الكتابة لدى كبار الأدباء

بين الضرورة والالتزام والغموض والمغامرة:

 

خليل المعلمي

الكتابة الأدبية والإبداعية أرقى أنواع الكتابة فهي انعكاس لمجريات الحياة على الورق، وهي البوح عن مكنونات النفس البشرية، ومن كاتب إلى آخر تختلف طقوس الكتابة كما تختلف من أديب إلى آخر، يخرج الكاتب ما في جعبته على هيئة نصوص شعرية أو نثرية ينتقد الواقع الذي يعايشه، وقد يرنو إلى المستقبل بشوق ولهفة، وربما تعصف به قصة حب.
الروائي الإيطالي باتريك موديانو الحائز على جائزة نوبل للسلام يرى أن الكتابة تكاد أن تكون عملية جراحية، فالكتابة بالنسبة له وعلى الدوام شأن مقرف، ويقول: كنت في ريعان شبابي لا أكتب إلا في ساعة متأخرة، أما اليوم فالعكس صحيح حيث أفضل أن أتحرر فوراً ودائماً ما أعود من كتاب لآخر إلى بعض العناصر التي سبق أن فكرت فيها قبل خمسة عشر عاماً في صورة تفاصيل صغيرة والتي لم تعالج وقتئذ سوى بطريقة سطحية، إنها تنبثق فجأة مثل أشياء كانت كامنة أصلاً من دون أن أدركها إنها تعاود الظهور مثل لازمات ويشر “موديانو” بأنه قريب من الكتاب الأخير إلا أن الكتاب المثالي بالنسبة له يمكنه أن يتشكل من مقاطع معينة من كل كتاب من كتبه.
ويعتبر الكاتب والروائي اللبناني أمين معلوف إعادة الكتابة جزءاً أساسياً بالنسبة لكتاباته المختلفة ويتحدث عن نفسه بالقول: أنا من الكتاب الذين لا يثقون بالمسودة الأولى فحين أكتب صفحتين أو ثلاث أو أربع أتأمل وأعيد القراءة بكل تأنِّ، وعند إعدادي لكتاب لا أتعب من إعادة القراءة والتصحيح مرات عديدة وحين انتهي أعيد التصحيح مرة أخرى، ولدي طقوس في الكتابه فقد استيقظ من النوم والذهاب إلى مكتبي لتدوين فكرة معينة وقد ابدأ الكتابة في الصباح حتى فترة الثالثة عصراً وحين أشعر بالتعب أتوقف في الحال، وأحياناً أغادر المدينة والإقامة في الريف لعدة أشهر حتى استكمل كتابة عمل ما.
أما الكتابة عند الكاتب والمفكر المغربي عبدالكبير الخطيبي, فهي مغامرة على الدوام لأنه عندما يكتب الرواية يتعدد السرد، فيجد القارئ الحوار المسرحي أو الحكاية وعندما يكتب شعراً تتدفق الصور التي تفكر هي بنفسها، و”الخطيبي” هو مفكر متعدد يعمل بعزلة ويحلل مختلف الثقافات التي تمر بالمغرب ويقرب بين التقاليد والحداثة، الهوية والاختلاف، ومن أهم ما انجزه الخطيبي أنه أعطى لمسألة الكتابة المزدوجة باللغتين مفهوماً جديداً على الصعيدين الجمالي والعملي ودشنها بأعماله “الذاكرة الموشومة” و”الاسم العربي الجريح”، ويرى أن ثمة انسجاماً على طريق الكتابة بين الشكل والمضمون مما جعلته يكتشف الأشياء المكبوتة في المجتمع.
ويقال عن الكاتب والروائي ألبير قصيري أنه لا يكتب كثيراً لأن الكتابة لديه بحسب ما يراها ليست تحريك القلم في الأوراق البيضاء بل ارتعاشة وألم وذاكرة، وعلى الرغم من أنه أمضى قرابة نصف قرن في باريس إلاّ أنه لم يتخل عن الكتابة عن بلده مصر في جميع رواياته، ويبوح أنه يكتب عندما لا يكون عنده شيء أفضل يعمله أي أنه يكتب عندما يشعر بالضجر، يضيف: أكتب لأنني امتلك أشياء معينة أريد قولها ضد هذا العالم وضد فساده وضد البلهاء، وأعرف جيداً أن أعمالي التي لا تتعدى إلا سبعة كتب لا تشكل عملاً كبيراً لكن هذا العمل يجسد حياة بأكملها.
والكتابة لدى الشاعر والمسرحي جورج شحادة هي غموض والإبداع عنده سر من أسرار العالم، ويقول: إذا عرفنا كيف نستخدم الكلمات فإنها قادرة على أن تفعل كل شيء، إنها تخلق الأفكار أيضاً، لكن الأفكار لا تصنع الكلمات.
ويُعرف الكاتب والروائي التركي أورمان باموق الحاصل على جائزة نوبل للآداب في العام 2006م أنه مهووس بالكتابة فهو يكتب بشكل قسري مذكراته الحميمة يوماً بعد يوم، ومنذ أكثر من أربعين عاماً يكتب حول الفن والسياسة وحول دولته تركيا وحول أوجه الاختلاف والتقارب بين الشرق والغرب.
وعن هذا الهوس في الكتابة فقد أنتج باموق عدداً من الروايات أهمها “ثلج” وقدرته على الكتابة في مواضيع عديدة أنقذته من ورطة التنقل بين نيويورك واسطنبول وعدد من الدول التي يقضي فيها أشهر السنة، فهو لا يكتب للشعور بالراحة والاسترخاء ولكن لإنقاذ نفسه كما يقول، وبشكل مختصر يؤكد: الكتابة هي الوسيلة الأفضل لعلاج الاكتئاب التي عثرت عليها في حياتي.
وتركز الكاتبة الفرنسية اللبنانية الأصل “اندريه شديد” أن فكرة الكتابة هي الرغبة في الوجود وذلك من خلال تجاوز الذات والذهاب إلى عالم آخر يتجاوزنا هو الآخر، وتقول: ثمة شيء في الإنسان يتجاوز حدود الإنسان وإلاّ لماذا الإبداع؟ فينبغي أن نكون مخلصين لهذه الفكرة ونستشرف آفاق المستقبل.
وهناك أدباء ليست لديهم طريقة محددة في الكتابة أمثال الكاتب الايطالي “امبرتو ايكو” الذي اتضح له أن العمل الحقيقي في الكتابة يتم في القرية، أما حين يكون في المدينة أو في سفر فيقوم بتدوين الملاحظات والقيام بعملية البحث، فالجني لديه تتم في الحياة الحضرية والكتابة تتم في القرية فهو يمتلك عشرة آلاف كتاب في منزله بالقرية.
وينفي الكاتب الايفواري “أحمدو كوروما” أن تكون كتاباته لدعم نظرية ما أو ايديولوجيا سياسية أو ثورة وإنما يكتب عن الحقائق وعن الأشياء كما هي، كما يكتب عما يشعر به دون أن يتخذ مواقف ايديولوجية، ولعدم قدرته على كتابة المقالات والتعبير عن آرائه بشكل صحيح لجأ “كوروما” إلى كتابة الرواية التي تعبر بالنسبة له عن الضرورة، وهناك أسباب كامنة وراء كتابتها كما يقول فشمس الاستقلال كتبها لأن بعض رفقاه وضعوا في السجن، وهكذا في عدد من أعماله.
ويعتبر الكاتب والروائي المغربي “عبدالحق سرحان” أن الكتابة بالنسبة له التزام لأنها ببساطة تشكل قوة مضادة للسلطة وتشكل خطاباً ضد الخطاب الرسمي الذي يعرف الجميع زيفه، ويؤكد: اعتبر الأدب أداة عمل وليس فقط فناً لا فائدة منه، ولا يمكن أن نكتب أعمالنا الأدبية من أجل الفن فقط ففي سنوات الستينيات كان الالتزام يرتبط بالأدب وعلى الخصوص كتابات سارتر وكامي في فرنسا أي أنهما يكتبان الأدب الملتزم، واعتبرنا أن الالتزام في أدبنا يعتبر ضرورة مطلقة لأن السياسيين في البلدان العربية غير مهيئين لتغيير مجرى الأشياء.

قد يعجبك ايضا