الأوراق النقدية وزكاتها

 

العلامة/عبدالرحمن شمس الدين
حقيقة الورق النقدي
كان الناس في بداية الحياة البشرية يتبادلون الأشياء بالمقايضة وهي معاوضة عرض بعرض، أو مبادلة مال بمال كلاهما من غير النقود، ثم تركوا ذلك لما فيه من صعوبات واختاروا بعض السلع لتكون أثماناً لمعظم عقود المبادلة مما تشتد الحاجة إليها كالمواد الغذائية والجلود، ثم انصرفوا عن ذلك لحاجتها للنقل والحمل، فبحثوا عما هو أخف من تلك السلع، فكان أن تعاملوا بالنقدين –الذهب والفضة- فصارت هي الأثمان، ثم سبكت فصارت قطعاً متساوية حجماً ووزناً وختمت بما يدل على سلامتها، ثم إن الناس –لاسيما التجار منهم- أصبحوا يودعون تلك النقود الذهبية والفضية عند الصيارفة والصاغة خوفاً عليها من السرقة ويأخذون وثائق وإيصالات بإيداعها، فلما ازدادت ثقة الناس بهؤلاء الصيارفة صارت هذه الإيصالات تستعمل في دفع الثمن عند المبايعات، وكانت هذه بداية استعمال الورق النقدي، فلم تكن لها صورة رسمية ولا سلطة تلزم الناس بقبولها، ثم لمّا كثر تداول تلك الإيصالات تطورت تلك الأوراق إلى صورة رسمية تسمى (البنكنوت) وكانت مغطاة بالذهب غطاءً كاملاً، وكان البنك يلتزم بألا يصدر من الأوراق إلا بقدر ما عنده من ذهب، كما جعلتها الدول ثمناً قانونياً، وألزم الناس بقبولها عام 1254هـ 1833م، ثم لمّا احتاجت الدول للنقود طبعت كميات كبيرة منها تفوق ما عندها من الذهب وراجت عند الناس لثقتهم بأن مصدرها يستطيع تحويلها إلى ذهب، إلا أن تلك الأوراق صارت أضعاف مقدار الذهب الموجود في البلاد، فشرعت الحكومات بتنفيذ شروط قاسية على من يريد تحويل تلك الأوراق إلى ذهب، وفي سنة 1325هـ 1931م منعت الحكومة البريطانية من تحويل الأوراق إلى الذهب إطلاقاً، وألزمت الناس بقبول تلك الأوراق بديلاً للذهب، ثم تبعتها أمريكا في عام 1355هـ 1934م إلا أن الدول كانت ملتزمة بتحويل عملتها إلى الذهب عند التعامل مع دولة أخرى وهو ما يسمى (بقاعدة التعامل بالذهب) وقد ظل العمل بتلك القاعدة إلى سنة 1392هـ 1971م حيث نقضت أمريكا تلك الاتفاقية التي جعلت الدولار هو المعيار النقدي الدولي لكل عملات العالم، حيث تعهدت أمريكا بموجب تلك الاتفاقية وأمام دول العالم بأنها تمتلك غطاء من الذهب يوازي ما تطرحه من دولارات.
وتنص الاتفاقية على أن من يسلم أمريكا (35) دولاراً تسلمه أمريكا أوقية من الذهب، أي أنك إذا ذهبت إلى البنك المركزي الأمريكي بإمكانك استبدال (35) دولاراً بأونصة من الذهب، وأن الولايات المتحدة الأمريكية تضمن لك ذلك.
وحينها صار الدولار يسمى عملة صعبة، واكتسب ثقة دولية، وذلك لاطمئنان الدول لوجود تغطيته له من الذهب، وجمعت الدول في خزائنها أكبر قدر من الدولارات على أمل تحويل قيمتها إلى الذهب في أي وقت، واستمر الوضع على هذا الحال زمناً حتى خرج الرئيس نيكسون في السبعينيات على العالم فجأة في مشهد لا يتصوره أحد حتى في أفلام الخيال العلمي ليصدم كل سكان الكرة الأرضية جميعاً بأن الولايات المتحدة لن تسلم حاملي الدولار ما يقابله من ذهب، وليكتشف العالم أن أمريكا كانت تطبع الدولارات بعيداً عن وجود غطاء من الذهب وأنها اشترت ثروات الشعوب وامتلكت ثروات العالم بحفنة أوراق خضراء لا غطاء ذهبي لها، أي أن الدولارات ببساطة عبارة عن أوراق تطبعها الماكينات الأمريكية ثم تحدد قيمة الورقة بالرقم الذي ستكتبه عليها في 10 أو 100 أو 500 دولار، بينما الثلاث ورقات هن نفس القيمة والخامة؛ فقط اختلف الرقم المطبوع.
أعلن نيكسون حينها أن الدولار سَيُعوَّم، أي ينزل في السوق تحت المضاربة وسعر صرفه سيحدده العرض والطلب بدعوى أن الدولار قوي بسمعة أمريكا واقتصادها، وكأن هذه القوة الاقتصادية ليست مستمدة من تلك الخدعة الكبرى التي استغفل بها العالم، فلم تتمكن أي دولة من الاعتراض أو إعلان رفض هذا النظام النقدي الجديد لأن هذا الاعتراض سيعني حينها أن كل ما خزنته هذه الدول من مليارات الدولارات في بنوكها سيصبح ورقاً بلا قيمة، وهي نتيجة أكثر كارثية مما أعلنه نيكسون، وسميت هذه الحادثة الكبيرة عالمياً صدمة نيكسون (Nixon Shock)، ويكفيك أن تكتب صدمة نيكسون في محركات البحث لتكتشف أنها حادثة كتب عنها آلاف الصفحات والتحليلات والدراسات ولكنها مغيبة عن الشعوب.
وبهذا قضي على آخر شكل من أشكال دعم الأوراق النقدية بالذهب(1).
وإزاء تلك التغيرات المرحلية للنقود الورقية نشأ خلاف بين فقهاء العصر في تكييفها الفقهي وذلك على خمسة أقوال:-
القول الأول: إن الأوراق النقدية عرض من العروض لها ما للعروض من أحكام، وليس لها صفة الثمنية وإنما هي بمنزلة السلع والعروض وهو قول شيخنا العلامة الكبير مجد الدين بن محمد المؤيدي رضوان الله عليه عندما قال: العملة الورقية إن كان المقصود بها عند التملك لها التجارة فلا إشكال في وجوب الزكاة فيها كسائر أموال التجارة، وإن لم يكن المقصود بها إلا القنية للحاجة إن عرضت كالتزويج والنفقة وغير ذلك فهذا محط النظر، والمختار أنها إن لم يقصد بها التجارة عند التملك لها بالاختيار فلا تجب فيها الزكاة كسائر العروض من البنادق، والسيوف، والأسلحة، والسيارات الثمينة، والدور، والرقيق، وغير ذلك مما عفا عنه الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَهُ وَسَلَّمَ.
القول الثاني: أن الأوراق النقدية سند بدين على مصدرها ويمثل هذا الدين الرقم المكتوب عليها، لأن وجوب تغطيتها بالذهب والفضة مما يدل على أنهما المقصودان وإنما الأوراق سند لهما.
القول الثالث: أن الأوراق النقدية كالفلوس في طروء الثمنية عليها لأن الأوراق النقدية عملة رائجة تُقوَّم بها الأشياء، وليست ذهباً ولا فضة، وأقرب الأشياء إليها الفلوس فكلاهما نقد اصطلاحي فتلحق بهما.
القول الرابع: الأوراق النقدية بدل عن الذهب والفضة تقوم مقامها؛ لأن الأوراق النقدية تكسب قيمتها مما استندت إليه من غطاء الذهب فهي بدل عما استعيض بها عنه، وهو الذهب والفضة، وللبدل حكم المبدل، ويؤيد ذلك أنها إذا زالت عنها الثمنية أصبحت مجرد قصاصات ورق لا تساوي شيئاً.
القول الخامس والأخير: أن الأوراق النقدية نقد مستقل قائم بذاته يجري عليه ما يجري على الذهب والفضة من أحكام نقدية، ويعتبر كل نوع جنساً مستقلاً لاشتمال النقود الورقية على وظائف النقود وذلك أنها مقاييس للقيم وموجب للإبراء ومستودع للثروة يمكن اختزانه عند الحاجة، وثقة الناس الكبيرة في التعامل بها لقانونيتها وحماية الدولة لها، فليست الصفة النقدية مختصة بالذهب والفضة بل هي ثابتة لكل ما يتخذه الناس نقوداً ويؤدي وظائف النقود ومن ذلك تلك الأوراق.
وربما كان الخلاف في أمر هذه الأوراق مقبولاً في بدء استعمالها وعدم اطمئنان الجمهور إليها، شأن كل جديد، أما الآن فالوضع قد تغير تماماً، فلقد أصبحت هذه الأوراق النقدية تحقق داخل كل دولة ما تحققه النقود المعدنية، وينظر المجتمع إليها نظرته إلى تلك، إنها تدفع مهراً، فتستباح بها الفروج شرعاً دون أي اعتراض، وتدفع دية في القتل الخطأ فتبرأ ذمة القاتل، ويرضى أولياء المقتول، وتسرق فيستحق سارقها عقوبة السرقة بلا مراء من أحد، وتدفع ثمناً، فتنقل ملكية السلعة إلى دافعها بلا جدال، وتدفع مضاربة، وتدفع أجراً للجهد البشري، فلا يمتنع عامل أو موظف من أخذها جزاء على عمله، وتدخر، وتملك، ويعد مالكها غنياً بقدر ما يملك منها، وكلما كثرت في يده عظم غناه عند الناس وعند نفسه، ومعنى هذا كله:- أن لها وظائف النقود الشرعية وأهميتها ونظرة المجتمع إليها.
أليس كل الناس يسعون إلى تحصيلها جاهدين؟ أليس ملاكها يعدونها نعمة يجب أن تشكر؟ أليس الفقراء يتطلعون إليها، ويسيل لعابهم شوقاً إليها؟ أليسوا يفرحون بها إذا أعطوا القليل منها؟
ونختم هذه المسألة بما ذكره بعض الاقتصاديين(2): أنه يمكن القول بأن النقود هي كل ما يستعمل مقياساً للقيم وواسطة للتبادل، وأداة للادخار، فأي شيء يؤدي إلى هذه الوظيفة يعتبر نقوداً، بصرف النظر عن المادة المصنوع منها، وبصرف النظر عن الكيفية التي أصبح بها وسيلة التعامل في مبدأ الأمر، فما دامت هناك مادة يقبلها كل المنتجين في مجتمع ما للمبادلة نظير ما يبيعون فهذه المادة نقود.
نصاب الورق النقدي
المقصود هنا هو معرفة نصاب زكاتها لاسيما مع عدم ورود نص خاص به؛ لحدوث تلك الأوراق بعد زمن التشريع، لكن لما كان المقصود من هذه الأوراق النقدية ماليتها أي قيمتها التبادلية، لا أعيانها، فإن المعتبر في نصابها قيمتها، وإنما يعرف ذلك بتقويمها بالنقدين –الذهب والفضة- على خلاف بين العلماء المعاصرين في المعتبر منها في تقويم الأوراق النقدية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن نصاب الأوراق النقدية ببلوغها نصاب الفضة لأن التقدير بالفضة مجمع عليه لثبوت نصاب الفضة بالأحاديث الصحيحة، وهو أنفع للفقراء؛ لأن نصاب الفضة أقل من نصاب الذهب.
القول الثاني: إن نصاب الأوراق النقدية ببلوغها نصاب الذهب لأن قيمة الذهب ثابتة لا تتغير لثبات وزنه بخلاف الفضة فهي تتفاوت، كما أن نصاب الذهب أقرب الأنصباء المذكورة في أموال الزكاة كخمس من الإبل أو أربعين من الغنم ونحو ذلك.
القول الثالث: إن نصاب الأوراق النقدية ببلوغها أدنى النصابين من الذهب أو الفضة، لأن الأدلة الصحيحة جاءت بإثبات النصابين الذهب والفضة، فيكون المعتبر منهما في تقويم النقد الورقي هو الأنفع للفقير وهو الأقل نصاباً، وهذا القول هو الراجح لما تقدم من ثبوت كلا النصابين، ومع التفاوت يجب الأخذ بالأقل منهما، لأنه الأنفع للفقير، والأبرأ لذمة المزكي، وفيه إعمال للنصوص وجمع بين القولين.
وبناءً عليه فإننا نحسب ثمن نصاب الذهب وثمن نصاب الفضة ثم نأخذ بالنصاب الأقل، ونخرج زكاته من الورق النقدي.
مثال ذلك: إذا كان سعر الذهب عشرة ألف للجرام، فنصاب الذهب بالريال اليمني يكون بضرب سعر جرام الذهب بوزن النصاب، فإذا كانت قيمة جرام الذهب عشرة آلاف ريالاً مضروباً في نصاب الذهب وهو (70.6 [جرام) إن كان من عيار (24)، أو (79.5 جرام) إن كان من عيار (21)، أو (88.3 جرام) إن كان من عيار (18) فتكون قيمة نصاب الذهب بالريال اليمني(3) وكذا الحال في الفضة، فإذا كانت قيمة جرام الفضة هي (207) مضروباً في نصاب الفضة من الجرامات وهو (520) جراماً فتكون قيمة جرام الفضة هي (107.640) ريالاً ، فالنصاب في هذه الحالة هو (107.640) ريالاً يمنياً وهو قيمة نصاب الفضة.
وربطنا نصاب الزكاة به لأن قيمته أقل من قيمة نصاب الذهب.
زكاة المال الموضوع في المصارف والبنوك
الأموال المودعة في البنوك لا تخلو من حالتين:
الأولى: أن تكون مودعة في بنوك إسلامية غير متعاملة بالربا فالزكاة واجبة في الأصل والربح معاً حيث تكون الأموال مضاربة، فحيث حال الحول على الأصل وكان نصاباً بنفسه أو بما انضم إليه من نقود في مكان آخر وجبت الزكاة في المال كله أصله وربحه والذي يجب فيه ربع العشر 5/2.
الثانية: أن تكون الأموال مودعة في البنوك الربوية فالزكاة واجبة في أصل المال ولا زكاة على الفائدة الربوية لأنها مال خبيث محرم غير مملوك لصاحبه بل يجب التخلص منه بصرفه في المصالح العامة، ولا يجوز أن يحسب من الزكاة، وهذا النوع من الإيداع يحرم ولو تخلص الشخص فيه من الفائدة الربوية لما في ذلك من إعانة البنك على أكل الربا والتعامل به، والله يقول: (وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ.
مقادير الزكاة
جعل الله قدر الزكاة على حسب التعب في المال الذي تُخرَج منه، فأوجب:-
في الركاز الخمس = 20 %.
وما فيه التعب من طرف واحد وهو ما سقي بلا مؤنة نصف الخمس أي العشر = 10 %.
وما فيه التعب من طرفين البذر والسقي وهو ما سقي بمؤنة ربع الخمس أي نصف العشر = 5 %.
وفيما يكثر فيه التعب والتقلب طول العام كالنقود وأموال التجارة ثمن الخمس أي ربع العشر (2.5 %).
الهوامش:
(1) أحكام أوراق النقود والعملات للقاضي العثماني من بحوث مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد الثالث، ومذكرات في النقود والبنوك، الورق النقدي حقيقته، تأريخيه، قيمته، حكمه، غير صدمة نيكسون.
(2) النظم النقدية والمصرفية، ص29.
(3) سعر الجرام الذهب من عيار (24) يوم الإثنين 7/5/2018م بعشرين ألف وأربعمائة ريال، مضروبة في (70.6) = (1.440.240) ريالاً.
ومن عيار (21) سعر الجرام (17.850) مضروبة في (79.5) = (1.419.075) ريالاً.
ومن عيار (18) سعر الجرام (15.300) مضروبة في (88.3) = (1.350.990) ريالاً.

قد يعجبك ايضا