“السراج المنير”

 

حسن الدبعي

نحن في حضرة البشير النذير والسراج المنير محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم في بهيجة مولده الشريف الذي يصادف يوم 12 ربيع الأول , هذا الميلاد الذي يعتبر ميلاد الحياة للإنسانية , ميلادا لسعادة لم ترها الأرض من قبل, ميلادا للحرية والمساواة وعدم اتخاذ الناس بعضهم بعضاً أربابا من دون الله وميلاد خير من سارت على الأرض قدماه وعلم الهدى والنور طهرت تعاليه الأرض من عبادة الأوثان ومحت عن الإنسانية عار الوثنية وكسرت اللات والعزى ومناه الثالثة الأخرى , وسطر دستوراً جديداً للبشرية قائماً على العدل والتكافل ومحا التفاضل بين الناس وأقام معياراً وحيدا هو التقوى وطاعة الله سبحانه وتعالى, ودافع بثبات عن المستضعفين المستعبدين حتى صار بلال أميرا وصهيب أميراً وعمار بن ياسر من سادة القوم وعظماء التاريخ , وأرسى مداميك الأخوة على أساس أن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ومن خلال هذه المداميك عز المسلمون وسادوا.
هذا النبي العظيم الذي احتل صدارة المشهد منذ أكثر من 1400 سنة إلى أن تقوم الساعة ويشهد له بذلك البار والفاجر بأنه استطاع بناء دولة إسلامية عريضة وجعل من القبائل المتنافرة المتباغضة أمة إسلامية موحدة الهدف والغاية مما جعلها أمة ذات معنى هذا الرسول الأعظم الذي تدين له المرأة بحياتها حيث أنقذها من الدفن بالتراب وهي وليدة لم ترتكب إثماً ولا ذنباً ولم تمتلك من أمر تكوينها شيئاً وغسل بذلك عن الإنسانية أكبر عار لم تمارسه حتى الوحوش من قبل , وأنزلها منزلتها اللائقة بها بعد أن عاشت قروناً قبل مولده الشريف كما فارغاً وسلعة تباع وتشترى وشيئاً من سقط المتاع.
واليوم ونحن نشاهد الأمة الإسلامية على وشط الاحتضار بسبب انشقاقها عن تعاليم هذا النبي العظيم وانجرافها نحو التصادم في ما بينها على أمور دنيوية رخيصة ومطامع لا حدود لها بعيداً عن الإسلام وقيمه السمحاء , نتساءل كم عدد الذين احتفلوا هذا الشهر بذكرى ميلاد الرسول عليه الصلاة والسلام ؟ ستقولون لي مئات الملايين في مشارق الأرض ومغاربها .. وأقول لكم أن الحقيقة غير ذلك لسبب بسيط هو أننا لا نعرف كيف نتذكر , فنحن أمة النسيان التي تحفر أسماءها للذكرى على الجدران وتذيع آيات القرآن يحفظون الآيات ويفهمون معناها عند سماعها لأول مرة.
لا أقول إننا فقدنا الذاكرة ولكننا قنعنا بذاكرة العادة التي تقوم على الحفظ والاسترجاع وزهدنا في ذاكرة المعرفة التي تعتمد على التصور والتخيل وأدراك المعاني الكلية من خبرة الواقع وتجارب التاريخ .. لا أريد أن أصدم من يحتفلون بالذكرى العطرة عن طريق الولائم وبرقيات التهنئة والبيانات وتوزيع الحلوى والمرطبات أثناء الخطب الرنانة أثناء الاحتفال بالمناسبة الشريفة على صاحبها أفضل السلام وأزكى الاعتبار واستعادة وقائع السيرة النبوية وكأنها حدثت بالأمس وكأننا نمنا نومة أهل الكهف طوال أربعة عشر قرنا ونيف حفلت بالأحداث والصراعات وأثمرت فيها العقول مالا يحصى من المؤلفات التي بقى منها الكثير رغم ما أحرقته أسبانيا بعد ضياع الأندلس وما أغرقته جيوش التتار حين أقام هولاكو من كتبنا جسراً على نهر الفرات .
أريد أن نجرب معاً كيف نستفيد من تجاربنا وكيف نستخرج المعاني من الأحداث والقوانين والنظريات والقيم من تراكم الخبرات كما تفعل كل أمة حية لا تعيش على ماضيها وحده لتسترجعه في كل مناسبة وإنما تعيش حاضرها بذاكرة المعرفة .
أليس عجيباً أن ينقسم العالم الإسلامي إلى طوائف متصارعة ودينه دين الوحدة وأن يستشري مرض التعصب والإسلام دين سماحة لا أكراه فيه ولا كهانة يسعى إليها ثم ندعي بعد ذلك أننا فهمنا الإسلام وهضمنا تراثه ولم يبق لنا سوى تطبيقه ..! وتعالوا نجرب ذاكرة المعرفة بدلاً من ذاكرة العادة ونحن نحتفل بمولد نبي الإسلام صلى الله عليه وآله وسلمّ .
إن الإسلام دين حرية ودين للإنسانية كافة ودين يؤمن بالديانات السماوية السابقة عليه ويكملها .. عندما جاء الإسلام كان في الجزيزة العربية بهود من بني قريظة وبني النضير وبني بهدل لاذوا بالجزيرة من الظلم والاضطهاد وكان فيها أيضا اصحاب مذاهب مختلفة فروا إلى الجزيرة العربية من غضب القسطنطينية وثنيون وصابئة يتعبدون حول الكعبة .. وجاء الإسلام ليحرر الإنسانية من الظلم فكان دين الحرية الذي أبطل الوساطة بين الله والإنسان من خلال الأصنام والأوثان .. في أي مكان من الأرض يستطيع أن يكون إماماً , ويستطيع أن يؤدي زكاته حسب تقديره .. وليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى والموعظة السحنة .. يقول سبحانه وتعالى “49يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ” وقال سبحانه وتعالى ” يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا45/33وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا” كما قال سبحانه ” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ”.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدي وحبيبي محمد مادامت السماوات الأرض واجعله شفيعاً لنا يوم لقائك بحق هذا المولد الشريف .

قد يعجبك ايضا