معالجة مشكلة تساقط الشعر، ذهبت لاقتناء ما أعلن عنه شخص يداوي بالأعشاب في أحد الإذاعات بعد أن استفادت من ‘ خلطة تبييض ‘ لتجد أنها في ‘ طارود ‘ مظلم ينتهي بشخص يتحدث بتلعثم ماضغاً القات بشراهة تبعث على الغثيان ليخبرها أن “ثمن القنينة 20 ألفاً تستخدم ما فيها مرة أسبوعياً عشر مرات” فتدفع المبلغ خوفاً و رغبة لتصدم لاحقاً أن ما استخدمه لم يكن دواءً لمشكلتها بل زيتاً بالأعشاب عادياً.
رجل طليق
“م. ن” أحد من يمتلكون مركز تداوي بالأعشاب يدعي أنه يعالج أمراضاً مستعصية عجزت أمريكا والصين وروسيا عن علاجها، وأنه حاصل على” دكتوراه عليا “ من جامعات من وحي الخيال ومتباهياً بعلاجه شخصيات اجتماعية “العقيد الركن والوكيل والشيوخ” داعياً جميع المرضى إلى سرعة التوجه لتناول الأعشاب السحرية في عياداته بمن فيهم من تستدعي حالتهم الصحية إجراء عمليات جراحية.
انعدام الحماية
مؤسفٌ حقاً أن نعود قروناً إلى الوراء .. وأن نعيش خارج الزمن .. وأن يكون بيننا من لا يزال يؤمن بالخرافات والدخان الرخيص .. وأن لا يكون هناك قانون للطب البديل ولا منع لهؤلاء العابثين بصحة الناس المستنزفين لأموالهم انتهاءً بإزهاق الأرواح.. مأساة أن يصبح الإعلامُ مروجاً للدجالين والمشعوذين ، وتكتفي الحكومات المتعاقبة بالفرجة فالقانون لا يحمي المغفلين.
طقوس شعوذة
بدأت الخرافات منذ أن وجد الإنسان ومخاوفه لكن ما حدث في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي ظل عالقاً في أذهان اليمنيين حيث انتشرت تسجيلات شيوخ قيل أنها صراخ موتى يتعذبون في القبور ولأسباب مضحكة، وحوارات دجالين مع جني يعيش بداخل إنسان لتزدهر دكاكين شعوذة طرد الجن بالرقية الشرعية والأعشاب والقيود وحرق الشعر وجلد الأفاعي وكل صنوف التعذيب النفسي والجسدي وسط أجواء من البخور المحترق وصيحات “ اخرج يا عدو الله “ فيصرخ المريض وجعاً وخوفاً وقهراً “ لقد آمنت “ قبل أن يفقد وعيه إن لم تغادر روحه جسده!!.
ما سبق ليس مجرد ماضٍ بل أن المأساة انتشرت في واقع كارثي لتغدو مراكز ما يسمى “التداوي بالطب البديل التكميلي” هي الواجهة المعاصرة لبيوت التداوي بالأعشاب والقرآن التي لم تختف.
عجز وزارات
“الثورة” التقت مدير الإدارة العامة للمنشآت الطبية الخاصة في وزارة الصحة العامة والسكان د/محمد نعمان لتسأل عن دورهم في الرقابة على مراكز الطب البديل حيث قال : لم تعط وزارة الصحة أحداً تصريحاً رسمياً تحت قانون منشآت علاجية أو ترخيصاً لمزاولة مهنة مداوة الناس بالأعشاب .. وليس بإمكانها الإشراف أو اتخاذ إجراء قانوني ضدهم إذ ليس هناك قانون حتى اليوم يحكم الطب البديل، كل المراكز المنتشرة على امتداد بلادنا عشوائية مخالفة لا علاقة لنا في وزارة الصحة بها ولا يمكننا أن نسميها غير قانونية دون أن يكون هناك قانون نحتكم إليه .. في عام 2009م شكلنا لجنة لإقرار مشروع قانون للطب البديل ورفعنا مسودة القانون لرئاسة الوزراء، ومن حينها ننتظر صدور القانون.
وعن دور وزارة الأوقاف أكد إداريون هناك أن الإشراف على مراكز التداوي بالرقية الشرعية ليس من اختصاصات ومهام الوزارة بل أن العلاج بالقرآن هو محل خلاف فقهاء الدين، وأن أغلب هذه المراكز هي بيوت تعارف الناس عليها ليس بالإمكان اقتحامها دون إذن من النيابة.
فاعلية مشروطة
هذا وتشير تقديرات منظمة الصحة العالمية(WHO) إلى أن “ 80 ٪ من سكان العالم يستخدمون حالياً الأعشاب كعلاج طبي أولي لرخص ثمنه وفاعليته دون مخاوف كالأدوية الكيميائية”، وأن “حوالي 25 ٪ من الأدوية الحديثة المستخدمة في الولايات المتحدة الأمريكية تحتوي بالفعل على الأعشاب لكن الطب البديل أو التكميلي ليس عشوائياً حيث يقول د/ خليل السلامي أخصائي باطنية: هناك دراسات وأبحاث لاختبار الفاعلية الدوائية للأعشاب وبإشراف صيادلة وأطباء متخصصين وشركات دواء عالمية وليس كما يحدث من عشوائية خلط كوكتيل أعشاب وبلا مقادير بأدوية مهدئة ونقعها ليالي محدثة تفاعلات كيميائية قد تكون خطيرة بل وقاتلة كما أن بعض النباتات الطبية سامّة ولها آثارها الجانبية، فمثلا جوزة الطيب التي تستخدم في بعض المأكولات كالأرز لتحسين المذاق سامّة إن زاد تركيزها”.
حسم جدال
من جهته يقول الكاتب والباحث في الفكر الإسلامي عبدالله القيسي: انتشرت عيادات ومراكز العلاج بالقرآن والأعشاب في حين أن عدد المصحات النفسية بل والمستشفيات والعيادات الطبية لا يكاد يذكر .. وبالتأكيد لن نقارن أنفسنا ببلدان تتحدث منذ عقود عن أهمية وجود طبيب في كل حي.
وعن رأيه في عيادات التداوي بكتاب الله قال: القرآن دواء فالله عز وجل يقول: “ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا “ لكن ذلك لا يعني أن القرآن شفاء لكل الأمراض العضوية والنفسية بل شفاء روحي لما في الصدور من شك وحيرة وعمى عن الحق وما يدور في الصدور من أسئلة عن الإنسان والكون والحياة بدليل قوله تعالى : “ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ “.
تساؤلات عقلانية
يضيف القيسي: الأمر مقيدٌ بالعقل أيضاً ، فهل دواء من التهبت عنده الزائدة الدودية أو شج رأسه أن نقرأ عليه قرآناً! كما أننا لم نسمع أن صحابياً أو تابعياً فتح عيادة أو اشتهر عنه علاج الناس بالقرآن وإنما كانوا يتداوون عند من اشتهر عنهم الطب، والنبي كان يتداوى عند الحارث بن كلده الثقفي.
موضحاً أن الاطمئنان النفسي هو إحدى نتائج اطمئنان القلب بالإيمان، ولكن الاضطرابات النفسية الذهانية لا تفرق بين قوي الإيمان وضعيفه ، فهي كالأمراض العضوية تصيب أي إنسان سواء كان متديناً أو غير متدين، وهل الشفاء مقترن بالقرآن ذاته أم بالشيخ ؟ لماذا لا نسمع المريض تسجيلات بصوت أكبر قراء العالم الإسلامي ؟ ولماذا يضرب الشيوخ المرضى ويضغطون على أماكن في الرقبة ويستخدمون الكهرباء والماء الذي يزعمون أنه مقروء عليه؟ وقد اكتشف بعض الأطباء النفسيين أن هؤلاء الشيوخ يضعون فيها كبسولات من أدوية الأمراض النفسية ثم يدعون أنه مؤثر بفعل قراءة القرآن عليه! وهل كل من يذهب لأولئك الشيوخ يتعافى؟ وماذا سنقول إن ذهبنا بشخص مريض وقرأ عليه الشيخ أو سمع القرآن فلم يتعاف؟ هل نشك في قدرة القرآن العلاجية؟ كما أن هناك شعوباً تعالج بالإنجيل وبالتوراة ، وفي كل شعب بحسب معتقداته، وكل أولئك يتحدثون عن وجود تأثير ما.
توهم العلاج
ويفسر الأطباء ذلك بأن الدواء والإجراء العلاجي الوهمي الذي يقدم للمريض على أنه علاج حقيقي قادر على إحداث تأثير نوعاً ما ، فقد يعطي الطبيب مريضاً حبيبات من السكر أو النشا في كبسولات على أنها حبوب علاجية ، وقد يجري له إجراء جراحيا زائفا أو علاجا نفسيا زائفا، وهنا قد يكون مجرد إحساس ذاتي وهمي وربما يحدث ذلك تحسناً واضحاً نفسياً وجسدياً لكنهم أكدوا أن حدوث ذلك نادر، ويتطلب ظروفاً مساندة.
ضد الشريعة
واختتم القيسي كلامه بالتأكيد على أن ما يحدث من استغلال وخداع للبسطاء يندرج تحت أكل أموال الناس بالباطل، وأن الإسلام شرع لنا أن نذهب في كل أمر إلى خبرائه لنسألهم عنه، ونستفتيهم فيه، استجابة لقوله تعالى : “ فاسأل به خبيرا “ وقوله: “ ولا ينبئك مثل خبير “ وأهل الاختصاص في هذا الموضوع هم الأطباء النفسيون، الذين قالوا إن أغلب المصابين بالإضطرابات النفسية لجأوا للمشعوذين أو المعالجين بالقرآن والعسل والخلطات والأعشاب قبل المجيء لعيادات الطب النفسي ما تسبب في تدهور حالتهم النفسية مع وجود آثار عنف على الجسد ، لافتين إلى أن الطب النفسي لا يضمن الشفاء لكن يمكنه السيطرة على أعراض المرض بطرق علمية وإنسانية.
وفي دراسة إحصائية لمؤسسة التنمية والإرشاد الأسري يوليو 2017م ذكرت أن “195 شخصاً من كل ألف مواطن يعانون من ضغوط واضطرابات نفسية حادة”.
ختاماً:
متى يعي من يعيشون في الماضي أن ما مثّل علاجاً قبل قرون لم يعد مقبولاً طبياً وإنسانياً بل بات في القانون جريمة شروع في القتل كتخدير المريض بضرب الرأس ليغيب عن الوعي عند إجراء العمليات الجراحية، وشطر بطن الأم طولياً لإخراج الجنين ، وأيُّ فائدة تُرجى من حرق الجلد بحديد تعرض للنار أو خروج الدم من أماكن متفرقة من الجسد على اعتبارها معالجات أكثر شيوعاً؟!!.
هذه أوهام تداوي بحسب الأطباء فحتى سحب الدم لا يفيد المريض إلا في حالات نادرة وبطرق لا تسبب وجعاً ولا تحدث تعفناً بكتيرياً وبكميات يحددها الأطباء وفقاً لشروط بل أن العلم يكتشف طرقاً علاجية في قمة الإنسانية والفاعلية الدوائية.
متى يدرك ضحايا الخرافات والفقر أن الأجداد قد لجأوا قبل قرون لتجارب تناول أوراق الشجر من باب “لعل وعسى” تنقذ حياة إنسان أو تداوي وجعاً؟ لكن هذا لا يعني أن نتداوى في زمن العلم بالتخمين والتنجيم والتواكل؟!.
ليس هناك جن يسكنون بشراً بل هم مصابون بأعراض أمراض عضوية ونفسية تستوجب علاجاً من طبيب وقرباً من الله، وتناول الأعشاب فقط التي أثبت العلم فاعليتها الدوائية والوقائية وبكميات مسموح بها، وبعد استشارة المريض للطبيب المعالج.

قد يعجبك ايضا